مجالس منتدى قرية المصنعة الرسمى

مجالس منتدى قرية المصنعة الرسمى (http://almasnah.co/index.php)
-   مجلس : (ورقات أدبية) (http://almasnah.co/forumdisplay.php?f=89)
-   -   روحها الموشومة به..( روآية) (http://almasnah.co/showthread.php?t=21478)

كبرياء الحرف 08-02-2010 02:16 PM

حي هادئ جداً وراقٍ ، مساكنه ذات الأسوار العالية تطل على شوارعه بعيون ناعسة ، أحسست أنه سيلفظني بسيارة الأجرة الجربانة التي تحملني .
أتمنى لو أهاتف مها ؛ وحدها كانت تشجعني على زيارة الدكتورة ، كانت متحمسة لرؤية هذه المرأة , وإن يكن بعينيَّ أنا ..
مع المنعطف الأول في الشارع أقبلت ، بعينيها العسليتين وضفيرتها التي تتأرجح بين الأسود والبني ، وتكاد لا تعلن انتماءها صراحة لأحدهما تطل صديقتي القديمة ، تجلس بجواري ، تهمس في أذني حتى لا يسمعنا الهندي ( سائق الأجرة ) : ها أنت تفعلينها أخيراً ، وتزورينها .
- تعرفين يا مها كم تمنيت ذلك .
- وأعرف كم كنت تتهيبينه ، كنت جبانة بما يكفي لتؤجلي الزيارة أربع سنوات .
فيما كنت ألتفت لها مستنكرة لأسألها إن كان هو من علم لسانها أن يصبح أطول مما كان وجدته يقترب ، يمد يده من نافذة السيارة ، يشدها بعيداً ، ويغادر.
أنظر في عينيها ، أحاول إعطاء النظرة فيهما اسماً مناسباً فلا أجد ،كدت أحزن لحالها معه لولا أني خفت أن يكون ذلك مني محاولة للعب دور مثالي دون وجود ما يكفي من جمهور .
الهندي مع ثاني ثنية في الشارع ينعطف بالسيارة يميناً لتطالعنا لوحة عيادة الدكتورة مرحِّبة .
البناية من الخارج لا تشبه تصميم المراكز الطبية في شيء ، جعلتني أقرأ اللوحة على الجدار أكثر من مرة قبل أن أدفع الباب الموارب .
هدوء المكان يشيع شيئاً كالوهن في أعصابي ، زادته موظفة الاستقبال وهي ترسم ابتسامة على وجهها حين رأتني .
لا إرادياً كانت بسمتي المحتشمة تحاول مجتهدة الالتصاق بوجهي ، سألتني عن اسمي فأعطيتها واحداً ارتجلته لساعتي .
في " أرض السواد " لعبد الرحمن منيف كلام عن طبائع البدو ، قال فيه أنهم ( وهم الماكرون فطرةً ) لا يثقون بالغرباء بسهولة ، ربما معه حق ، فقد اقتنعت أن اسمي من أسراري الشخصية التي لا يجوز أن أبوح به لهذه لمجرد أنها تبسمت لي .
في غرفة الانتظار دخل شخص ما بيده ورقة فيها بيانات عني ، ثم أشار بيده إلى أسفل الورقة حيث كُتب بلون أحمر حار " تلقت لفترة ما علاجاً سيكولوجياً "
كرهت الرجل ، لكني لأغيظه وضعت اصبعي بأعلى الورقة عند الاسم ، ثم قلت : أرأيت ..لقد احتطت لذلك ..
حين تبخر الرجل اكتشفت كم هي واسعة غرفة الانتظار ، وفارغة جداً ، وحدي فيها ، أعد المقاعد الشاغرة ، وكل لحظة أُقعد ماجداً على أحدها ، مرة بلحية ومرة دونها .
حين تدعوني الموظفة للدخول أتبعها للأعلى ، ولتخفيف توتري أحاول جعل خطواتي متناغمة مع خطواتها ، في اللحظة التي أنجح فيها تفعلها فتقف ، أحسستها تعمدت ذلك .
بابتسامتها نفسها أشارت بيدها لي أن أدخل ، فلم أمنحها واحدة مماثلة هذه المرة .
أدفع الباب السميك جداً ، وأتذكر أني كنت قرأت أن المعالجين النفسيين يختارون هذه الأبواب المصممة خصيصاً لتعزل الصوت ، أحاول أن أخمن إن كانت الدكتورة ستحملني على ما قد يستدعي كتم صوتي ؟
الظاهر أني جبانة فعلاً كما قالت مها ، فساعة دفعته لم أجرؤ على النظر باتجاه الدكتورة مباشرة ، بصري ينخفض ، وحين أرفعه يتأمل أكثر من شيء في الغرفة قبل أن ينصب عليها ، كنت أخشى اللحظة قدر ما أحببتها .
وجدت أمامي امرأة خمسينية بمعطفٍ أبيض ، متوسطة الطول ، لها شعر أسود كثيف وقصير ، وعينان تبرقان .
تحت بياض معطفها بان اللون البرتقالي ، فتذكرتُني وأنا أصنف صوتها برتقالي النكهة ، أقرر لحظتها كتابة ذلك في سجل يومياتي باعتباره مؤشراً على قوة بصيرتي ، وإشارة خير بأن المرأة التي عرفتها صوتاً ستكون هي وزيادة حين أعرفها جسداً .
تبسمت المرأة واقتربت مني ، ولأول مرة أسمع " هلا يا وسمية " حية مباشرة .
كان السؤال الصعب بعد أحاديث نسائية صغيرة : بم سنبدأ ؟
- لا أعرف يا دكتورة ، جئتك اليوم لأسلمك نفسي ، فانظري أي جزء فيَّ معطوب أكثر لنبدأ به .
تضحك الدكتورة وتشغلني صورتها وهي تتكامل الآن ؛ هل ستجعلني أحبها أكثر أو أقل من السابق ؟

----------------------------------------------------------

- هل هذه إشارة تراجع منك يا أبا بصير ؟!
- لا..لقد بعت الله نفسي ، ولا عودة في ذلك ، لكني فقط تذكرت أهلي ، ما كنت أعتقد أن فراقهم سيكون صعباً هكذا .
- هذا جزء من ثمن الجنة يا رجل ، والباقي كثير ، ادفعه بسرعة حورياتك ينتظرنك .
- توكلنا على الله ، يقولها ثم يتذكر أمراً ما فيهتف بالرجل وهو يستدير : متى نكون هناك ؟
- قبل الفجر سنقلع إلى باكستان ، وبعون الله نصل كابول بعد عصر اليوم التالي .
يربت الرجل على كتفه ، ويقوم ، ثم يتناول ماجد مصحفه الصغير ليكمل التلاوة .

----------------------------------------------------

- ماذا تريدين بالضبط يا وسمية ؟
- في الليلة التي سبقت مجيئنا للرياض كنت أرتب أوراقاً قديمة ، بينها وجدت ظرفاً ما إن تناولته حتى سقطت منه طفلة لم تتجاوز عامها الأول ، عيناها المدورتان المفتوحتان بدهشة بيضاء ، استدارة وجهها ، الشعيرات الخفيفة المنسدلة على رأسها محاوِلةً بجهد خارق ملامسة حواجبها الكثيفة ، ثغرها المرسومة عليه كلمة خاتلتها الكاميرا فالتقطت لها الصورة قبل أن تنطقها ، كلها أثارت فيَّ حنيناً لها لا يوصف .
كانت تلك وسمية الصغيرة المطمورة تحت أنقاض الروح ، أريد أن أُخرجها يا دكتورة .
من عيني الدكتورة هناء يسيل شيء كالأمومة أحس معه بالراحة فأكمل : حين ارتمت في حجري ذلك اليوم آمنتُ أنها تريدني قدر ما أريدها ، تحتاجني فكيف أستعيدها ؟
- بذات الحنين الذي يتبدى في صوتك الآن ناديها ، وصدقيني ستأتي .
- حقاً يا دكتورة ؟ كيف أفعل ؟
قامت ، اتجهت لغرفة أخرى ، وحين التفتت لتجدني لا أزال في مكاني أشارت بيدها أن تعالي .
أدخلتني غرفة غريبة ، كانت الألوان فيها عجوزاً متكدرة المزاج ( هكذا أحسستها ) قدرت أن مراجعي الدكتورة المرضى قد تؤذيهم الألوان الفرائحية إن هي حاصرتهم وهم يبوحون بأوجاعهم هنا ، لذا انتقت لهم ما يشبههم .
تقعدني على أريكة بنية الوجه ، وأسألها إن كان الديكور والأثاث في المكان معداً بما يناسب ذوقها هي أم هو مناسب للمراجعين ؟
- بالطبع هو معد على أسس علمية مدروسة .
فكرت أنه بإمكاني الآن براحة إخبارها أني لم أحبه ، لكنها عاجلتني بطلبها أن أستلقي على الأريكة لتبدأ العمل .
بعد خطوات الاسترخاء جعلتني الدكتورة أتذكر ملامح الصغيرة بأكبر وضوح ممكن ، طلبت مني أن أناديها ، وبين يدي وضعتها ، كانت صغيرة ناعمة ، قالت لي : هاهي وسمية الصغيرة ، إنها ابنتكِ الآن ، ماذا تريدين أن تفعلي معها ؟
ضممتها لصدري ، تحسست جبينها بإصبعي ، ثم بللت وجهها الذي أُحب بماء عيني .
كنت لا أزال أغلق عيني ، وأتأمل صورتها في ذهني ، الدموع جلتها ، أزالت قشرة الرماد عن وجهها ، خداها اصطبغا بذات الحمرة القديمة ، فستانها ارتشف بعض الماء أيضاً فسرت فيه الروح ، عادت له زرقته السماوية .
حين طلبت مني الدكتورة أن أستيقظ كنت لا أزال أبكي ، لكن داخلي كان هادئاً جداً ، كانت أفكاري – كما أطفالٍ صغار – أرهقهم اللعب طويلاً فناموا .

-------------------------------------------------------

- هذه البنت ستصيبني بالجنون ؛ في الوقت الذي نستمتع فيه بوقتنا تتجه للمكتبات لتزيد أكوامها في غرفتها .
- أمي ..وسمية أيضاً تستمتع بوقتها على طريقتها ، نفس السعادة التي تجدينها في السوق تجدها في المكتبة ، ورضاك عن حاجة جديدة تشترينها رضاها عن كتابٍ تحصل عليه أكبر .
- تقولين ذلك فقط حتى لا أغضب ، أنت لا تفعلين مثلها ، ليتها مثلك أو مثلي .
- أمي الله خلقنا مختلفين ، ويجب أن نقبل ذلك ، ولو ضغطت عليها فكل ما ستحصلين عليه هو جعلها تتألم .
- أهي قالت لك أني أضغط عليها يا ريم ؟!
- لا يا أمي ، أبداً ، لكني فقط أردت أن أوضح لك الصورة .
- الأمر واضح ، ابنتي الكبرى تخجلني دائماً ، لا حضور لها في أوساط النساء ، ولا تريد الزواج مجدداً ولا العودة لزوجها السابق ، ولا تتصرف كما تتصرف النساء . أحياناً أحس أن الله جعلها عقوبة لي على ذنب لا أعرفه ، أو ابتلاء من عنده .

----------------------------------------------------

أخرج من عندها خفيفة جداً ، تدنو مني سيارة أجرة فأتجاهلها وأتابع طريقي ، أريد أن أمشي طويلاً وأنا بيضاء نقية ، الكثير من الوجع بددته هذه المرأة العظيمة الليلة .
أتأمل الدمية الصغيرة ( رمز وسمية الطفلة ) التي أهدتنيها ، أتلفت يميناً وشمالاً ، وحين أتأكد أن ليس في الشارع أحد ، أضمها لصدري مجدداً .
أريد أن أكتب شعراً ، أو أسمع شعراً ، أريد أن أغني ، أن أخبر الدنيا أني طاهرة وخفيفة وسعيدة .
حين انعطف بي الشارع الذي فيه عيادة الدكتورة بدا لي الآخر أباً يفتح ذراعيه لي وحدي ، لم أستطع مقاومته ، ركضت على صدره قليلاً ، ولما سمعت صوت سيارة من بعيد همست لوسمية الصغيرة التي مازالت تضحك أطلب منها أن تسكت ، ثم توقفنا عن السير .
أسلمتني آخر عطفة في الحي إلى شارع سريع ، وسرعان ما لمحتني سيارة أجرة أخرى .
أتأكد أن الصغيرة مرتاحة في جلستها بجواري في السيارة ، ثم أتناول جوالي من الحقيبة ، وأكتب : " أنا راضية عن نفسي لأني ذهبت للدكتورة ، وأريد أن أكافئني فماذا أفعل ؟ "
أرسلتها لعلياء ثم لريم ، جاء رد ريم سريعاً : كافئيها بأن تعودي لأهلي بسرعة ، اتصلت بهم قبل قليل ، أمي متكدرة وأبي يسأل عن المكتبة التي مازالت مفتوحة حتى هذا الوقت لأجل خاطرك ؟!
الغريب أني لم أتضايق ، بل أني شعرت بالامتنان لها ، بعثت لها رسالة أخرى أشكرها بها لأنها ذكرتني بكذبتي التي كدت أنساها وأرسلت لها قُبلة أيضاً .
بعد قليل جاء رد علياء : كافئي نفسك بأن تتصلي بي ..
أحب هذا الغرور فيها ، يشبه غروري كثيراً .
أرسلت لها : يبدو أنك لم تفهميني ، أريد أن أكافئ نفسي لا أن أكافئك أنت .
بعدها بدقيقة هاتفتني : ماذا فعلت معها ؟ بسرعة خبريني ..
- هذه المرأة رائعة يا علياء ، هذا كل ما أستطيع أن أقوله الآن ، والبقية في الحلقة القادمة .

