عرض مشاركة واحدة
قديم 07-28-2010, 04:49 PM   #3
مشرفة ورقآت أدبية
 
الصورة الرمزية كبرياء الحرف
 
تاريخ التسجيل: Sep 2009
المشاركات: 2,036
Smile

بعينيه المفتوحتين علىاتساعهما سروراً أبدياً ، وشعره الأبيض الذي لم يفلح في تغطية عمره الصغير ، وخديهالأحمرين ، وحاجبيه المقوسين بشقاوة حبيبة ، بثوبه المرقش وقبعته العالية التي هيحديقة الألوان كلها ،بيديه الصغيرتين واحدة ممتدة لي لتسلمني راحتها ، والثانية منمجلسه الذي لا يفارقه على مكتبي جنوباً صوب مقر عملي تشير فيما يردد كله : تفضليإلى قلب علياء ، وأهمس له حتى لا يسمعنا أحد : عساه مكاني أبداً يا زاهي .
هيأهدتني إياه ، لم يكن قد مضى على معرفتي بها أكثر من ثلاثة أشهر ،كانت علاقتنا فيهاتتوثق بصورة سريعة جداً .
قبلها بأيامٍ كنت أحدثها عن صديقةٍ قديمة فقلت أنيدوماً أفسد علاقاتي الجميلة . كانت هذه كلماتٍ مطمئنةً لها جداً !! صمتنا كلتانابعدها، ثم عوضاً عن أن أصحح غلطتي انبريتُ قائلة : الله يستر !
بسرعة هتفتْ : كنتُ سأقولها ..
لفنا الصمت أخرى حتى قالت ضاحكة : ولكن لماذا \" الله يستر \" ؟
لمست في سؤالها رغبتها في أن تستدرجني لاعترافٍ أولٍ بمكانتها في نفسي ، ولأنيمدينة لها بأكثر من اعتراف قلت في محاولةٍ لمحو خطيئتي السابقة : لأن هناك علاقةجديدة جميلة تتشكّل وأخاف أن أفسدها .
بشقاوتها التي أحب قالت : إذاً احرصي علىألا تفـعلي ..
ليلة رأس السنة الهجرية الجديدة قالت لي : غداً منذ الصباحتأتينني في مكتبي .. سأنتظرك .
من السيارة أهبط وأنا أستعيدني تفاصيل حركتيخلال الدقائق الخمس التالية قبل مكتبها علني ألتقط خطوة مطولة فأختصرها ، كنت حريصةعلى أن أكون - كما وعدتها البارحة - الأولى في مكتبها الذي يزدحم منذ الصباحبالجميع ، أدخل الغرفة وابتسامتها الحبيبة تلقاني ، تأخذ يدي بيديها معلنة أنهادخلت مغمضة العينين حتى يكون وجهي أول وجه تراه مطلع العام !!
من ذا البعدأتساءل : هل كان وجه سعدٍ عليها وجهي ؟ لولا خوفي من إجابة تؤلمني جداً بصدقها أوتجرحني بمجاملتها لسألتها...
ذاك الصباح من تحت مكتبها أخرجتْ الجميل الصغير ،أرجحته في الهواء ممسكةً بقبعته المخروطية ، مدتني به فتلقفته بيدي الاثنتين ،أتأمله وألملم أطراف لساني لأجد ما أعبر به عن امتناني .
يهرب حرفي المناسباتيفلا يسعفني غير سؤال ربما كانت هي تنتظره ، قلتُ : إلام تشير يده هذه الممدودة ؟
نظرت في عيني وقالت : تقول تفضلي إلى قلب علياء .
أرتبك فتسألني : ماذانسميه ؟
-ماذا نسميه؟ هذا الصغير الزاهي .. ماذا نسميه ؟
وضعت يدها علىكتفي وهتفتْ بغبطة : زاهي .
زاهيها / زاهيّ / زاهينا زهـى في بالي لما قالتالدكتورة أن عالم الروح يحب الرموز وأن علي أن أجعل للولد الذي حررته ( تقصد مطيراً ) رمزاً عندي وأحسن معاملته ؛ أكلمه وأطلب منه أن يدعو أخوته الباقين للخروج .
أحكي للدكتورة عن زاهي ، أصفه بسرعة وأسألها إن كان ينفع أن أجلب واحداً يشبههليكون الرمز الذي تتحدث عنه فترحب ..
في السوق أبحث عنه ، و أُعِدُّ له لسانيالمجنون .
وفي البيت أنظر للمهرجين الصغيرين الذيْـن جلبتهما ، أرفع أخضرهماوأقول : أنت مطير ، والثاني سيسمي نفسه حينما يخرج من الدايرة .


