(2)
موعد إرسال مقالتي الأسبوعية للجريدة حان و الباكية لازالت بين عيني ،كالعادة أحاول الكتابة إلا فيمايشغلني ، وكل كتابة أيضاً أنهزم . قرَّبتُ أوراقي وسجلت تحت عنوان " باكية " :
" كل مرة لا أقرأ قصيدة مالك بن الريب في رثاء نفسه حين أقرؤها بل أحياها،وألقاني مشدودة لبيت فيها ما أظنه يحسب في ميزان جمالياتها. ذاك الذي فيه مالكالفارس المغترب يواجه الموت وحيداً نائياً يرعبه خلو آفاقه من أحبائه يتفجع شعراً :
" تذكرت من يبكي عليّ فلم أجد "
وهو يريد كل الدموع: العاجلة، الآجلة ؛أغزر ما قد تجود به أعين من دموع .
يستنـزف بدءاً دموعاً ممن لا أعين لهم : يُبكّي سيفه.. يبكّي رمحه ولا يكتفي.. يبكّي فرسه ، ثم لا يكتفي . يجتلب خياله صورقريباته البعيدات يحشدهن حوله: أم وابنتاها وخالة ، وقرينته، وابنته، وبماسوشيةتليق به وحده يجسد لهن ميتته التي لن يفينها حقها نياحةً ما لم يرينها، يبلغهن ألاّتلاقٍ بعد اليوم فيستجبن ويبكينه ولا يكفيه ؛ كل الدموع المنسربة من الأحداقالحبيبة لا ترضي إحساسه بقيمته كمفقود فيفرد بناحية مجلساً لباكية أعلى صوتاً ،باكية أخرى تهيج البواكيا كلما جفت مآقيهن أنشجتْ فرفـعت فيهنالوجع بكاءً يبدأ كيلا ينتهي .
ذا ما كان يشدني في القصيدة، كلما قرأتها توقفت عند بيته الذي حوىذي الباكية وتناثرت استفهامات بعدد أحرفه : ترى من هي؟ قيل لي : قد تكون زوجته ،وقيل : بل ابنته ، وقيل أنها ربما هي حبيبة ما أراد فضح اسمها وما تطاوعه نفسه إلااعترافاً بوفائها الـ باكِيهِ . لكني بعد كل قراءة للقصيدة أخرج أكثر تشككاً فيشخصيتها.
اليوم حين استرجع القصيدة وبيتها الـ.. يعاودني استفهامي، لذا أجدنيأخط رمساً تذكارياً لمالك قرب مرابع أهله بداخلي ثم أصفُّ باكياته حوله فإذابالباكية المجللة غموضاً تنبتُ بطرف المكان، أقترب منها قبل أن تبدأ مهمتها الأهم ،وبتردد أرفع النقاب عن وجهها فيتكشَّفُ عن ملامح كملامحي ! "
ريم لما قرأتهاسألتني : أهذا ما حدث ؟
_ الحقيقة أني لما رفعت الغلالة عن وجه الباكية كانوجهها بلا ملامح ، أما كونها أنا فـقد أحسسته فـقط وأنا أكتب المقالة .
تظهرالزاوية في موعدها فأحزن ، وكلما أردد النظر فيها أحزن أكثر ، قبل الكآبة بمسافةواحدة يصلني طرد بريدي أفتحه وفي سجل يومياتي تلك الليلة أكتب : " حقاً المصادفـاتلا تحدث مصادفـةً ؛ برنامج التطوير الذاتي (السعادة في ثلاث شهور ) الذي طلبته منفترة طويلة تأخر جداً ليصل في أنسب وقت ، حين وجه الباكية يحاول ارتدائي "
-------------------------------------------------------
ذات زمانقديم قالت ريم حين تبكين أعرف أن أمراً خطيراً جداً حدث . هي تعرفني جداً وتعرف أنباستطاعتها أن تعد في لحظة المرات التي رأتني أبكي فيها . أما أنا فأستطيع حصر مارأت منها وما لم تره ..