-------------------------------------------------------

في الصباح التالي أنهض من النوم ناسية كلمات أبي اللائمة التي نمت عليها ، ووجه أمي المستاء ، متذكرةً الحلم القصير الغريب ، أسجله حتى لا أنساه " لوحة فيها رجل له شعر أحمر " ثم أضع الرجل الأحمر في حقيبتي بانتظار لقاء الدكتورة في الليل .
هي قالت أني سأرى حلماً مهماً ، وأود لو أتصل بها الآن لأسألها إن كان هذا هو المطلوب أو أعود للنوم لأجلب واحداً أفضل .
- أحمر ؟ أهذا كل شيء ؟!
- هو كل شيء ..
- وهذا ما ستقولينه لها ؟!
- هذا ما رأيت يا ريم .
- سأحترمها جداً لو طردتك الليلة ، أما إن هللت للحلم ، واستولدته دلالات لا ارتباط بينها وبينه سأتأكد تماماً أن هذه المرأة تسرق نقودك برضاك .
أسكت حين يمر أبي بقربي ، وأتذكر أن علي ( بعد الظهر ) إعداد كذبة جديدة لتبرير غيابي ليلة أخرى عن المجموعة . ريم التي لم تشأ إغلاق الهاتف حتى تثق أنها أفسدت مزاجي الرائق بشكل تام ، تسألني : هل اتصل بك ماجد ؟
- لا ، لماذا ؟
- لا أدري ..أنا قلقة ، قال أنه سيذهب للعمرة ، ولن يغيب أكثر من أسبوع ، وأنه سيوافيكم في الرياض أو يعود للديرة ، وها قد مرت عشرة أيام لا اتصل فيها ولا عاد .
- لا أهتم ، مادام رفض الذهاب معي للدكتورة فليذهب حيث شاء .
- أعرف أنك تهتمين جداً ، ولكنك تحاولين ألا تظهري ذلك .
- ليس صحيحاً .. هو اختار طريقه وهو من يجب أن يقلق على نفسه .

----------------------------------------------------------

- كنت في الليلة السابقة أفكر في علاقتي بأمي باعتبارها الموضوع الأهم الذي يجب أن أبدأ به معك ، وعرض التلفاز برنامجاً عن فنان تشكيلي فرنسي يقيم معرضه الأول ، شدتني بعض لوحاته ، ونمت بعد البرنامج فجاء هذا الحلم .
الدكتورة تتأملني بصمت ، وأنا ألمع أعطاف حلمي ليبدو أكثر أهمية ، أقول لها : تذكرت ، قد يكون لهذا علاقة بحكاية قديمة .
أقولها وأسكت ، ويبين من اعتدال الدكتورة في جلستها واتجاهها بالكامل لي أنها بدت تهتم فعلاً .
- آها ؟
- كانت زميلة لي تحدثني يوماً عن أخطاء طالباتها الطريفة في الاختبارات ( كانت معلمة تاريخ) قالت لي أنها درست الصغيرات سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ، فروت لهن من صفاته أنه أبيض مشرب بحمرة ، قالت أن إحداهن في الاختبار التالي كتبت أنه أبيض وشواربه حُمرٌ .
- هذه هي ، فقد نمت وعلاقتك بأمك ببالك ، فجاء الحلم ليقول أن هذه العلاقة فيها لبس ، سوء فهم أو سوء إفهام أو سوء تعبير .
- أو هي كل ما قلت يا دكتورة .
- ولم ذلك كله ؟
- لا أعرف ، فقط أتذكر أني مذ بدأت أستبطن مشاعري اكتشفت أن في خاطري شيئاً سيئاً فيما يخصها .
- يجب أن نصحح هذا ، العلاقة بالأم هي الأهم على الإطلاق ، ودون سلامتها لا تتحقق الصحة النفسية .

كبرياء الحرف 08-02-2010 02:17 PM

حصلت تطورات في حكاية صاحبتنا هدى ..
هدى الاسم الحركي لرجل لا لامرأة ، قالته علياء ذات يوم والتصق بصاحبه ، كانت للمرة الأولى تحكي لي عن خال صديقتها الذي يود الارتباط بها ، ثم اتفقنا أن تكمل الحكاية لي على الهاتف .
في الليل وأثناء المكالمة صارت تشير إليه بصيفة الغائب ففهمت أن هناك أحداً بجوارها وهي تكلمني ، آثرت أن أشاكسها فافتعلت غباء فريداً وأنا أسألها من تقصد حين تتكلم بشكل مبهم ؟
( كانت تخبرني أنه في الديرة بعد غيبة ست سنين ) وحين أرهقتها قالت : صاحبتنا هدى ، ساعتها ضحكت بقوة ، وغضبت هي ، لكننا صرنا دوماً حين نتحدث عنه ( بحضور أحد أو وحدنا ) نتحدث عن هدى .
- بشري ماذا حصل ؟
- بنت أخته كلمتني اليوم ( وهي من فترة طويلة ما اتصلت ) سلَّمت وتكلمت في أمور عامة كثيرة ، وذكرت عرضاً أن خالها هنا ، ولم تنس سؤالي إن كنت قد تزوجت أو على وشك ذلك .
- يريد أن يتقدم ، ويفضل أن يكون واثقاً قبل أن يفعلها ، هل يعني هذا أني سأراك زوجة قريباً ؟
- وسمية أشم في كلامك رائحة رضا بالموضوع ، وأعرفك دوماً ناقمة على مؤسسة الزواج !!
- أنا أكره المرأة التي تتزوج فيمتص الرجل روحها ، أكره المرأة التي تصبح بعد الزواج شبح امرأة ، كائناً صالحاً للإنجاب والمعاشرة فقط ، ألا تلاحظين أن بريقاً في أعين بناتنا ينطفي بمجرد الزواج .
- أنت قلتها من قبل ؛ الزواج عندهن هدف في حد ذاته فإذا تحقق صار من الصعب خلق واحد جديد .
- وهذا ما يجعلني أنقم على الزواج ، ولكني أحسب أنك مختلفة حتى في هذا ، وأنك ستستطيعين أن تظلي كما أنت جميلة كيوم عرفتك ، بروح خضراء ، وقدرة على الحُلم .
- إن شاء الله .
لا أدري لم أحسست في كلمتها هذه شيئاً من خوف ، تجاهلته وباركت لها ، قالت : لم يحصل شيء بعد .
- سيحصل غداً ، ألن يكون ردك الموافقة ؟
- لا أعرف ، ومع أني تحدثت معك طويلاً في الموضوع إلا أني لست واثقة من مشاعري تجاه هذا الرجل .
- لكني واثقة من مشاعري أنا ، منذ المرة الأولى التي تحدثت فيها عنه كان واضحاً أنه يعني لك الكثير .
- وسمية أنت تعرفين ..أنا أحببت فكرة أن رجلاً مشدود إلي ، وأنه ظل كل هذه السنوات ( كما تروي ابنة أخته ) ينتظر فرصة مناسبة ليتقدم لي ، لكن هل هذا كاف لأرتبط به ؟
أعرف أن كلامها وجيه جداً ، لذا تعقلت أكثر وأنا أقول : ألا تعرفين عنه شيئاً يجعلك تقررين بقناعة الموافقة أو..؟
- أعرف رقم جواله . تقولها وتضحك ، فأبادرها أنا : جميل جداً ، أعطني إياه لنتأكد من أخلاقه قبل كل شيء .
- هل أنا مجنونة لأفعل ؟! ما زلت أذكر ما فعلت مع نواف ، ولن يكون هذا التالي .

-----------------------------------------------------

- استرخي ثم عودي للخلف ..سيري رجوعاً لبيتكم القديم ..بحثاً عن البداية..بحثاً عن الأساس..
على أريكتها / في طريقي كانت صور كثيرة تصطف على الجانبين كلافتات إرشادية .. بعضٌ كثيرٌ من أخطاء أمي التي ظننتُ أني نسيتها : ضربها ، تفضيلها ريماً عليّ،كل كلمة قالتها لي في طفولتي فأوجعتني .
أعود مروراً بحديقة البلدية فالسوق..عبر دهاليز حينا القديم وصولاً لبيتنا ، وكما أوصتْ الدكتورة أصغُرُ في كل خطوة .
وصلتُ باب بيتنا الخشبي الكبير. استقبلتني نقوشه مهللة ، لكني فوجئتُ إذ لم أقف عنده..ركضتُ . تجاوزتُه ..ظننت أني سأذهب لبيت أخوالي لكني قبل منعطف المحكمة اتجهت يميناً في خط مستقيم حتى تراءت لي بيوت أعمام أمي . تطل من خلفها عمامة النخيل المسودّة ..
وقفت مع صغارٍ مثلي نلعب . اثنتان من البنات تتحرشان بي ، تسبانني فأسبهما ..تضرباني و أحاول جهدي ..
من وراء أحد الجدران تبزغ أمي يسبقها صغير ما أذكر شكله يشير لي بسبابته " ها هي "
أفرح بمرآها ..استمد منها قوة ..تكاد ترجح كفتي بعد أن مرغت البنتان وجهي في الرمل ..
تشدني بيدي لتبعدني فأفهم أنها لن تنتصر لي ، لا أطاوعها ..تحاول مرة أخرى ثم تشدني بشعري .
البنتان تبتعدان .. تتفرجان..يستمر غضبي فأصرخ ..أتفلّت..تضربني أمامهما وأمام كل المتفرجين ، تضحكان ، ويستمر ضحكهما في أذني حتى نصل المنـزل ، ويظل يخمش أذني في فراشي حتى أنام .
أنهض مثقلة بوجع الضرب ووجع السخرية ، مثقلة بروح سوداء تكره أمي..
الدكتورة تمسح رأسي ، تضع يدها على صدري الذي تنتفض فيه عبرات طفلة : عليك أن تتطهري من هذا كله الآن .
- كيف ؟
تعيدني للمكان ، أعيش الحادثة كاملة حتى الضرب وآلامه ، رائحة الغبار في أنفي وهن يفركن وجهي في الأرض .. صوت أمي المتسائل : أين هي ؟
فرحتي ، ثم غضبي وهي تنتزعني من المكان دون أن تضربهن ، مقاومتي ، ألم رأسي وهي تشد ضفائري .
تتوتر عضلات وجهي ، أريد أن أصرخ ، فتشجعني الدكتورة ، أصرخ ، وأصرخ ، وحين يخفت صوتي قليلاً تضع منديلاً في يدي .
- بهذا المنديل الذي تقبضين عليه في يدك امسحي الشاشة التي عليها المشهد حتى تنظف تماماً .
يروعني الأحمر الكثير الذي يسيل من المنديل ، أعرف أنه كما قالت الدكتورة غضب ، أحاول ألا يجعلني منظره أفقد استرخائي ،ويأتي صوتها سنداً :تحت أقدامك الآن أرضٌ مروية بالماء وخصبة . هل تحسين برودتها في رجليك ؟
أومئ برأسي فتكمل : احفري حفرة صغيرة ، وادفني المنديل فيها ، ثم امضي .

-----------------------------------------------------

كبرياء الحرف 08-02-2010 02:18 PM

لماذا ؟
- الدكتورة قالت لي يا علياء أن الأرض رحم ، تعيد إنتاج الأشياء ، وأني بدفني المنديل فيها ستزول المشاعر السلبية التي مسحتها فيه ، وسيعاد لي بمشاعر إيجابية .
- وسمية لا تصدقي ذلك عن نفسك ، أنت أجمل من أن يختزن داخلك سوأة صغيرة كهذه ليشوه علاقتك بأمك .
أنا حتى لا أصدق ما تقولينه عن إحساسك تجاهها ، هذا كله حين أحاول ضمه لصورتك في عيني ترتبك كلها ، لا يمكن أن تكوني هذه التي يصفها لسانك .
حين تبتلع سماعة الهاتف آخر كلمات علياء وهي تودعني تشوشني أسئلتي ، أظل أترصدها ، ثم حين أعجنها في استفهام وحيد أسلمه سجل يومياتي وأنام محاولةً نسيانه .
بعد اليقظة أجد سجل الخبايا ينتظرني فارداً أحشاءه على صفحة البارحة ويواجهني مردداً أحرفي : " هل أحب أمي ؟ ما أصعب السؤال ، ما أبعد الإجابة !"
أهرب منه ، أخرج فيطالعني وجه أمي أتأمله ، لا أدري إن كان يجب أن أفرح أو أحزن لأنها تجهل كل ما في خاطري .
أحياناً كانت تردد أني أحسبها تكرهني ، مرات بعد تعليقات جارحة لي على سلوكها معي ومع سواي من إخواني كانت تحلف أني الأغلى..
مرة بكت..كرهت نفسي و تألمت جداً..وددت لو أحلف لها أني أحبها..أن أبكي مثلها..وددت لو أحضنها لتسكت .
قبل أن أتزوج كانت تردد لي أني لن أعرف ..لن أفهم تماماً إحساسها تجاهي إلا حين أتزوج وأنجب..
مع نادر منذ يومه الأول تلح في السؤال إن كنتُ أحبه وكم أحبه ؟ وهل يسعدني أن يتأذى ؟
نادر هل تعرف أمي ماذا يعني ؟ أنا لم أقل ، فهل لو قلت تفهمني ؟
نادر هذا الـ "من أحشائي طلع.." ليتني أفهم أنا هل أحبه أم لا ؟
الصغير الذي لم أحلم به كما كل الفتيات ، لأن الزواج جاء قبل أن تزهر فيَّ الرغبة في الإنجاب ، قبل حتى أن تتفتق تباشير الأمومة ميلاً للأطفال وشوقاً لملاعبتهم..لمداعبتهم..
هل كان يجب أن أقبل اختلافي هذا أيضاً؟ أن أظل أتأمله ..أتفحص أسبابه بحياد ؟
بعد أربعة أشهر من زواجي كان نادر نبتة في أحشائي ، يتشرنق حبه في بطني بطيئاً ، يتحرك ، يولد بعده بأشهر ، أرضعه مثله ، أحضنه ، أناغيه فيتأتئ .
يصير نادر صبياً يطوِّق عنقي في كل لحظة ، يقبِّلني ، يردد أنه يحبني ، وأتأمل أنا تأكيداته بشك .