أطرف المرات التي بكيت فيها كانت في بداية احتكاكيبعالم الدكتورة هناء ، كنت أقرأ مقالاتها فتشدني ، أنتظرها في مواعيدها ، أجمعقصاصاتها، أعرضها على بعض صويحباتي في المدرسة .أعني البعض الأقل منهن ممن يقرأ .
كنت بينهن قلما أتحدث فلا أستشهد برأي قرأته لها حتى عرفتُ بحماسي لكل ما يصدرعنها .
من ناحية أخرى كنت أسمع من صديقة الكثير من أفكار الدكتورة التي لاأجدها في مقالاتها، كانت الأفكار عبرها أجمل ، أقرب، أفصح ...
صارت فكرة مقاربةعالمها تلح علي ،طلبت منها رقم الدكتورة فتمنعت ، ما أرادت أن تغضبها ربما ، لكنهاأعطتنيه أخيراً ، هاتفتها فرحبتْ ثم اعتذرت بأنها مشغولة .
بعد أيام قرأت مقالةأخرى لها في الجريدة تحدثت فيها بشكل رمزي عن مفهوم القيم في عصرنا وأن لا أطرواضحة له ، وقتها كنتُ مقتنعة أن ذلك غير صحيح إطلاقاً فوجدتها فرصة لأثبت لها وعييومعرفتي . مقتنعة بعدُ أن لا سبيل لإثبات التميز إلا المخالفة ، دبجت لها تعليقاًبأسلوبي الأدبي الراقي انبهرت أنا به قبل أن أرسله،ثم .. إلى فاكسها مباشرة .
هاتفتها منتظرةً تقريضاً يليق بي.. بمجرد ما سمعتْ اسمي سألتني غاضبة : ماذاتريدين مني بفاكساتك واتصالاتك ؟
كان سؤالاً طعنة تحشرجت إجابته في حلقي ، خرجبعضها تمتمة والتصق باقيها بلهاتي مرارة ظلت في روحي يومين متتاليين.
تساءلتولولا خوفي منها لسألتها : ما خطأي ؟ .
انفرط وجعي دموعاً خرساء ، استشفتها هي، حاولت التخفيف عني حين الوقت فات لثنيي عن دخول مدينة الألم .. أذكر الآن كلمتهاالحنونة : ماذا أفـعل لتكفّي عن البكاء ؟
ماذا تفعل ؟ حين أبكي لا أريد إلا أنتغمض الدنيا عينيها فلا ترى ضعفي .
أغلقت السماعة بعد أن طلبتْ مني أن أهاتفهامتى شئت..
في ذلك المساء أخواتي لاحظن أني أغوص داخلي بين حين وآخر ثم أعود وقدشرقت عيني بمائها.
ربما سألنني فما أجبت ، كنت فقط أتذكر أني أردت قربهافأغضبتها وقدمت نفسي لها في أسوأ صورة ، ربما مذ ذاك الوقت أو قبله اقتنعت أني لاأُحْـسِن ترك انطباعٍ جيدٍ عن نفسي في المرة الأولى مع أيٍ كان ..
أوجع البكاءلا في حينه بل في ذكراه دموعي التي رآها قريني السابق ، ذاك الـ غادرته منذ سنوات ،ذاك الـ رآها فأساء فهمها ولم يقدّرها ..
أمامه فـقط لم أُخف دموعي ولم أخجلمنها ! أحيانا أتساءل لم هو بالذات ؟ أهو الحب ؟ ألأني أحببته ؟ فهل الحب ضعف ؟ أمهو استساغة إظهار الضعف ؟
" البكائيات الأخرى كانت أخف تأثيراً في آنها ومداها" أقرر ذلك والحلم وكلام الدكتورة بين عيني ، وأنا أريد أن أحتج : أروحي مختطفةبالبكاء ؟! المرات المعدودة التي بكيت فيها طوال حياتي لا تؤكد ذلك .
الدكتورةتقول أن بكائي ذا " حزن " حزن اختطفت روحي به من خمس حيوات سابقة ..
قلتُ لنفسي : " الجهل أفضل من بعض المعرفة " و بذي القناعة ألجمتُ جوامح استفهاماتي عن " الحزنالمُتخطّف لروحي " أقد بان فيما مضى من عمري أم محله الآتي ؟ وهل من أمل في أنأتحرر منه ؟
-----------------------------------------------------------
فيغرفة أخواتي قرب الباب أقف . أنظر للصالة . عينها الذئب غافية ..بمزيد من التحديقأمرن ناظري على اعتياد الظلمة مترقبة بفزع مجيء أحدٍ ما ، أحسه سيهبط من الأعلى ،عيني على السلم ، من آخر درجاته قد يبزغ الآن ..
شقيقي الأصغر "سعود " خلفي فيالغرفة يحادث ريماً ، لكني أراه اللحظة التالية آتياً من المطبخ ! أريد أن أسأله : كيف ؟ فـ… ينبتر الحلم .
بعيون مواربة بكسل أعيد ترتيب صور العالم من حولي وأناللتو أفترش بساط اليقظة ، متمتمةً بلاوعي : " أهلاً يـا مطير .. أهلاً يـا مطير .. أهلاً يـا مطير .."
يتردد صدى الكلمات في رأسي. أعيه فأنتفض ، أتلفف بلحافيخائفة من ذا المطير الذي أرحب به ولا أعرفه، أخاف أن يهجم علي فيعيق لحافي هربي لذاأطرحه برعب . أتلفت حولي ، أوقن أنّ وحشاً هلامي التقاسيم في الخارج سينقضُّ متىأحس بصوت في أي مكان ، أستعيذ بالله من الشيطان ، أحاول أن أتنفس بعمق فيلتهب صدري، ويتجمد جبيني . أنظر للساعة في انعكاس الضوء الخافت من النافذة فأجدها الحاديةعشرة والنصف . أحمد الله مطمئنة نفسي أن الدكتورة بالتأكيد لم تنم بعد .
برعبأتسلل إلى مكتبي ، أحاذر أن أصطدم بشيء من أثاث الغرفة في الظلمة فينتبه الرابضخارجاً .بأصابعٍ مرتعشة أتحسس وجه الهاتف البارد .
يأتيني صوتها مُرَحِّـباًفيتبخر الوحش غيظاً وجبناً وأهلوس أنا : دكتورة .. دكتورة ..حلمٌ آخر.. حلم ليس فيهما يخيف لكني خائفة .. " أنا لم أفهمه ، قد لا يعني شيئاً "
بعد أن أغلقالسماعة يتسرب الخوف لداخلي مجدداً فأهرب لغرفة شقيقاتي ، أتطلع في وجوههن التي لميجعدها حلم كحلمي الليلة ، ثم أعود لغرفتي .أستلقي في سريري. أقطّـع هواجسي بكلالتعاويذ التي أحفظ والتي أبتكرها للحظتها .
---------------------------------------------------
_ مطيراً ؟تقولين مطيرا ؟ ما هذا الاسم ؟!
تتـعالى ضحكتي المغتبطة بي في وجه مها : اسأليالحلم.
حين أتعقل أكثر أقول لها : كما قلتُ لك استيقظتُ لأجدني أردده... تصدقين ..؟ الدكتورة أيضاً سألتني نفس السؤال فأخبرتها أنها المرة الأولى التي أسمع فيهاهذا الاسم !
قالت مها : بسم الله .. كأنه اسم " جني "
ضحكت مرة أخرىوأخبرتها أن الدكتورة أكدت أنه أحد الأولاد الخمسة المختطفين .
_ هيَّا يا مهاباركي لي ؛ حررنا واحداً .
- مبروك ولكن ما علاقة هذا بالحلم السابق ؟!
- في الحلم السابق كنا فتحنا الرسالة الثالثة في الترتيب ( أطلقنا الولد الثالث ) وهذا اسمه " مطير " الدكتورة تقول أن خروجه من المطبخ له دلالته ( من مطبخ روحي خرج )
- وأخوك سعود ما علاقته بالموضوع ؟
- الولد يشبه سعودا في صفاته ..
سألتني مها عن صفات سعود ( أبرزها ) فبدأ عدد من صورنا العائلية يومض أمام عيني، في ثنايا الصور يندس سعود ، طفلاً تتآمر ضد شخصيته الرجولية قامته وسني عمرهالمعدودة فتظهرانه أصغر مما هو..