--------------------------------------------------------

" أنا ... من أمي ، لأنها ... "
كتبت الدكتورة ذلك ، ومدتني بالورقة ، قالت : الآن اكتبي أنت .
- ماذا أكتب ؟
- ضعي كلمات مناسبة في الأماكن الخالية ، ثم اكتبي كل ما في خاطرك .
أمسك القلم ، ورغم أني لم أخجل من الدكتورة من قبل وأنا أعرض عليها جوانب كثيرة سيئة فيَّ إلا أني هذه المرة ترددت كثيراً .
قلت لها : دكتورة ..لا أستطيع ، أحس أني سأكتب شيئاً سيئاً جداً عني الآن .
تضحك هي بقوة : يا حبي لك يا وسمية .
بعد كلمتها أبدأ الكتابة : أنا أكره أمي لأنها ضعيفة ، مترددة ، لا تعرف ماذا تريد ، لا تملك الجرأة على أن تفكر حتى في أنها لا تريد ما تحياه الآن .
أمي امرأة شخصيتها مهزوزة ، زواجها تعيس جداً ، ورغم ذلك فهي مستمرة فيه .
أمي تفلسف ضعفها بطريقة غبية ، مذ عرفتها ( في دوريها الخالدين زوجة وأماً ) لم أسمعها تقول " لا " لأي أحد ، لم توقف أحداً أهانها عند حده .
حين أضع نقطة بعد آخر اتهام لأمي أمد الدكتورة بالورقة بخجل .
تتأملها مبتسمة ، ثم تعيدها إلي : الآن يا وسمية أريد أن تُسمِعِيني المكتوب بصوتٍ عال ، وكلما مررت بكلمة أمي في ثنايا كلامك اقلبيها ، اجعليها " أنا "
بارتياع أتفحص الورقة التي صارت عريضة اعتراف الآن ، ألتفت للدكتورة : ماذا جعلتني أفعل ؟
يعلو ضحكها هذه المرة ، وهي تقول : هيا أسمعينا ماذا سجلت .
" أنا أكره وسمية لأنها ضعيفة ، مترددة ، لا تعرف ماذا تريد ، لا تملك الجرأة على أن تفكر حتى في أنها لا تريد ما تحياه الآن .
وسمية امرأة شخصيتها مهزوزة ، زواجها تعيس جداً ، ورغم ذلك فهي مستمرة فيه .
وسمية تفلسف ضعفها بطريقة غبية ، مذ عرفتها في دوريها الخالدين زوجة وأماً لم أسمعها تقول " لا " لأي أحد ، لم توقف أحداً أهانها عند حده "
حين أنتهي تصبح الورقة مجعدة الحواف ، لولا هيبة الدكتورة لكنت مزقتها ، ألوذ بها : دكتورة ، ماذا يعني هذا ؟
أأنا أكره أمي لأنها تذكرني بي فترة زواجي ؟!
تهز الدكتورة هناء رأسها ، ويبين في عينيها شيء كالزهو بنجاحها ، زهوٌ تجعله محتشماً بحديثها عما فعلت ، قالت : أكثر ما يضايقنا في صفات الآخرين تلك الصفات التي تشبهنا جداً ، نكرهها فيهم ، ونكرههم لأنهم يعكسون صورنا التي لا نريد أن نراها ، هناك معالجة نفسية غربية علاجها كله بالكتابة ، كلما زارها مريض جعلته يكتب ، وعبر الكتابة يعي نفسه ، ويتغير .
- الكتابة التطهير ؟
- والكتابة المعرفة أيضاً .
أعيد لها الورقة ، وأسألها : ماذا بعد ؟
- بعد أن تم فك الارتباط بين صورة أمك في عقلك الباطن وبين صورتك أنت أظن أن علاقتك بها ستكون أفضل جداً ، لكن يجب أن تعيدي النظر في فترة زواجك ، خففي جلدك لذاتك ، هي تجربة عشتها وخرجت منها أفضل مما لو كنت بقيت فيها ، وأفضل مما لو كنت لم تدخليها ، إذن يجب أن تمتني لها لا أن تختزنيها بكل هذا الألم .

----------------------------------------------

كبرياء الحرف 08-02-2010 02:19 PM

تابــع

" راحتي وبياض أيامي وسمية ..
كل مرة أقرر ألا أكتب لك بعدك حرفاً ، وكل مرة لا أقوى على الالتزام بقراري ..
فقط أردت أن أخبرك أني سأفتقدك كثيراً طوال هذه الإجازة ..لا أدري كيف أعبر القادم من أيامس دونك ..
دون " نظرة ترد الروح " تنتشلها من وجوه أدمنتها حد الاختناق ..
ليتك ترينني بعدك ، حيث كل هذا الزحام لا أحد ..
يا أقرب الناس في غيابك ..أحبك جداً "
علياء
قبل علياء ظننت أن الصداقة حبٌ عاقل ، لكني حين عرفتها اقتنعت أن الحب صداقة باردة .. أو أن ما أحسه قربها لا ينتمي لهذين النوعين من العلاقات .
كل يوم مرة مذ بدأت الإجازة أُخرج رسالتها زهرية الطالع ، أرطب روحي بحرفها ، وأفتقدها طوال اليوم ، وأشكر الله أني عرفتها ..
اليوم تلوتها مرتين ، ثم خبأتها لأكتب .ما لم أقله للدكتورة قررت أن أسجله ، خفت بعد الجلسة الأولى ، وهي تعيدني لمواقف قديمة وتعيد مونتاجها بشكل أكثر إنسانية خفت أن أنساها بعد فترة من الوقت ، وكأنها لم تحصل .
سجلت الأحداث في دفتر جديد قررت إهداءه علياء ، وأسميته " نسخ احتياطي للذاكرة "

( 1 )
موعد الزواج ( المحدد سلفاً على أن يكون في الإجازة بعد إنهائي تعليمي ) تم تقديمه ، سيكون بعد ثلاثة أيام فقط ، بالصدفة عرفت ذلك إذ لم يحرص أحد على إخباري .
ربما ما كانوا يعرفون أن التوقيت يختلف عندي ، ربما وثقوا أني لن أجرؤ على المعارضة فتصرفوا على هذا الأساس .
لأول مرة أستجمع جرأتي وأنا أتحدث مع أمي في الموضوع ، قلتُ لها : لا أريد الآن ، لم أستعد نفسياً بما يكفي ، ولن يتم شيء الآن ..
كان ما فيَّ من شجاعة قد انتهى فانصرفت ومضت أمي تلملم حاجياتي استعداداً لنقلها لبيتهم ، بعد الزواج عرفت أنها أيضاً ما كانت تريد هذا الموعد لكنها لم تجرؤ على الرفض حين طلبوا .
قلت لنفسي مواسية : ولو لن يحدث إلا في الموعد الذي أختار أنا ، لن أنضم لحزب الطالبات المتزوجات .
أغلقت الغرفة علي ، وبدأت التخطيط : أكسر رجلي ؟ تجبيرها سيكون مؤلماً ، وستظل في الجبس مدة أطول مما أريد . لن أحتمل الاعتماد على أحد في حركتي خمسة وأربعين يوماً .إذاً أكسر يدي لكن كيف ؟
مكوى الملابس قدم نفسه في عرض صارخ حين واجهني باركاً بجوار كومة ملابس تنتظره ليلهب وجوهها المتجعدة ، رفعته ، كان ثقيلاً جداً .. أغلقت باب الغرفة علي ، جلست تحت طاولة الكي فاردة ذراعي ، أغمضتُ عيني ، ثم سحبته بسلكه ، قدرتُ أن سقوطه بهذا الوزن من ارتفاع أكثر من متر كفيل بكسرها بسرعة . فـعلتها عدة مرات ولم تنكسر يدي ، كنتُ كل مرة أبسط يدي في المكان المناسب وأسحب سلك المكوى وأغمض عيني ثم .. لاشيء .. كل مرة قبل أن يهوي عليها كانت يدي تفر .
بعد إحدى عشرة محاولة فاشلة عرفت أن النتيجة الوحيدة التي حصلت عليها أن المكوى يحتاج لمشروع سقطة جديدة فقط حتى يلفظ أحشاءه كلها .
عدت لغرفتي أبحث عن وسيلة أنفع قلت : أضع يدي بين ضلفتي أحد الدواليب وأغلقه بقوة .
هذه المرة لم أخرج يدي . كان الألم لا يطاق ، أرعبتني فكرة أن ألمس يدي لأتأكد من كسرها ، ثم أدركت لما خف أن يدي لم تكسر فكان علي أن أتخذ القرار الصعب أن أعود للمحاولة مرة أخرى .
في المرة الثانية نزلت دمعة على خدي ، وبعد سبع محاولات عرفت أني لن أكرر الفعلة وأنها لن تفيد .
أتلفت في الغرفة ، أتأمل السرير ، أرفع طرفه . هو ثقيل وحافته عريضة . أضع يدي المحمرة تحته . أرفعه أكثر . أدير وجهي ثم أسقطه .
في طريق العودة من المستشفى أتذكر - وابتسامة سوداء على ثغري يحجبها غطاء وجهي عن أبي - تطمينات الطبيب ، تطمينات أبي قبلها ، اللحظات المجنونة التي تلت سقوط السرير على يدي ، خروجي العاصف لأمي ، يدي التي تنبض ألماً ، الطنين في أذني ..
صوت أبي يصلني غائماً ، أفهم أنه يسألني مجدداً : كيف حدث ذلك ؟!
حين سألتني أمي في البيت تراجع كل الألم لخلفية إحساسي واستنفرت بالكامل لأجيب .
كان واضحا أن أمي لم تصدق كذبتي عن القلم الذي انحشر تحت حافة السرير ومحاولتي إخراجه .
حالما أشرع في إعادة سبك القصة لوالدي أبث فيها ما أستطيع من إيحاء بالصدق . يقطع شروحاتي بحوقلاته المزمجرة ثم يعرض بوجهه .
ألتفت أنا الأخرى وأتذكر كلمات الطبيب الغبي المطمئنة : مجرد رضوض بسيطة فلا تقلقي . رضوض بسيطة لن يتأجل العرس إذن .