مع تتالي الصور تبزغ ببالي فكرة عجيبةلِجِدَّتِها ؛ هذا الكائن نصف الرجل ونصف الطفل تقول نظرات الأهل في الصور أنه يحظىباحترامهم أكثر من غيره من الأشقاء الأكبر ، في صور المشاحنات العائلية لا يكاديُرى ، وحين يحشر في إحداها لا يبدو أن هناك من يستطيع أن يدوس إصبع رجله الأصغر .
ألملم الصور وأعيدها لعتمة الذاكرة ولمها أُصرّح : أكثر ما يميزه استقلاليتهالتامة.
أضغط السماعة وأؤكد : كذا قلت للدكتورة ، وهي قالت : إذاً فهيالاستقلالية ، وقد أمّـنتُ أنا متذكرة أن هاجسها الذي ظللت الأعوام الخمسة الماضيةأمسّده في داخلي هو ما يسيطر علي هذه الأيام بصورة أنا نفسي أتعجب منها .
مهامفجوعة قالت: استقلالية ؟! أكثر من استقلاليتك الآن ؟! مساكين أهلك لو كنتِ ولداًلكانت المصيبة أهون ، لو كانت الديرة أخرى لكانت المصيبة أهون .. مساكين أهلك ؛كممن المتاعب سببتها لهم جرياً وراء الانعتاق !!
العزيزة مها الفتاة التي ماعرفتها إلا مسالمة ، من غيرها يفجعه حديثي عن استقلالية أكبر ؟!
مذ عرفتهازميلة دراسة ما ارتفع صوتها في خصومة ، ولا تعصبت لرأي تطرحه ولو كان الأجمل ،وكثيراً ما هو..
فتاتي السمراء النحيلة الطويلة كان كل ما فيها انسيابياًتماماً ، لاشيء نافر فكيف تتعاطف مع النافر ؟ لكنها دوماً تفهمني قدر ما أريد ،وتحبني للحد الذي أريد .
------------------------------------------------------
الأيامالتالية للحلم الأخير ألزق صورتي وصورة سعود بمخيلتي متجاورتين وأحاول أن أصلللاختلافات والمشتبهات الجديدة والقديمة بيننا .
سعود أكثرنا في العائلةتحقيقاً لرغباته ، هو لا يصادم أحداً إلا نادراً ، يجيد الالتفاف على كل العوائق . قليلاً ما يقول لا ، ورغم ذلك فهو لا يفعل غالباً إلا ما يريد !!
هذه الأيامبدأت أفكر في هذه الصفة التي بها كان يخترق قوانيني حينكنتُ شرطية العائلةالمتفرغة لهذا العمل وحده ، أفكر فيها فأتمناها عارفة أني لو كنت امتلكتها لربماتفاديتُ مشاكل كثيرة في البيت ، وفي المدرسة وأني لو أمتلكها الآن لتفاديتُ عواقبصداماتٍ تباري خطواتي في عملي الجديد كما فطرٍ سام .
قبل مدة حلمتُ أني فيسيارة مسرعة على طريق جبلي ، كان الطريق على ضيقه مزدحماً بالجِمال . أصطدم بهاواحداً بعد الآخر ،كلما ناطحني واحد نطحته بجبين السيارة ، الجمال كما في ألعابالبلاي ستيشن تفرقع ثم تختفي .كنت خائفة قليلاً من النتائج ( قليلاً فقط ) قلت : بدلاً من أن أصدمها فلأجرب أن ألتفّ حولها وأكمل سيري.
أقرر ذلك في اللحظة التييظهر في منبت الطريق جمل أسودٌ ضخم . أتفاداه فأسلم .
أروي الحلم للدكتورةفتبشرني بتغير في شخصيتي التي سأحاول أن أنـزع عنها شارة الصدامية لتصير مثل سعودتحصل على ما تريد وقتما تريد بأقل قدرٍ من الخسائر .
حتى اللحظة بعد كل موقفعنيف أجتازه أعود لي . أسترجع الحدث أنـزع صورتي منه ، و ألزق صورة سعود فتختلفالأحداث .وأقتنع أن ثمار الحلم لم تنضج بعد .
-------------------------------------------------------
قلت لها : " أتريدين أن تكوني من أبطال الحرية ؟! أتعرفين أين هم الآن ؟ تماثيلهم في الشوارع، أما هم فـقد ماتوا ( قُتلوا ).
هل هذا ما تريدينه لنفسك ؟! يا بنتي مذ بدأتِالتدريس قلتها لك كلمة لم تعيها وقتها : حين تهب الريح اخفضي رأسك حتى تمر ، لنيضيرك ذلك في شيء . وحدها الأعشاب الصغيرة تبقى بعد العاصفة .تذكري ذلك "
كنتأراها تشوه علاقتها مع مديرتها في المدرسة فلم أحتمل ، نسقت كلامي جيداً ، وحكيتهلإحدى شقيقاتها قبل مواجهتها لأتلمس معها ردودها المحتملة .
نعرف جميعاً أن ليعنق عادات وسمية أمر أقرب للاستحالة لكنني قررت أن أحاول ..
ناقشتني قليلاًوأنا ألقي درسي عليها ثم سكتت ..
خرجت مسروراً في تشكك كالعادة ، لكنها ( وكالعادة أيضاً ) قصفت عمر فرحتي ؛ سمعتها تحادث صديقة لها ، تروي لها ما دار فيجلستنا ، ثم تقول : ذاك أبي وتلك كلماته القديمة ، يظل يأكل بها أذني آن كل غلطة ،ثم يسرد حكايات مقتطفة من سيرته لأخذ العظة ، أبي شبه الكامل في سلوكه أحبه ، وأكره صورة الرجل المثال التي يصر على أن يوشِّح بها سيرته ، أنفر من ذلك أكثر إنكان السياق انتقادات لسلوكياتي المصادمة للسُّلطة أنى كنت .
لم لا تشبهني الآن؟! لم لا تشبه أخاها سعوداً ؟!
أحياناً أتذكر فورة شبابي فأقول : ربما حاولتفلم تستطع ، مراتٍ أومن أنها لم ترد بعد بالشكل الكافي .
اليوم عرفت أنها لايمكن أن تريد..
حكت لي أمها حادثة حصلت معها اليوم في المدرسة .
" قابلتْزميلة لا تكاد تحتك بها ، استعرضتا آخر مستجدات تجبر مديرتهما وما يجب أن تفعلا ،قالت وسمية أنها كانت محبطة وتظن ألا مجال لفعل شيء ، فظلت تلك تتأملها ، ثم قالت : هناك حكاية أحكيها دوماً لطالباتي ، يقال أن فيلسوفاً سُئل ذات مرة " هل تُغيِّرنقطةٌ مجرى النهر ؟ " أتدرين بم أجاب ؟
بعد لحظات صمت تشويقي سألتها : لو كنت مكانه يا وسمية بم كنتِ تجيبين ؟
تماماً جاء الرد على مقاس أفكار وسمية ، قالت : بالنسبة للنقطة فيكفيها شرف المحاولة ، ثم .. مادامت واحدة قد استطاعت السير عكسالاتجاه فيمكن أن تلحقها نقاط أخرى كثيرة .
نفحتها الأخرى إطراءها ، ولم تدرِأنها إنما كانت تعبر عن نفسها ؛ الصدامية ، المخالفة ، ثم تلك الثالثة التي ينطقبها لسانها المتغطرس دفاعاً عن فعلة جديدة لم ترتكب قبلها " اعتدتُ أن أشق الطرق لاأن أسير فيها "
كم مرة صادمتني أنا ؟ لعل من الأسهل لو سألت : كم مرة امتثلتوأطاعت ؟!
---------------------------------------------------
ـجميلة صورة بطلة الحرية التي أسبغها أبوك عليك يا وسمية .
ابتسمت وقالت متفلسفةكما هي دوماً : هذا الجانب فيَّ لا يعرفه أحدٌ كما يعرفه أبي يا مها ، أكاد أجزم _ رغم الصورة المسالمة التي يرسمها لسانه له _ أنه حاول في زمان كنتُ فيه أصغر من أنأعيه أن يتصرف بما تمليه روح بطل الحرية ، وأكاد أجزم أنه لقي في ذاك الزمان ماألقاه أنا ابنته وامتداده من ضرائب نشدان الحرية .