------------------------------------------------------

( 2 )
أرتقي درجات السلم التي لا أراها بسبب كومة السواد الملتفة حولي . أتذكر حكاية روتها إحدى الزميلات في المدرسة عن جدتها ، قالت أنها في زواجها السادس كانت تصعد السلم الطيني صوب روشنها محفوفة بنسوتها وأن الزوج المنتظر على باب الروشن كان يمسك بيده اليسرى سراجاً يضيء لهن الطريق، ويمد اليمنى للعروس ليدخلها. كان من عادة العروس البكر تتمنع ، أما صاحبة الخبرة هذه فيبدو أنها ما كانت لتريد حتى أن تتصنع ذاك ، غير أن ن الحرس الجمهوري شاء ألا تصم نفسها بقلة الحياء وتصمهن من ورائها . تمسَّكن بعباءتها فيما تتعلق هي بذراع العريس ، هي فطنت لما أردن فجارتهن قليلاً .
حين استمررن في لعبتهن السمجة أكثر مما قدرت نـزعت يديها من العباءة المشدودة لتنطرح في أسفل السلم لامَّـةً النسوة الحييات وتدخل هي غرفة السعد.
أتذكر ذلك وأنا أكاد أسير في موكب مشابه وأود لو أحكيها للعجوز التي تكاد تخلع رقبتي وهي تتشبث بعباءتي خلفي . تغريني فكرة أن أروعها بها . حين ندنو أكثر من الغرفة أنسى كل الحكايا وأرتجف ..
على أعتاب الغرفة أمي تبكي وهي توصيه بي خيراً وأتساءل : أمن مكروه سيحدث لي حتى تبكي كل هذا البكاء ؟
أتلصص عليهما ، أحس في حركته وهو يأخذ بخاطرها كأنما يدفعها للخروج .
أعود لي ومن مجلسي أستعرض بسرعة كل حكايات الاغتصاب أثناء الليلة الأولى التي سمعتها في مجالس النساء في الفترة الأخيرة ، في دورة مكثفة وقصيرة لي : أتذكر أولاً ذاك الذي سمعوا قرقعة مواعينه ليلة العرس ولم تهدأ حتى صادها ( المرأة ) . والآخر الصغير الحجم الذي حاول أن يلعب الدور نفسه مع عروسه الغوريلا فوضعته في أكبر القدور المرصوفة بها أرض الغرفة .
هو يدنو ، يحاول أن يكون لطيفاً ومقبولاً ، أعاين ارتباكه وحرصه على حركاته وكلماته بل حتى إيماءته فأتساءل : ليلة الزواج اختبار قبول لمن ؟
يشد الإجابات من فمي شداً . كدت أضحك وأنا أتذكر حكاية روتها إحدى القريبات التي تورط عريسها بفمها الأبكم تلك الليلة و أراد أن يخرجها من صمتها فسألها : أتدرسين ؟
هزت رأسها كما في كل الأسئلة التي فرشها على فستانها قبلاً..
سألها : في أي مرحلة ؟ فسكتت..
قال : أولى متوسط ؟
هزت رأسها نافية..
-ثاني متوسط ؟
-.. (هزة أخرى بالنفي)
-ثالث متوسط ؟
-.. (مثلها)
-أولى ثانوي ؟
-.. (هزة مع بعض الارتياح فها هو أخيراً يقترب من المرحلة المطلوبة)
-ثالث ثانوي ؟
التفتت إليه غاضبة ، تريد أن تصرخ : " لقد نسيت ثاني ثانوي يا غبي"
ألجمتها بقية الخجل أولاً ثم ضحكته التي ما لبثت أن تفجرت خبيثة جداً.
زميلة أخبرتني قصتها هي ؛ في ليلة الزواج لما اقترب منها زوجها صرخت محذرةً : ما تفكِّر فيه لن يحدث .
قال مبتسماً : وما الذي أفكر فيه ؟
عرفت أنها تورطت فهداها عقلها لأن تقول بعد تدبر: أنا لن أُنجبَ أولاداً .
ضحك هذه المرة وهو يردد مقترباً : ليس ذلك ضرورياً ..، ثم أضاف وهو يحتضنها : أبداً .
كنت أريد أن أحكي لهذا ذي الحكايات لولا الحياء ، لذا سكت محاولة تخمين الحكاية التي سأرويها بعد سنين عن ليلتي الأولى .

--------------------------------------------------

( 3 )
أحببته قبل أن أعرف عنه أيَّ شيء ؛ كان خجلي ( الذي يجب أن أعترف الآن أنه كان مرضيَّاً ) يمنعني قبل الزواج من أن أسأل عن أي شيء يخصه ؛ لم أسألهم حتى عن اسمه ، كنتُ إذا انزلقت تلميحاتهم إليه يجف حلقي ، يبرد الدم في عروقي ، حتى التنفس بصعوبة أستطيعه ثم أنسحب من مجلسهم ، فإذا دخلت غرفتي لم أخجل أن أقـعده بجواري .. نتحاور .. نتلاعب .. نتغازل ..أحياناً نتشاجر .
حين أثرثر مع خياله في الليالي كنت أصوغ جملي التي أخاطبه بها متحاشية مطب الاسم .
أحببته صورة هلامية لرجل ، حتى إذا ما رأيته تلك الليلة ألصقت مشاعري كلها بجسده هو .


------------------------------------------------------

( 4 )
- أنتِ مهبولة ..حقيبته ذي التي تجهزين سيأخذها في سفرته مع زوجي للخارج..
-طيب..
-أنتِ ما تفهمين ؟! ما ظنك أن الملاعين يفعلون هناك ؟
- …
-لابد أن تحاولي منعه من السفر..كلميه بقوة..هدديه بترك البيت..على الأقل لا تجهزي حقيبته ..
أتساءل : كيف يمكن أن تكون شقيقته وتحكي عنه بكل هذا السوء ؟!
خرجتْ وحرنت أنا حتى عاد ، سلّم فلم أرد إلا غمغمة ..سأل بتلهف عن الحقيبة ، بلا مبالاة باطنها مسكون بالخوف قلت : ما أكملت تجهيزها..
لما سكتَ أكملتُ أنا : ولن أفـعل لأني لا أريد أن تسافر..
-ستجهزينها غصباً عنك ..
- لا..
- عجيب.. هذي أول مرة يطول فيها لسانك..أول مرة ترفضين طلباً لي..
وعدته سراً في داخلي أن أرفض طلباتٍ كثيرةً فيما بعد ..
بينما كنت أنتظر خطوته المقبلة ، أحسبها كلمة ، ضغطت أصابعه على عنقي ، ثم توعدني إن رجع ولم يجدها جاهزة .
لما خرج..من دخان عجزي وذلتي تكاثفت صورتها ترفض أن تفهم أعذاري ، وتطالبني بما وعدت.
أنا بذكائي الفطري المتأخر أنبتُّ لها تلك اللحظة فـقط قروناً حمراء و ذيلاً طويلاً وصبغت عينيها بشيء كالخبث..
قلت لنفسي : أليس زوجها أيضاً مسافراً ؟ لماذا لم تفعل معه ما تستحثني عليه ؟! أتخاف آثار حزام بدلته العسكرية على خصرها كما يحصل دائماً ؟
آثار أصابعه على عنقي تضغط كبريائي ، وأنا أصفعني بسؤالي : كيف لم تعلمني الأيام ؟!
أليست هذه التي كانت بعد كل موقف منه - وإن كان عادياً - تستعمر أذني..تنهشها باستفهامات سوداء عنه و إيحاءات تحاول بها استنهاض غيرة المرأة فيّ ضده ؟!
هل كانت تجرب فيّ الوجه الذي تود لو تواجه به زوجها الذي تعبده وتلعنه ؟!أم أنها كما قال هو ذات مرة تكرهه ؟

----------------------------------------------------------

( 5 )
ألاحظ حبات العرق الكبيرة على جبينها وهي تحاول تعليمي في المطبخ فأعرف أنها تكاد تفقد تماسكها وإصرارها ، أسألها وأنا أكرر بصعوبة ما تفعله إن كنت أعمل بشكل جيد ، فتبلع أخته الثانية كلمتها ، وتضحك ضحكة قصيرة تعثرت على شفتيها بين الحنق والخجل من إجابة قد تجرحني جداً ..
أمام هذه الشقيقة لا تلك أنهزم تماماً ..رغم إحساسي بالعجز التام في مجاراة الأولى في وضع المكياج و التزين إلا أن عجزي في المطبخ أمام هذه التي تفعل كل شيء بمنتهى اليسر كان يحرجني أكثر ..
محاولةً مواساة نفسي أطمئنها بكلمات الأولى : " أختي لا تفهم ؛ الطريق إلى قلب الرجل لا يمر بالمطبخ بالتأكيد إلا لماماً..الطريق إلى قلبه هناك في غرفة النوم ..انظري لها إنها تطبخ فقط بينما زوجها يسكر كل ليلة "
بعد أن تغادراني أقول لنفسي: حسناً ..فأنا الأسوأ هنا لا أحسن صنعاً في الغرفة و لا في المطبخ..

----------------------------------------------------------

( 6 )

لا تتغير أبداً ..بعد كل مشكلة..أثنائها..قبلها..تتشمم رائحتها ..أحسها تسعد بها، تظل طوال الوقت منبطحة في الصالة .. ملتصقة بجدار غرفتي ..تمرن قدميها أحياناً بالتلكؤ لدقائق بجوار باب غرفتي ..تقيس برودة الجو في الداخل وقتامته بمدى ارتفاع صوت التلفزيون أو المسجل اللذين أزيد صخبهما يوماً بعد آخر حتى لا تسمع هي شجاراتنا .
العجوز التي لا أعرف لماذا تكرهني تتابع بشغف لا أفهمه مشاكلنا..ورغم نوبات العطف المفاجئة النادرة ظل إحساسي نحوها أزرق بارداً يَسْوَدُّ كلما جاءت تخبرنا شائعة سمعتها عن قرب طلاقنا..
اليوم أهاتف أمي و أنا في ذروة مشكلة جديدة مخنوقة بأحابيلها ، وكالعادة لا تسمع أمي في صوتي الفاقد للرغبة في أي شيء تذمراً منهم..
أكلمها في الصالة..تخرج العجوز متلكئة ثم..في صفحة الباب البنية الفاتحة أرى ظلالاً هلامية ضخمة تلتوي بالجدار و تلتصق به مادة عنقاً عريضة صوبي..
أريد بعض الجرأة لتحملني قدماي إلى حيث تقف ، فقط لأقول لها بعيني أني رأيتها..
لو فقط أطلب منها أن تُريح نفسها من محاولة تسمع شكواي وهي تصب في أذن أمي لأنها لن تصب فيها أبداً ، تنسد شهيتي للكلام ( ولم تكن مفتوحة جداً مذ تزوجت ) ثم أدخل غرفتي أبكي .

-----------------------------------------------------

( 7 )
- وماذا بعد ؟
تضحك مها مستنكرة السؤال كله : ماذا تعنين بـ "ماذا بعد" ؟ تنجبين وتربين أولادك وتقومين على رعايتهم حتى يتحملوا مسؤولية أنفسهم ..
-هكذا فقط ؟! أهذا كل ما سأفـعله في حياتي ؟!أما من شيء آخر ؟!
-بلى..أنتِ طبعاً لو توظفت ( معلمةً ) واستمررتِ في عملك فقد تصبحين مديرة أو موجهة أو ما شابه..
-ثم ماذا ؟!! ليست هذه بحياة التي تشبه حيوات كل الآخرين..هذا موت بطيء لن أحتمله..
أتركها وأتصل بريم ،أطلب منها أن ترسل لي دفتراً جميلاً ..
- ماذا ستكتبين فيه ؟
- سأعرف حين يأتيني أحدٌ به ..
على وجه الدفتر صورة لغابة طبيعية لم تر من البشر إلا عين المصور ، وخلفيته الغابة ذاتها كابية اللون وقد امتصت كاميرا مسعورة روح اللون منها .
في صفحته الأولى كتبت : حتى كائنات الطبيعة يمكن مسخها ، لتكون الشيء وصورته السالبة...هكذا نحن أيضاً .

---------------------------------------------------------

( 8 )
في السيارة قال لي : التقيت بعرافة في مصر ، قرأت لي الطالع ، ربطت عقدة في منديل ثم حلتها ، قالت أنها عقدتنا ، وأنها ستحل ، وسنكون أسعد ، وستختفي كل مشاكلنا ، قالت أن من صنعت السحر ابنة عمٍ لي تريد الزواج بي .
كان يخبرني ويضحك .كنت أعرف أن هذا لا شيء ، ومع ذلك تعلقتُ بالأمل مثله ، ضحك وقال أنها أخبرته للتدليل على صدق كلامها أني حامل وأني سألد ذكراً وأننا سنسميه خالداً .
تبادلنا نظرة ثم ضحكنا . بعدها أدار هو وجهه للناحية الأخرى ليتأكد من خلو الشارع قبل أن ينعطف يساراً ، والتفت أنا أتأمل المحلات المتشابهة السحنة المصطفة على طول شارع قديم ، نعرف أن لا خالد ، وأن من في بطني إن كان ولداً فسيكون اسمه نادر على اسم جده . ذلك أمر مفروغ منه..
والمفروغ منه أكثر أن هذه العلاقة الهشة لن يلزمها أكثر من شهرين أو ثلاثة بعد الولادة لتتهاوى فلا وقت لهذا الخالد الذي أحسست في شبه اتفاقنا البارد أن لن يجيء أننا ( كلينا ) نطبق على عنقه الصغيرة الحمراء الحارة فنهصرها..
أراد هو أن يشرع نوافذ كلامية تخرج من قمرة السيارة غبار الأفكار السابقة وتدخل نسمةً باردةً لفكرة أخف وطأة فسألني مداعباً بطني المنتفخة عن ولي العهد ..
ولي العهد كما يبدو التقط النداء ، في آخر دورة لنا بالسيارة صرت استشعر آلاماً بأسفل ظهري كآلام الدورة لكنها أشد قليلاً..تأملت الكرة الثابتة منذ أشهر بظاهر بطني وارتعت..
سكتُ أول مرة وكظمت ألم الثانية .بعد الثالثة أخبرته أن ألما بسيطاً في ظهري.
كان عليّ بعدها أن أتحمل رعباً أنساني الألم .صار يطير بالسيارة ، كان على ما يبدو يخاف أن ألد فيها .
كدنا نصطدم بأحدهم ذات منعطف.بصوت صار أضعف مع تزايد نبضات الألم أرجوه أن يبطئ .. أن ينتبه..
يطرق باب منـزل أهلي بقوة ، ثم يرقيني عتباته مرتجفاً فيما أحس كل ألمي يتسرب سائلاً رطباً على فخذيّ ..
يوصي أمي بأن تبلغه حالما ألد فيما أتجه للحمام لأبدل ملابسي ، وأسأل نفسي وحدها : هل يمكن أن تتم الولادة بهذه السرعة ؟
أخلع ملابسي فيما صعقة كضربة سوط شديدة جعلتني أجثو على الأرض ، كان الألم هذه المرة مرعباً وهو يكوي بطني وظهري في آن واحد بلسعاته و يتهددني في الوقت نفسه بالمزيد..
أخرج من الحمام وتتلقاني أمي بالتمر .. لا أدري من أقنعها أنه يسهل الولادة ويدفع الجنين خارجاً..
أريد أن أرفض ، لأن فكرة الأكل الآن تبعث على الغثيان .
كنت أضعف من أن أرفض ، وأوهن من أن أستجيب وآكل ، فتحت فمي وتركته لها تحشوه بما شاءت .
الألم في بطني لا يمكن التعبير عنه حتى بالصياح ، ريم نيابة عني تبكي ، فإذا عضضت شفتي صاحت ، تارة أقف ، وتارة أجلس ، مرات انبطح أرضاً ، أبحث عن الوضع الذي يقلل الألم وومضة أخرى من نار تلف وسطي .
في السيارة أستعجل الوصول للمستشفى ، أظنه القادر على إخراج هذا الجنون مني أو إخراجي منه ..
حين كانت الممرضة ترفـعه باسمة : ولد ..نسيت أشياء كثيرة ، وسطع وجهه هو ، أريد أن أهاتفه الآن لأبشره ..لم نتحدث كثيراً حول المولود المنتظر ( لم أعرف إن كان يفضله ولداً أم أن الأمر عنده سيان )
ما إن دخلت أمي عليّ حتى طلبتُ إليها أن تهاتفه..هي تسألني عني و أنا أكرر طلبي بأن تبلغه ..تكرر وعدها والممرضة تشدها خارجاً..أخذت الصغير معها فأحسستُ بالراحة وبالألم ؛ لابتعاد صوت صياحه ، و لأني لم أستشعر حبه ..
اللحظات التالية أحاول أن أصل لمعرفة تحديد تقريبي للزمن..أحسني خاويـة تماماً وبلا مشاعر باستثناء نبضات صغيرة أسفل بطني..
أمي تُقبل بالصغير ، تطلب مني أن أقبله..أرفض ثم حين تلح أفـعل مجاملة لها..
تبتسم مستنكرة ، وأتعجب من استغرابها ، أريد أن أخبرها أني ما كنت مخيرة في أن أهبهم إياه أو أن لا أفـعل ..
أما وقد جاء فهو لهم ، وليس علي أن أحبه !!
أنظر إليه : أأنا ولدت هذه اللحمة الحمراء ؟!
ما أنا متأكدة منه أني عدت للحياة بعد اختبار سريري لقدرتي على مقاربة الموت .
أعيد سؤال أمي إن كانت أخبرته ، وتكرر : عليك أن تنامي الآن ، فأنت مرهقة بلا شك .
أود أن أسألها عن الطريقة ؛ لأن الساعات الفائتة تلك أنستني كل البدهيات لكنها غادرت قبل أن تصطف عبارة سؤالي بشكل مفهوم في رأسي .
في الغرفة أبقى وحيدة إلا من شيء كالجوع ، أتأملها ، كل ما فيها لا إنساني ..آلاتها..سريرها..ساعتها الحائطية.. حتى الطريقة التي خلعوا بها ملابسي كانت لا إنسانية ، ثم هذه الطريقة في الاستلقاء تمنعني من النوم . تروعني بهاجس أن لحمة أخرى مسعورة ستحاول ثانية الخروج مني .
أود لو أنام على جنبي ، لكني لا أملك الجرأة الكافية لأجرب أن أتحرك .
الوقت يمضي جارّاً معه ذكريات العمر الذي انقضى منذ دخولي الغرفة حتى خروج المولود : أصوات الممرضات المتشنجة ..نكات الطبيب السمج..لعناتي للجميع..صرخات الصغير .
ينخفض الصوت ، الوجوه تشحب ..الساعة غير المضبوطة إطارها الدائري ينبعج..تسيل بعض الأرقام من جانبه فيما قليلاً ..قليلاً تخدر أجفاني حتى أسقط في رحم النوم .
يأتي الصباح أبيضاً في كوب حليب بلا شاي ، عافته نفسي كما عافت عيني صباحهم الذي أرادت الممرضة أن تغريني بمشاهدته وهي تزيح ستائر في الغرفة لم أكتشف إلا هذه اللحظة وجودها..
في المنـزل حين عدنا كان الجميع فرحين بالصغير..حتى لم ينتبه أحد لوجودي لولا الفراش الذي أعِد على عجل لظننت أنهم نسوني تماماً ..بعد قبلات عديدة نالها وحده وابتسامات ومناغاة بدأ البعض يلتفت إليّ سائلاً أسئلة روتينية عن حالي ..حامداً الله على سلامتي..كأني كنت في سفرة قصيرة عدت منها قبل أن يشتاقوا إلي..

كبرياء الحرف 08-02-2010 02:20 PM

تابــع


( 9 )
- اليوم اتصلت أمي وأخبرتني أن واحدةً من مكتب التوجيه كلمتها وطلبت أن أراجعها لتسلمني خطاب توجيهي للعمل .
ينظر إلي نظرة بدت لي متوعدة وهو يسألني : وماذا بعد ؟
- أريدك أن تأخذني إليهم غداً .
- لماذا ؟
أفتعل ضحكة لا تخفي توجسي وأنا أقول : كي أستلم وظيفتي .
- سبق وتحدثنا في ذلك . قالها وصدَّ عني يطالع جريدته ، أستجمع شجاعتي وأراجعه : لكني أريد أن أعمل .
- ...
نظرته الطويلة القاحلة وحدها كانت الرد ، تمنيت لو يمتلك شجاعة مواجهة المشاكل فيسألني لماذا أريد أن أعمل ، وأتناول منه شعلة الشجاعة فأقول أن المدرسة وحدها ستعيد لي بعضاً من يقين أني أصلح لشيء .
أريد أن أخبره أني أتوسم فيها مخلِّصاً لي من آلامي . وحدها تقدر أن تقول لي أني جيدة ..أني مثل الأُخريات ..
أردت أن أخبره أني كثيراً ما أبقى في غرفتي أقابل المرآة ، وفي كلٍ أتأمل بقوة صورتي فيها ، وأسألها : من هذه المنطبعة على صفحتك ؟ لأنها ليست أنا..ليست وسمية الطالبة الممتازة بشهادة معلماتها ومديرتها ، و ليست وسمية الصديقة التي ترى فيها صاحباتها أوفى البنات ، وليست وسمية الفتاة التي يحترمها أهلها وإخوتها ..هذه التي في المرآة هي العبدة التي كلما أطاعت أسيادها زادوا استعباداً لها .
أردت أن أقول له أنَّ أهله صاروا يسفرون عن وجوههم الرافضة أكثر و أكثر.. وأني أمام أهلي بدأت أشد القناع على وجهي أكثر وأكثر كلما زرتهم حتى لا يعرفوا ما يحصل بداخلي..
أردت أن أبكي على كتفه إحساس الغربة الذي ينحرني كل لحظة .
لم يناقشني ولم أبح له بخواطري ، فـقط حين فتحت الموضوع في اليوم التالي خيرني بينه وبين العمل بعد أن اتهمَ أهلي بأنهم وراء عنادي الجديد ..
وددت لو أمتلك شجاعة لأخبره من منا يديره أهله .. تمنيت لو أستطيع إعادة كلمات أمه المتشنجة حين ناقشها في أمر عملي .. حين اقترح أن يسمح لي وينكد علي .

-------------------------------------------------------

( 10 )

- أتحبينه ؟ قالها وهو يطوقني فيما كنتُ أرضع الصغير ، أتأمل الطفل الذي كل ما بان من ملامحه يحاول جاهداً أن يقلد ذا الكبير ، أرقب طمأنينته الخالصة وبما يشبهها أقول : أتصدق أني أحبك فوق ما أحبه ؟
يلبس أبوته كاملة بعد أن يطرد نشوة حسبها آثمة ، ثم يقول لي : لا يسعدني ذلك . أريد أن تحبيه هو أكثر حتى من نفسك .
هذا هو قريني ، حتى مشاعري يفصلها بالطريقة التي يريد ، ويشذب زوائدها إن لم تعجبه .

------------------------------------------------------

( 11 )
- سأخرج من بيتهم بشكل نهائي..لمملت كل حاجياتي ، وسآتي بعد قليل ..
- إن كان من أجل الوظيفة فقد طارت وانتهى الأمر .
- ليست وحدها السبب يا أمي .
لأول مرة أرى أمي متماسكة هكذا ، هل أخطأت تقدير وعيها ؟
لم يبدُ لي أن قراري أدهشها .
أبعد صورتها لأتأكد مرة أخرى من تنظيم الغرفة ؛ ما كنتُ أريد أن أتركها له غير مرتبة .. ما كنت أحتمل فكرة أن يلومني ولو كانت أذني الأنأى عن سماعه !
ألقي نظرة على الصغير النائم الذي صار الآن يعرف وجهي ووجه أبيه جيداً ، ثم أحمله وأخرج .
ألقي على البيت النظرة الأخيرة ، أخرج..على عتبة الباب أودع العجوز فتدير ظهرها متظاهرة بأنها لم ترني .
أواسي نفسي : لا بأس لا أحد يجرؤ على مواجهة حريق شارك في إشعاله .
تستجمع أمي شجاعتها فلا تبكي..لكنها كل لحظة تستعيدني ما أطلعتها عليه من الحكاية فلا أضيف جديداً ..تسألني وأتجنب استفهاماتها لأستولد استفهاماتي أنا : هل حقاً أني خرجت ؟ ماذا يعني خروجي؟ أأنا خرجت أم طردت ؟ متى سأعود ؟ كيف؟ هل سيأتي غداً ليصالحني ؟
جاءت ريم من المدرسة ..رأت حقائبي ولم تُعلّق..
هي وسعود وماجد فرحوا بالصغير ، فتركته لهم فيما لأحاول النوم..متمنية لو أني أحضرتُ صورته معي .
في الليل لم أتآلف مع المكان بسرعة ، رائحة غرفتي القديمة تعبق بشيء كالغبار..سريري يطقطق كلما تحركت يمنعني من النوم ..ملابسي تضايقني ..
لم أعرف أنه سيكون شهراً للدموع ، لم يتصل ، لم يسأل ، حتى أهلي الذين كانوا يشدون من أزري انسحبوا لسواد الصمت.
أبي الذي في البداية أرهقني بسؤلاته المكرورة : هل حصل بينكما شيء غير رغبتك في العمل ؟ لِمَ لم تقولي له كذا ؟ ولِمَ سكتَ حين قال كذا ؟ و لمّا رددت عليه بهذه الحجة بماذا أجابك ؟
ما مِنْ جلسة أخرج منها وهو راضٍ عن أدائي رغم أني صرت كلما استعادني الحكاية اقتطعُ من تفاصيلها ما لم يرضه في المرات السابقة .
أحياناً يذكرني بتفصيل قلته بالأمس و تجاهلته اليوم ليعيد تأنيبي عليه..حتى هو أخر الأيام ملّ وأراحني .

----------------------------------------------------------

( 12 )
مها تتصل : لماذا أنتِ عند أهلك ؟
سكت فتورطت هي ، ثم حاولت أن تجد لي مخرجاً فـقالت : أهو مسافر؟
-لا..
-إذن لماذا لستِ عنده ؟
-كذا أحسن..
تغلق السماعة وأدرك أنها البداية ، وأن سجلي سينفتح في الديرة وسيقرأ الكل سطوره من أولها .
في الليل وحدي مع فيروز ، أنشج وتغني لي :
"كيفك ؟
قال عم بيقولوا صار عندك ولاد ،
أنا والله كنت مفكرتك براة البلاد "
أتخيل أني ألتقي به بعد سنين أُطل عليه من فوق نجاحاتي وأقول له : " كيفك ؟ " أسأله عن أحواله ، عن أولاده ، وأعبث به ؛ يرسل له جسدي رسالتين متعاكستين تماماً واحدة تدعيّ أنها لا تكاد تراه لفرط صغره ، وفي الثانية شيء من ظلال اهتمام به قديم ، حين يغادر منكسراً انطرح في سريري ، أبكيه .

-----------------------------------------------------------

( 13 )
ثم ماذا ؟ ظل هذا السؤال شاغلي عُمراً . ماذا سأفعل ؟ أنتظره ؟ أم أنساه أوأشرع القلب لساكن جديد ؟
كلما طرزت وسادتي الخالية بآخر غيره مر الليل كله وأنا أحاول أن أستشعر ألفة تجاهه لا تجيء .
آخر واحد تزوجته في خيالي تجاهلتُ وأنا معه ذا الخاطر ، ظللت متعلقة بذراعه أرفل في فستاني الأبيض الرقيق ثم ..ثم..سافرنا لا أدري إلى أين ؟!
- لكني يا مها كنتُ أسير مقبوضة الصدر خائفة ، وهذا الكائن بجواري لا يفعل شيئاً ، لا يحاول أن يشعرني بالأمان . ماذا كان يجب أن أفعل ؟
- تتزوجي غيره .
تنهدتُ بعمق وقلت : لم يبق واحد في الديرة ، لم يبق أحد في رأسي إلا اقترنتُ به ، لكن لا فائدة .
مها قالت : وسمية اكتبي .
- أكتب ؟!!
- نعم ، أذكر كتاباتك أيام الثانوية ، كانت رائعة ، والآن تبدو الكتابة خياراً معقولاً .
أتذكر الكراسة الصغيرة التي اشتريتها في أواخر أيامي في بيت طليقي ، ومها تذكرني إشادات بعض أستاذاتي اللاتي كنا نطلعهن على ما كنتُ أكتبه .
تواصل مها : هذه الأيام كلما تأملت ما مضى من عمرك بدا لي أن ثمة أدواراً كان عليك أن تلعبيها بسرعة لتنتهي منها وتتفرغي للكتابة : زوجة في التاسعة عشرة ، أم في مطلع العشرين ، ومطلقة قبل الحادية والعشرين، ثم .. أنت لك !!
ودعتها ورحت أنبش أوراقي القديمة بحثاً عما يصلح للنشر.