أحياناً حين ألجأ للدكتورةوقد أدخلت نفسي في مأزق جديد ألاحظ أنها أيضاً لا تريد لي دور بطلة الحرية ، فأقولأنه هاجس الأبوة والأمومة في الاثنين يريد لي السلامة ، لكني كل مرة لا أَسْلمُ ( لا أحاول )
أتذكر كلمتها عن والدها حين قالت أنه مريض بالألفة ، وأفكر أنهاربما مريضة بالاختلاف ..
هذه القوة غير الموجهة فيها أخاف منها وعليها ، وحينأحاول إقناعها بالعدول عما أسميه تهوراً لا تغضب لكنها تقول بشموخ يبدو مضحكاً : هيإرادة الله ، ثم تعود لتقص علي حكاية حلمها النبوءة كما تسميه .
تذكرُ برهبة ( غير متناسقة مع سيرتها ) عن تلك اليد الضخمة التي لا تشبه يداً بشرية تعرفها ، التيكأنما تنزل من السماء مفرجةً ما بين أصابعها ..
ولا تنسى أن تذكرني أنها نزلتفي ليلة عصيبة ، هلهلت فيها شباكاً أحاطها بها السيئون الموترون من عدالتها .
أكاد أكمل عنها فأقول : " وأخبرتِ الدكتورة بالحلم فأمرتك أن تقتربي منهاوتسأليها ما تريد ثم تنامين ، دون أن تلمسيها لأنك ودكتورتك لا تدريان بعد أخيرٌ هيأم شر ؟ "
أود أن أفعل ، لكني أحبها ، ولا أحب أن أغضبها ..
أتابع عينهاالمرتفعة صوب زاوية رأسها اليسرى وهي تهبط قليلاً لتتجه صوب أذنها مستخرجة كلماتدكتورتها : من قال أن عصر المعجزات انتهى ؟! تلك يد سماوية يا وسمية ..
ورغماعتيادي المشهد كله إلا أنها تفاجئني كل مرة بصوتها وهو يعلو مردداً " يد سماويةلوسمية "
أبتسم ، أهز رأسي مبددة نبوءتي السوداء ( تمثال غامض لامرأة أظننيأعرفها في أحد ميادين بلدنا )
كل مرة يقرر فيها دور بطل الحرية أن يلعبها يغرربي بفكرة النقطة المتفردة التي تسير عكس اتجاه مجرى النهر ، أحياناً يطمئنها بأنتلك اليد ستهبط مرة أخرى لتنقذها ، تاركة أمر حساب النتائج إلى حين تهطل .
الأسوأ أنها أحياناً تورط معها غيرها .
قالت مرة وهي تغرر بأخرى : التغييرابن الروح الجماعية وإن كانت شرارته فردية .
أقول لها حذر أن تلتفت لي : دعيعنك من لا يريد أن يفعل ، فتتحمس أكثر ، تهتف : آن كل مغامرة لا أريد أن أحرم منحولي لذة إزالة قشرة الرماد عن فوهات مكامن القدرة فيهم ، طاقة التمرد تكاد تكونالوحيدة بين طاقاتي التي لا يحتملها جسدي وحده ، وسواء أذنتُ أم لا فهو في كلمناسبة يبثها في كل جسد يدانيه .
--------------------------------------------------
فيم لم تشبه سعوداً بعد ؟ في التركيز على الهدف ، والبعد عن المعارك الجانبية أو المعروف حجمخسائرها مسبقاً ، رغم حلم السيارة المجنونة التي تحلت ببعض العقل مؤخراً إلا أنهالازلتها تلك التي تنطح كل جمل في الطريق مقتنعة أنها أقوى منه .
فيم يشبههاسعود ؟
الاستقلالية التي لا زالت تنشد المزيد منها .. حقاً مساكين أهلها لوكانت ولداً لكانت المصيبة أهون ، لو كانت الديرة أخرى لكانت المصيبة أهون .. مساكينأهلها ؛ كم من المتاعب ستسببها لهم جرياً وراء الانعتاق !! مساكين ..