---------------------------------------------------------

- حين انتهيت من الكتابة تعجبت جداً : ليس فيه ما يُحب ، كيف أحببته ؟
- المشاعر الإنسانية ليست عقلانية أبداً ، ولا تخضع للمنطق ، ولله حكمة في ذلك .
- أتدرين ..؟ أعتقد أني لم أقع في حبه ، أنا لم أجرؤ على كرهه ، ظنت الطفلة التي كنتها والتي علموها فقط ( كوني له أمة ) أن أكبر الخطايا أن تكره من اقترنت به .
- عبدة ؟! أنت يا وسمية ؟! صدقيني لا أستطيع تخيلك في هذا الدور مهما حكيت ، هذا لا يشبهك أبداً .
في بالي تزدحم صور كثيرة كان فيها يذلني ، لا أريد أن أرويها الآن ، لذا قلت لها : عموماً سترين ما كتبت وتحكمين بنفسك .
- كتبت شيئاً من ذلك ؟
- أخافتني فكرة أن هذا الجزء المؤلم سيغادر الذاكرة مادامت الدكتورة تمسح الآن بعضه ، وتزوِّر بعضه الآخر .
- كتبته لتنشريه ؟!
- لا يا ريم ، بل لأطلعك أنت وعلياء عليه حالما أعود ، لتعرفا الملامح التي عشت بها الزواج ، ولكي لا أغفر له في يوم من الأيام .
- أين وضعت ما كتبت ؟
- في حقيبتي ..لماذا تسألين ؟
- لأني واثقة أن فيه فضائح كعادة كتاباتك ، وأخاف أن يقع في يد أحد ، ستكون مشكلة ، انتبهي له .
- مرة واحدة يا ريم أتمنى ألا تكوني نفسك .
قالت شقيقتي بلسان بدا يشبهني أكثر مما يشبهها : " لا أسوأ من ألا تكون ذاتك "
أترك المهووسة بالستر ، وأقلب دفتري وحبره يسيل ، أدسه تحت ملابسي وأخرج .

----------------------------------------------------------

في الليل تتصل ، وبلهفة تسأل : كيف هي جلسة اليوم ؟
لا أدري لم راودتني فكرة أن علياء تستمتع بحكايتي مع الدكتورة ، تجد في متابعتها ذات اللذة التي يمكن أن تجدها في قراءة رواية غرائبية .
قبل أن أصرح بفكرتي ينتابني وجهها القريب كأم فأخاف أن أجرحه ، أعطيها كلمتي غير المرتبة تفادياً لخروج الأخرى النـزقة : كانت الجلسة اليوم الأخيرة للأسف .
- لماذا ؟
- غداً نعود لديرتنا .
- طيب ..الحمد لله ، هذه الجلسات فيها الكفاية ، وقد أفادتك كثيراً ( بشهادتك ) لا تكوني طماعة يا وسمية ، ومادمت استطعت زيارتها هذه المرة فالزيارات القادمة ستكون أسهل ، ما علينا ..ماذا قالت لك ؟
- أنا قلت لها .. بحت لها بأنه ما زال يستـعبدني حتى الآن ، وأنه ما احتلني بالزواج قدر ما احتلني بعده .
قالت الدكتورة : ارميه في حاوية النفايات ، من يرهقك حمله في صدرك ضعيه فيها ( تخيلي ذلك ) وبعدها لن يشغل بالك ، لأنك تكونين قد قررت نفيه من دائرة اهتمامك .
- بهذه البساطة ؟ قالتها علياء ، وكنت قبلها عند الدكتورة أريد قولها ، ثم أبلعها احتراماً لها ، لعلياء أقدم تفسيراتٍ لا أنسبها لي ولا للدكتورة : بهذه البساطة ، لاحظي الفكرة ؛ نحن نضع في الحاوية ما لا نحتاجه ، وما نضعه فيها لا نعود للتفكير فيه مطلقاً .
على الأريكة البنية ذاتها أستلقي ، أسترخي ، وتعليمات الدكتورة تتتابع حتى أصل الخدر الكامل ، ثم أقربُها .
وأنا لا أزال أنظر للحاوية الكبيرة ، أتساءل إن كان للونها الأحمر دلالة أم لا ، قالت لي : هل فتحتها ؟
- فتحتها ، ووضعته فيها .
- جيد ..
- هو يصرخ يا دكتورة .
- لماذا ؟
- هي مملوءة بعلب المعلبات الفارغة .. حين ألقيته فيها جرحت العلب ظهره .
علياء هتفت : أحسن ، يستاهل ..
أفرح حين أجدها تقع في مزلقي ، وأواصل سردي : الدكتورة قالت لي ألا أرمي معه كل ذا الحقد ، نريد أن نرميه ونشفق عليه ..
ما كان فيَّ أي شفقة عليه ، لكني استعصمت بكلمتها " نحن ضحايا الضحايا " فسألتها : ماذا أفعل الآن ؟
- الخيار لك ..
- حسناً ، لقد وضعته في أخرى جديدة .
لا أعرف كيف أصف لك إحساسي يا علياء بعدها والدكتورة تمسح رأسي ، من يدها تفيض على روحي سكينة بيضاء فواحة .
- آه يا وسمية كم أتمنى لو أزورها ( الدكتورة هناء )
أضحك ، وأعرف أنها بدأت تـغضب ، لكني لم أستطع ، الصورة التي ارتسمت بين عيني لحظتها لعلياء والدكتورة تقلبها فلا تجد فيها شيئاً للعلاج تضحكني جداً .

------------------------------------------------------

كبرياء الحرف 08-02-2010 02:21 PM

في طريق عودتنا لديرتنا كنت أفكر في القادم ، أستعيد صوت الدكتورة وهي تودعني ، قالت أن الله يغير أحوالنا حين نتغير ، وقالت أن حياتي ستتحرك الآن أكثر ، وأني تطورت جداً ؛ فأنا لست أبداً تلك التي كلمتها أول مرة ، تلك التي تقول كلاماً سيئاً في حين تريد أن تقول أشياء جميلة .
أسألها : لماذا كنت تساعدينني قبل حتى أن تريني ؟!
- أنا يا وسمية حاولت أن أُقدِّم لك ما كان يجب أن يقدَّم لي في بداياتي ولم أجد من يقدِّمُه .
لا أدري لم بعدها سطعت صورة ماجد ببالي ، آمنت أني يجب أن أساعده ، أن أقدم له ما لم يقدمه أحد له ، ما لم يقدمه أحد لي قبل الدكتورة هناء ، في ورقة صغيرة أنشغل بإعداد برنامج صغير كبداية معه .
مع كل كلمة أكتبها يقترب هو أكثر ، وعلى أوراقي تتناثر صوره على سطورها .
صورته وهو يحمل رسائلي البريدية الأولى للصحف ليضعها في الصندوق دون أن يتذمر مهما تأخر الوقت ، ودون أن يفشي سرها لأهلي حتى حين أغضبه ، صورته حاملاً الفلة التي سرقها من حديقة البلدية لأجلي حين عرف كم أحبها ، صورته وهو يضع رأسه على كتفي ويبكي معتذراً حين غضبت عليه فقاطعته عشرة أيام .
مع كل صورة أحبه أكثر ، وبعدها كلها أكتب بأسفل الورقة " الهدف استعادة أجمل ما في هذا الكائن "

-------------------------------------------------------

- هلا وغلا.. الحمد لله على السلامة .
- أول شيء فعلته مذ جئت ( مكالمتك ) مازالت عباءتي عليَّ .
- أنا سعيدة بشكل لا تتصورينه بعودتك .
- غريبتان نحن ؛ في كل الأحوال ( إن كنت هنا أو في الرياض ) مادمنا في إجازة فإن الاتصال بيننا عبر الهاتف فقط ، فلم نحس بالفرق ؟!
- كنت أفكر في ذلك أمس ، ولم أجد له تفسيراً ، لكن إحساسي بك يختلف جداً حين تكونين هنا عنه حين كنت هناك .
- ستكملين لي حكايتك مع روميو ؟
- كلميني في الليل متأخراً ، وسأخبرك .

--------------------------------------------------------

بانتظار صوتها يحكي لي حبيبها ، والجديد في موضوعه يأتيني فاكسها :
" مساؤك بوح يا وسمية
أردت الورق ينوب عني فيقول ما لن أقوله ..
( أحبه ..لست أدري ما أحب به .. )
حلمت به البارحة مرة أخرى ، كان حلماً غريباً ، وجميلاً ..
هل أنا حقاً أحبه ؟ أم أنها أمنيتي القديمة بقيس يخلد ذكري ؟
لِمَ أخجل من مشاعري تجاهه ..وأخفيها ؟!
ألأنه ليس جديراً بها حتى الآن ؟!
هل أستكثر عليه تلك الخفقات التي استعصت قبله على سواه ؟!
لم أهرب من التفكير فيه وأحس أنه قدري ؟!
لا أدري ، ولا أدري لم أكتب لك ذلك الآن !!
ربما أردت عينك الصقر أو عينك الأم تخبرني عني ..
أمس تقدم لخطبتي من والدي ، فهل يجب أن أوافق على الاقتران به أم لا ؟
أحبك ، وأنتظر مد عونك "
علياء
في اللحظة التي أطوي فيها الورقة مقررة جعل استفهاماتها شاغلي هذا اليوم يدخل أبي : ماجد ذهب لأفغانستان .
قالها هكذا ، وكان أول ما رأيته بعدها برنامجي الذي أعددته لمساعدته ، رأيته كومة من تراب يردم ماجداً كله .
- في هذا الوقت ؟ وأمريكا تبحث عن كل عربي هناك ، تنبش كل جحر لتصطادهم كالفئران ؟ أقول ذلك ، وأتساءل إن كانت العبارة ذات صلة وثيقة بما قاله أم لا ، أقولها وأنظر في وجه أبي الذي صار شيخاً جداً ، ويسيطر علي هاجس غريب أني لم أنطق هذه الكلمات ، وإنما حكيت له عن علياء وحبيبها .
- الولد جنَّ بالتأكيد ، كنت أعرف أن نهايته لن تكون أقل سوءاً من هذا . قالها وانصرف ، وفتحت ورقة علياء مرة أخرى فإذا بعيني تتراكض بشكل محموم على صدرها حتى استقرت على قولتها " أحس أنه قدري "

----------------------------------------------------------

- أفغانستان فيها حرب يا أمي ، أليس كذلك ؟
- فيها يا نادر .
- فلم ذهب إليها خالي ماجد ؟!
أمي التي منذ الصباح تبكي تنشج الآن وأنا أحاول تقديم كلمات مطمئنة للصغير ولها ، وريم تنظر إلي ، وصوت الدكتورة هناء يتردد في أذني : فليذهب معهم ، لا خطر من المطاوعة عليه ، قد يأتي مدققاً في لبسكن ، قد يكسر التلفزيونات لكنه بعدها سيعتدل .
- كيف عرف أبي ذلك ؟ أسأل ريماً وأتمنى أن أجد في الإجابة مجالاً للتشكيك .
- اتصل به أحدهم ، وقال أنه حمله سلاماً إلينا وأنه ذهب إلى هناك .
- هذا كل ما قاله ؟
- هنأه بابنه البطل المجاهد ، الذي سيشفع له يوم القيامة بإذن الله ، فأغلق أبي الهاتف في وجهه .
- ماذا سنفعل ؟
- أخبرينا أنت ..إن كان هناك شيء غير الدعاء .
في غرفتي أقلب ألبوم الصور ، أرى آخر صورة له ، بدون لحية ، لأول مرة أكتشف كم كان وسيماً ، أفكر في أن أقبله ، وحين أحس الخاطر فألاً سيئاً أعيد الألبوم محله ، وأبكي .

----------------------------------------------------------

- انتظرت اتصالك ، ولما لم يأت قلت أتصل أنا .. ما أخبارك ؟
- ماجد في أفغانستان .
كان صمتها أفضل من أي رد قد تقوله ، ما كنت أريدها أن ترد ، أردت فقط أن أتخفف من وجعي بالحكي ، بعد قليل بدأت تستفهم بشكل دقيق عما حصل فتضايقت ..
حين كنت أريد عذراً لأغلق الخط وأهرب لنفسي قالت : أتريدين رأيي ؟ أظنه لأول مرة يفعل الصواب ، هناك يحارب عدو الأمة كلها ، لأول مرة يفعل شيئاً حسناً ، دعوه يفعله وأنتم راضون .
لحظتها بدا لي أن في هذه المرأة أفكار لا أعرفها ، لم نتكلم قبلاً في أمور كهذه ، ولا أدري لم اعتقدت أن رأينا فيها متحد .
علياء تردد عن الجهاد كلاماً أحفظه ، وأقول : ولكنه ماجد ، فليذهب غيره ، أما هو فنحن أولى به من جهاد لا نعرف إن كان يستحق اسمه أم لا .
- لو فكر جميع المسلمين هكذا لما حكمنا نصف الدنيا في وقت ما .
في سجل يومياتي بعدها أكتب : " سيحتاج الأمر وقتاً طويلاً حتى نعتاد عدم وجوده ، ولكننا سنعتاد ذلك بلا شك "
وفي الأيام التالية كان شبه اتفاق غير معلن على أن لا نتحدث عنه ، كان مسافرنا الذي سيعود إذا لم نخض في موضوع سفره ، لكننا في صلواتنا جميعاً كنا نبتهل إلى الله أن يعيده .

----------------------------------------------------------

- حين أردت أخذه إليها أول مرة قد قلت لها أنه لن شفي فإن كل ما أفعله لن يفيها حقها ، الآن أعرف أن لو صار له الأسوأ فلن أغفر لها ، ربما أظلمها بحكمي هذا ، لكن يجب أن تتحمل نصيبها من مسؤولية ما حصل .
- ألا تعرفين التوسط في تصرفاتك أبداً ، هذه التي تقدسينها أمس ، اليوم تحملينها ذنباً ليس لها .
- لأول مرة تدافعين عنها !!
- لأنها المرة الأولى التي تتجنين فيها عليها .
تغادرني ريم ، وأبكي ، ثم آخذه بسرعة :
بحث ، د.هناء ، مسح ، تم مسح كل التفاصيل ( د.هناء )
أعرف وأنا أعيد جوالي مكانه أنها لم تكن غلطتها ، لكني منذ البداية قررت أني لن أغفر لها ضياعه إن ضاع .

-----------------------------------------------------------

- مقرفٌ هو يا أمي ، وعائلته شنيعة .. أحياناً أحس أني أشفق على وسمية التي عاشت معهم سنتين كاملتين ، وأحياناً أحقد عليها لأنها لم تحذرني منهم بشكل كافٍ .
- زوجك خير من كثير من الرجال ، هل أعدد لك بعض من لاشك أنك تعرفينهم وأخبرك بصفاتهم ، وصبر نسائهم معهم .
- ليس من بينهم يا أمي من تزوج صديقة زوجته ليقهرها ، وليتحسس أخبارها .
- ما هذا الكلام يا مها ؟
- هذه الحقيقة يا أمي كلما جلس يتحدث معي ونادراً ما يفعل يظل يدور حول سيرتها ليرغمني على الحكي عنها .
- هي أفكارك أنت فقط ، تعوذي من الشيطان وتجاهليها ، وارضي بنصيبك يا ابنتي ، ولا تشمتي بنا .
معها حق أمي ، يجب أن أرضى بنصيبي ، أنا دوماً راضية بنصيبي ، فلماذا لا أقبل به الآن ؟!

------------------------------------------------------------

" جوانتا نامو " هو في جوانتا نامو ، حين كان طفلاً تمنى أن يزور سوريا ، كان يعتبرها بعيدة جداً ، لكنها الأمنية التي لم تتحقق ، أقول له : اهنأ يا ماجد أنت الآن في جوانتا نامو ، أبعد كثيراً مما حلمت ..
كان أحدهم قد اتصل بي البارحة لينقل لي الفاجعة ، قال أنه حين خرج خرجته الأخيرة أملاه رقم جوالي ليبلغني إن لم يعد ، وأنه هناك الآن .
ليلة عجيبة هذه التي أقضيها أرتب خطاباً لوالدي لا يوجعهما كثيراً ، ماذا أقول لهما ؟ ماذا يجب أن أقول ؟
كنت أبكي قليلاً ، وأعود لترتيب الكلمات حيناً آخر .
أتصل بعلياء فلا ترد ، وحين أنظر للساعة أكتشف أنها الثالثة صباحاً ، أبكي مرة أخرى وأنام .
في الصباح أجلس مقابلةً الشيخين على قهوتهما ، أمي التي صارت صامتة أغلب الوقت كانت تشرب قهوتها بعيون مبللة والتلفاز يعرض صور أشلاء الأفغان العرب وأجسادهم المنتفخة تحت شمس لاهبة ، أبي الذي يسترق نظرات لجهاز الشؤم تحت أقدامه أكثر من جريدة ، والراديو يعلن فيه عربي متأنق الصوت أن نشرة أخبار إذاعة لندن بعد دقائق معدودة .
قال أبي الذي يتوتر كلما قارب موعد الأخبار وهو يمد فنجانه لأمي : لماذا لم تذهبي للعمل يا وسمية اليوم ؟
أردت أن أخبره أني أعرف سبب توتره ، وأنه لم يعد من ضمن المشاعر التي يجب أن تسيطر عليه الآن ، أتأمله وأفكر : هل سيبكي ؟
- متعبة قليلاً ، ولا حصص مهمة عندي اليوم .
أقولها وأغادرهما ، ثم أتصل بريم ، أخبرها وأطلب منها إخبارهم ، وألجأ لغرفتي مرة أخرى .

------------------------------------------------------------

أعتكف في حجرتي محتشدة بأكثر من وجع ، وطوال النهار أسمع نحيب أمي ، وحوقلات أبي .
في الليل أتذكر حديثاً قديماً مع الدكتورة هناء .
- ما أخبارك يا وسمية ؟ هل هناك أحلام جديدة ؟
- أبداً يا دكتورة .
- لماذا ؟
- ربما لأني كنت مشغولة الأيام الماضية .
- هذا هو لقد حجبت أحلامك عنك .
- فكيف أعيدها وأعود لها يا دكتورة ؟
- ارفعي الستارة عنها .
أتمدد ، أركّز على عضلات رجلي ، أرخيها ، عضلات يدي ، كتفيّ ، بطني ، ظهري ، وجهي ،عنقي ، جبيني ، ثم أتنفس بعمق : شهيق ..زفير .. شهيق .
ستارة سماوية اللون بيني وعالم الحلم ، أدنو منها ، أحس دفء الأرواح وراءها وأتسمع صخبها ، برفق أزيح الستارة و.. أنام .
في الصباح يعود الحلم القديم ، لا أعرف منذ متى كانت زيارته الأولى لي ، أحياناً أحسه أزلياً ، كانت السيجارة بطلته الدائمة ، كل فترة تطل في مشهد يعاد إنتاجه مئات المرات ، كنت أحكيه لها : دائماً يا دكتورة أرى نفسي أبحث عن سيجارة ، حتى إذا وجدتها انقطع الحلم .
قالت لي يومها : الحلم الذي يتكرر رسالة مهمة . هنا رغبة مكبوتة ، وأنا أستطيع مساعدتك لتحقيقها لكن يجب أن نعرف بشكل جازم هذه الرغبة .
استشعرت في خاتمة الكلام سؤالاً طُرح ضمناً ، قلت : لا أعرف ، السيجارة نفسها حلم بالنسبة لي ، لكن بما أنك قلت أنها رمز لرغبة مكبوتة فقد تدل على أشياء أعمق ، لكني لا أعرف .
- هل تريدين التدخين ؟
- أريد أشياء كثيرة لا تحصل .
- هنا المشكلة ، هذه الرغبة المكبوتة قد تكون خيراً أو شراً ، لذا ربما يجب أن لا نتسرع في التعامل معها .
أحسست ترددها ، قلت : ربما استشعرتْ مسؤولية تجاهي أكبر ، خافت أن تدفعني لتحقيق ما لا يجب تحقيقه ، لذا أمرتني بانتظار حلم آخر أوضح .
كنت أنتظر الحلم الآخر ، وكانت السيجارة نفسها تعود كل مرة ، في البداية كانت عقب سيجارة ( مستخدمة ) ثم حلماً بعد حلم كانت تكبر حتى صارت سيجارة كاملة .
بعد ذلك تمكنت من رؤية علبة كاملة .
بعد عدة أعوام وعدد كبير من الأحلام صرت أصل بالسيجارة لأماكن شبه آمنة ، ولكني قبل أن أشرع في التدخين يأتي من يبدد خلوتي ، فأخفيها لوقت آخر ، وينتهي الحلم دون أن أدخنها .
البارحة حلمت أني ( بعلبة سجائر شبه ممتلئة ) أنزوي في مكان ما وأدخن .
في فترات يقظة طويلة كنت أفكر فيما سأحسه لو دخنت ، أحاول تخيل تلك النشوة ، غير أني بعد حلم البارحة خرجت بقناعة أن طعمها ليس جيداً ، حتى أن شفتاي كانتا مسودتان بشكل مقرف .

------------------------------------------------------------

كبرياء الحرف 08-02-2010 02:22 PM

تابــع
- هل تحدثت معها ؟
- وليتني لم أفعل ..لعلك سمعت بعضاً من صراخها علي .
- ماذا حصل ؟
- سألتها : لماذا لم تذهبي اليوم أيضاً للمدرسة ؟ فقالت : تأخرت في النوم ، وفاتني موعد السيارة .
وأحسست أنها لا تريد الكلام في هذا الموضوع فكلمتها عن ماجد .
- وبدت وكأنها لا تسمعك ، أليس كذلك ؟
- أجل ، قلت لها : هل تعتقدين أنهم سيفرجون عن ماجد ورفاقه قريباً ؟ فمطت شفتيها ، وقالت لتنهي الحديث : لا أدري .
عند هذا الحد لم أحتمل برودها ، وقفت أمامها وقلت : وسمية لماذا تبدين هكذا ؟ قلتها فصرخت في وجهي : كيف أبدو ؟ هل أبدو كمجنونة ؟! كيف يجب أن أبدو ؟! هل هناك مظهر محدد وتصرفات معينة يجب أن أكون في نطاقها حتى لا تتفحصني شقيقتي العزيزة هكذا وكأنني سأنفجر بين دقيقة وأخرى .
- لا أعرف ما الذي يحصل معها هذه الأيام يا ريم ، أنا وأمك قلقان عليها ، لأول مرة لا تهتم بما يحدث ، لا تتكلم وهذه غريبة أيضاً من التي اعتدنا ألا تكف عن الثرثرة ، لم تعد تقرأ منذ الحادثة ، ولا تكتب ، ولا تطيل في مكالماتها الهاتفية ، تلازم سريرها أغلب الوقت ، لا تتحدث عن ماجد ، وتبدو غير مهتمة حين نتحدث ، لا تغادر كعادتها حين لا يعجبها أي حديث ، فقط تنزوي وكأنها لا تسمع كل ما يقال ..نحن قلقون عليها جداً ، لقد خسرنا واحداً ، ولا نريد أن نخسر آخر بهذه السرعة .
حاولت أن أطمئن أبي ، لذا وجدت أن من غير المفيد إخباره عن حبوب الموتيفال التي رأيتها في غرفتها ونحن نتحدث .

----------------------------------------------------

- وسمية أريد أن أحدثك عن صاحبتنا " هدى "
تقولها ونضحك ، ثم تكمل : حددنا موعد الزواج ، وأردت أن تكوني أول من يعرف .
ضممتها بقوة ، كنت سعيدة بشكل لا يمكن تصوره ، هي نظرت في عيني طويلاً ، ثم قالت : لم تسأليني أين يعمل ؟
- هل هو سؤال مهم ؟
بان حزن في عينها ، وهي تقول : مهم ..مهم ..
اصطفت الوظائف التي تليق بمن سترتبط به علياء : أستاذ جامعي ، طبيب ، طيار ، ضابط برتبة كبيرة .
قالت هي : دبلوماسي .
كانت الكلمة رنانة ، حتى أني غضبت من نفسي : كيف لم تطرأ ببالي هذه الوظيفة التي تليق بقرينها ؟!
أرفع بصري إليها وهي ترصد كل جزء فيَّ بحزن فأتفكر : ما المؤلم في هذه الوظيفة ؟ ما الذي يقلقها هكذا ؟
ثم قليلاً قليلاً بدأت أستوعب ..
- علياء ، هل تعنين أنه ..؟
- خارج البلاد ، لا يهم أين ..فمعه لن أكون قريبةً أبداً ..
كانت رياحٌ يابسة تنهبها ، تأخذها مني ، دون كلمة كنت أتشبث في كمها ، أضمها ، ومع أول دمعة على خدي أغادر عليتها .

------------------------------------------------------

- هل تبكين مثلهم يا أمي لأني خالي ماجد سيموت ؟
أضم صغيري غير عارفة ما يجب أن يبكيني ، أقول له : لا يا نادر ، ماجد بخير .
- لكنك تبكين !
على باب الغرفة يقف ماجد ، وراءه علياء ومها ، أتأمل ثلاثتهم ، ثم أضم صغيري مرة أخرى وأبكي .
تدخل ريم فتبدد جمعهم ، وتجلس : هل عرفت ما حصل مع مها ؟
- ماذا ؟
- ضربها ثورك السابق بعد مشادة بينهما .
- هل هي بخير ؟سأتصل بها لـ..
- لماذا ؟
- إنها مها ..
- مها الآن غير مهاك القديمة ، منذ ارتبطت به انفصلت عنك ، وأنت تعرفين ، لو هاتفتها ستظن أنك تفعلين لتشمتي بها .
- مها أعقل البنات ، لن تظن ذلك .
- لن تظن غيره ، في هذه الأيام تحديداً فانسي الأمر .
- إنه يتطور للأسوأ .
- الحمد لله الذي خلصك منه ، أما هي فقد حذرتها من البداية لكنها أرادت أن تجرب .
- هل تشمتين بمها يا ريم ؟
- أبداً ، لكني أردت تذكيرك حتى لا تندفعي ، هي مجروحة الآن بسبب ضربه لها ، ولأنها تعلم أن الخبر مادام ذاع في الديرة فسيصلك بالتأكيد ، لذا فإن اتصالك سيعتبر عندها وعند أهلها نوعاً من التشفي ، وقد تسمعين ما لا يرضيك ، إلا إن كنت تريدين أن تتشفي حقاً فذلك أمر آخر .
حين تخرج أُقعد نفسي على جهاز كشف المشاعر : هل أريد حقاً الاطمئنان عليها أم التشفي ؟

---------------------------------------------------

قالت زميلتي بعد أن تلفتت كثيراً : وسمية سأخبرك بأمر خطير ، على أن تعديني بأن لا تخبري أحداً .
أحاول أن أظهر اهتماماً أكبر حتى لا أضحك من طريقتها المكائدية : ماذا ؟
- أمس كانت المديرة تكتب تقريراً سرياً عن علياء ، ونتائجه ستكون سيئة جداً ، أرجو أن تنبهيها لتتصرف ، وأستحلفك الله ألا تعلم أني أخبرتك .
أضع يدي على كتفها ، أطمئنها ، أريد أن أضحك بقوة هذه المرة وأخبرها أنها تأخرت جداً في تقريرها ، وأنها لن تنال من ورائه إلا عقاب الله تعالى .
أتجه لعلية علياء وأنا أردد " نتائجه سيئة " ما الأسوأ من أن تغادر البلاد كلها ؟!
تتأملني ، تضمني حين أدنو منها ، صارت تفعل ذلك كثيراً منذ خبر زواجها وسفرها ، على مكتبها أطالع مسودة استقالتها ، أردت إخبارها بفعلة المديرة ثم سكت مقتنعة أني لن أكسب من ذلك إلا إيلام علياء .
معها أجمع أشياءها ، وأبلع دموعي ، أسوأ الحزن ذلك الذي يجب أن تغلفه بابتسامات التشجع .
كنا نعمل ونبكي بصمت ، كل لحظة كانت إحدانا تلتفت للأخرى فتضمها بسرعة ، وبسرعة تبتعد لتكمل العمل .
في لحظة نشوة لا أعرف كيف غزتني تذكرتني وأنا أسمعها كلمات نوال :
" لقيت روحي بعد ما آنا لقيتك
بعد اللقا أرجوك لا لا تغيبي
صعبٍ علي أبقى وأنا ما نسيتك
إحساسي كني بين ربعي غريبي "
أردت أن أغنيها ، لكنه صوتي النشاز يمنعني ، وكم الجنائزية في الكلمات يرعبني .
على المقعد الذي جلست عليه أول مرة قبل عام أجلس ، أعرف أن الدموع فات أوان ردها فأنشج ، وحين تهبط يدها على كتفي يتفجر كل ما في من وجع .
" باكية " أتساءل : هل أخطأت الدكتورة تقدير الأزمنة ؟
قالت أن حزناً اختطف روحي ، كان يجب أن تقول أنه سيختطفها .
علياء نوارة عالمي الجديد تروح الآن ، بعد أن فقدت مها ، يأخذهما الألم مني باسم الزواج .

---------------------------------------------------------

في الليل أخاتل النوم ، وكالعادة يأتي أهوج يغمض جفني ليروعني بالصور التي يعرضها ، وفي اللحظة التالية ينصرف كله ويتركني .
في السادسة صباحاً أقرر الاستيقاظ ، أتأمل سقف غرفتي ، نقوشه بدا لي أني لو منحتها إصغاء أفضل فستنطق ، أتركها وأفتح النافذة ، فتطالعني شمس طفلة بدلال تمسُّ زرقة السماء فتجلوها .
قلت : الله يغير أحوالنا إن اجتهدنا ، عدت لسريري ، حاولت استعادة الأوجه القديمة التي كنت أراها قبل سنوات ، قلت سأنظر فيها بقلب رجل وعقل امرأة .
بعد عدة دقائق بدأت الوجوه تفد ، جاءت متحجرة ، ومتهدمة ، فقدت طراوتها القديمة ، وجاءت كأنما تيبست .
عرفت أني أتيت بعد فوات الأوان ، وأني لن أستطيع دخول هذا العالم .

--------------------------------------------------------

المدرسة كلها تستعد لإقامة حفلٍ توديعي لعلياء ، وأنا أخربش في أحد دفاتري :
غريبة لغتنا هذه التي قالوا أنها ثرية جداً حتى أنها لتتكرم على الكلب بسبعين اسماً ، أما ولدت كلمة تليق بوجع المغادرة غير أن تستخدم كلمة " حفل " التي هي مفردة نزقة متباهية ؟!
صوبها أذهب تاركة الترتيبات لمن يعددنها .
- " هلا باللي عجزت ألقى عذاريبه === هلا باللي تحبه كل أسبابي "
كانت ذي تحيتها لي كلما أشرق مزاجها ، وأعرف أنها الآن تقولها فقط لتمنعني من البكاء .
أتشجع ، وأتحدث معها قليلاً وأنا أتأمل المكتب الذي بدأ هو الآخر مظلم البال .
حين أصافحها لأغادر تشد على يدي : ستأتين غداً ؟
- إن شاء الله .
- لن تفعلي أنا أعرف..ودعيني الآن .
أضمها وأخرج .
السيارة يعمها سكون غريب ، كأنهم جميعاً صامتون احتراماً لألمي . هذا الصمت تبدده نغمة رسالة قصيرة في جوالي ، بدا وكأنها أذكرتهم الكلام فبدأت همهماتهم ، أفتحها لأجدها منها " انظري ماذا يوجد في حقيبتك "
في الحقيبة أجد ظرفاً سماوي الطلعة مطرز الحواف بغيوم الصيف الخفيفة ، فيه خاتمها ورسالة .
" وسمية يا أغلى وأحلى العُمر
نحن نلتقي لا لنسعد بل لنتذوق الفراق بطعم أكثر مرارة
اليوم فقط أعرف معنى هذه المقولة ، التقيتك يا الغالية فسعدت ..وسعدت ..وها أنا ذي أفارقك لأتذوق الفراق كما لم أتذوقه من قبل ..لكني رغم ألمه ممتنة للعمر الذي كنت زهرته ..
أتخيل لو أنني غادرت دون أن أعرفك ؟
لا تحزني يا وسمية ، فغدك جميل بي ودوني ، هو جميل بك ، سأغيب وأغيب وتظلين في عمري أملاً وشمساً لا تغيب ..
أحبك حتى أعود
وحينها سأحبك من جديد "
علياء

----------------------------------------------------------

أصرخ في الفراغ الممدود بيننا بسلك الهاتف : راحت علياء يا ريم ..
- ...
أنتظر ردها رغم أنها حذرتني مراراً من جر كلامٍ من فمها لا تستطيع نطقه ولا هو ( كما قالت ) يفيدني .
حين أسمع ارتباكها صمتاً أواصل : غداً إلى أين أذهب حين أدخل المدرسة ؟ مع من أشرب قهوة الصباح ؟ كيف أقضي نهاري إذا لم أحجَّ لعلِّيتها كل يومٍ مرتين ؟ كيف أذهب للمدرسة وعلياء ليست فيها ؟ كيف أعرف أنها مدرستي إذا لم أجدها ؟
- وسمية ، حين ذهبت للمدرسة أول مرة لم تكوني تدرين أنها فيها ، لم تذهبي لأجلها .
كانت علياء قد قالت لي نفس الكلام قبل وداعها ، وكما رفضته أرفض أن تكرر ريم بقيته التي انسابت من لسان علياء " إذا كان المكان قد منحك جميلاً فهو قادر على منحك الأجمل غداً "
أريد أن أقول لهما أني لا أريد إلاها .
ريم تحاول أن تكون مقنعة وهي تقول : المدرسة ستظل هي المدرسة وهي ..
- مدرستي علياء .
أقول ذلك لي وحدي ، وريم التي لم ينبت لها بعد اللسان الذي يمكن أن تواسيني به تسكت ، لا تحاول أن تعاود الاتصال .
في الليل ( في كل الليالي التالية ) أبكي حتى ما يرحمني النوم فيأخذني لدياره .
في بعضها أخاتل الوجع ، أتلهى بالقراءة ، ألعب الورق ، أشاهد كل الأفلام القديمة ، ثم أندس بصمت في سريري ، وفي آخر الليل أقوم شرقانة بدموعي .
تعودني ككابوس جملة علياء الجُرح ، في آخر لحظة في المكان تلفتت وخاطبته : " بعد قليل سأصبح فيك من الذكريات "
كل ليلة أتحسس وجه علياء في صورتها التي أهدتني إياها قبل أن تغيب ، أتذكر أني زمان وجعها هي كنتُ بيقين أردد لها أن الغد أجمل ، وأني كأنما أرى ذلك اليوم الذي ترتفع فيه على هذا المكان ، وتغادره صوب السعادة .
ها هو غدها الأجمل يأخذها مني ، ما كنت أدري أن ذي ستكون ضريبته ، ما كنت أدري أني على مهلي ووحدي سأسدد فاتورته .
تقول لي علياء قبل أن تغادر أن فراقي سيوجعها أكثر ، وأعرف أن وجع المغادر تمحوه الأيام ووجع القارِّ يظل ينكؤه المكان بساديته .
تقول لي ريم : أنتِ علمتني أن علينا أن " نسعد بالأصدقاء ولا نحتاجهم "
وأصيح : تباً لكل ما قلته إن كان لا يحميني من الألم .

----------------------------------------------------------

البارحة أضم زاهي لصدري ، ثم أضع مطير ومارق في حجري ، وبجوارهما أضع الثلاثة الباقين دون أسماء ، أتحسس وجوه الجميع ، أناديهم بصدق ، أطلب منهم أن يخرجوا من الدائرة ، أن يأخذوني لأخرجهم ، ثم أحاول النوم .
هذا الصباح أقلب ذاكرتي فلا أجد حلماً .
أجد الأوجه الحبيبة : علياء ، مها ، وماجد تملأ شاشة أفكاري ، ثم تجذبها قوة سحرية للخلف ، للعمق ، حتى تختفي .
أومن أن لذلك كله معنى ، وإلا فكيف يمكن تفسير مغادرة كل من يشغلونني وأحبهم ، لابد أن لذلك هدف ، ربما الهدف أن أتفرغ لأخرج الأولاد وأقف مع الولد وأمه وأحميهما من الوحش ، ربما الهدف أن أقتل الوحش لأتحرر أنا .
النهار كله بلا حلم ألازم سريري بحثاً عن بادرة تقربني منهم .
فجأة سطع وجه الدكتورة في بالي بقوة ، أحسستها منقذي الوحيد .
أحمد الله أن هواتفها مازالت في الذاكرة ، أضغط الأرقام ولا أعيد تخزينها في الجهاز ، وكل مرة قبل أن يرن هاتفها أقطع الاتصال ، وأهرب من غرفتي .

----------------------------------------------------------

ساطعٌ كنبوءة ، واضح كإشارات الفأل السيئ ؛ وسمية في عيادتي تحاول ارتداء معطفي .
الغريب أنها مختفية من فترة ، غيابها علامة أخرى سيئة ، يجب أن أتصرف بسرعة .
على أريكتي أستلقي ، أسترخي ، شهيق ، زفير ، وجه وسمية بدأ يظهر بشكل واضح .
- وسمية اتصلي بي الآن .
بعد أن أنتهي من جلسة التخاطر هذه أفكر فيها ، لقد أحببت هذه الفتاة حقاً ، لكن هل يجب أن يجعلني هذا الحب أُغفل تنبيهاً كهذا ؟!
- د. هناء وسمية على الخط ؟
- حسناً اذهبي أنت ، سأرد عليها من هنا .
أرفع السماعة : هلا وسمية ؟ ما أخبارك ؟
- أخباري أكثر تنوعاً من أن تحكى الآن ، دكتورة أريد أن تساعديني ، أريد إخراج الأولاد الثلاثة الباقين من الدائرة ، أحس أني هكذا فقط سأتطور ، وتتغير حياتي بشكل أقوى .
أفكر قليلاً ، البنت تعرف طريقها أكثر مني ، يبدو أن انطلاقتها ستكون من هذا الحلم تحديداً .
أستجمع ما يمكن أن أحشد به صوتي من ثقة وأقول : يا وسمية ربما يجب أن نتكلم بعقلانية أكبر ، الأحلام ليست حكايات ، ليس شرطاً أن تكون لها نهايات سعيدة ، بل ليس شرطاً أن يكون لها نهايات .
- دكتورة هناء هل فقدت قناعتك بأحلامي ؟ أم بالأحلام كلها ؟
- لم أفقد قناعتي ، لكن لا يجب أن ننتظر من الأحلام أن تترك عالمها الأثيري ، وتنزل لعالمنا لتحل مشاكلنا ، أحياناً يجب أن نتصرف نحن ، ونتحمل مسؤولياتنا .
أحسست وهي تودعني أنها مازالت مصدومة ، أشفقت عليها جداً هذه البنت المختلفة .
أتنفس مشاعري كلها مفزوعة من لونها البني الكثيف ، ثم أنادي الخادمة .
- لا أريد أن أسمع صوت وسمية مرة أخرى .
- ok مدام .



تمـــــــــــــــــــــــــتـــ ,,,,,

صاحبة الأميرة 08-12-2010 12:09 AM

مشكوووووور والله يعطيك الف عافيه


الساعة الآن 05:35 PM.

Powered by vBulletin® Version 3.8.9
Copyright ©2000 - 2025, vBulletin Solutions, Inc. Trans by
الحقوق محفوظة لمنتدى قرية المصنعة 1426هـ

1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75 76 77 78