-----------------------------------------------------------

ريمتتفحص الصغيرين الملونين ، وتسألني : مادام قد خرج واحدٌ من \" جنك \" فلماذا أحضرتمهرجين لا واحداً ؟!
_ لأني أتوقع خروج الثاني سريعاً فأريد أن تكون صورتهالمجسدة أمامي حتى إذا أراد أن يجيء لا تظل روحه تحوم في المكان ما تلقى جسداً تحلفيه .
أصد عنها وأنتظر خروج صغيري الذي لم أحدد بعد مشاعري تجاهه . أناجي الأول :\" غداً يا مطير حين يخرج كل رفاقك سأغدو أجمل \"
أقعده على راحتي وأضع عيني فيعينه : \" مطير هل أنت حقاً _ كما يقولون _ جني ؟
أتدري .. كلما يتكلمون فيمجتمعي عن الجن أحسه عالماً مبهراً لشدة غموضه . أحياناً أشك في كل الروايات التيتحكي عمن يتلبسهم الجن .. حتى حين أُصدّق أصدّق بحذر ، ثم أرجع لعقلي وأردد : لمأرَ شيئاً بعيني إذن لا شيء قاطع في هذا الشأن .
بعض السود في المدرسة (حين أناطالبة ) كانت الزميلات يتهامسن أنّ فيهن جناً ، البعض ( حين أنا معلمة ) يحكين عنقريباتهن المسكونات ، لكنَّ واحدةً لم تقل ذلك عن نفسها ..مراتٍ أتمنى _ لو علىسبيل التجربة _ أنْ أُحسُّ لمرة واحدة فـقط بهم ..
أُومئ إلى \" ليلة الجن \" التي حكت لنا أمي عنها فينفض مطير رأسه المخروطي مستفهماً : ما قصة ليلة الجن ؟أجلسه على طرف سريري . أداعب أنفه الأفطس وأبدأ روايتي :
\"حين كنا صغاراً كانتأمي في أماسي الصيف تروي لنا الحكاية التي لا نملها تقول : \" كانت جارتنا معروفةبكونها مسكونة ، لم أكن أخافها، ولم ألاحظ عليها شيئاً غريباً إلا تلك الليلة لماذهبنا نسقي .
على البئر صارت تضحك وترش الماء على الزاوية الغامقة منه وتسبشخصاً لا أراه . ثم حملنا قدورنا وسرنا ، في الطريق كان يبدو أن هناك من يهز قدرهافوق رأسها . كان الماء يتناثر رغم محاولاتها منع ذلك ، ثم فجأة ظهر مخلوق أسود صغيرشكله بين شكل القط والقرد ، وصار يتدحرج أمامها حتى وصلنا بيتنا ، بدا لي أنه جنيهايعابثها .
خفت وصرت أستحث رجليَّ التي ثقلت من الرعب لنصل ، لكنا لما دخلنامنـزلنا طلبت المرأة من أمي أن تجعلني أنام عندها تلك الليلة لأن زوجها مسافر وهيخائفة ، لم تخبر أمي ، وأنا خفت أن أفعل فينتقم مني جنِّيها .
أمي أمرتني أنأرافـقها . لم أجد بداً من الامتثال فاشترطتُ أن يذهب شقيقي الأصغر معي .
كانتليلة طلع فجرها ولم يغمض لي جفن .جنيها انتظرنا بوجهه القط عند باب بيتها . دخلناإحدى الغرف بسرعة وأغلقنا الباب ، مواؤه الزئير شلَّني من الرعب ، فيما كانت المرأةنائمة أو تتظاهر بذلك \"
هذه حكاية أمي والجن يا مطير .على كلٍّ في ذاك الوقتكانت طـفلة ، وربما ضخم خيالها القصة .
أتدري .. مراتٍ يجرفني فضولي المجنونفأصرح برغبتي في مشاهدتهم ( الجن ) أقول ذلك في التجمعات الكبيرة علّ جنياً يسترقالسمع فيشاكسني من باب إثبات الوجود ..لكنهم والحمد لله لم يفعلوا..
المعتم أكثرفي الموضوع حديثهم عن المتاعب التي يسببها الجني لقرينه ، كلامهم يلقي في خاطريبظلالٍ جنسية لا أعيها وأخجل أن أسأل عنها .
بعد أن أعيد مطير لمجلسه ، أتذكرحكاية لا أحكيها له ، لأني لا أدري إن كان من جنٍّ في أبطالها أم لا ، قبله بعامينقرأتُ مقالة للدكتورة هناء عن فتاة مأزومة يبدو أن لها هواجس انتحارية ختمتالدكتورة كلامها فيها بالحديث عن أحلام البنت ، كانت ترى رؤوساً مقطوعة .
- أناأيضاً يا دكتورة أرى لا رؤوساً بل وجوهاً كثيرة .
-تحلمين بوجوهٍ كثيرة ؟
_ لا ، بل أراها قبل النوم . حين أغمض عيني تعتم الشاشة تبدأ الوجوه تومض ؛ يظهرالوجه من عمق الشاشة صغيراً وبسرعة يتقدم حتى يملأ الشاشة ، يختفي في اللحظة التيينبثق فيها الآخر من ذات البؤرة . لا وجه يشبه آخر في نفس الليلة ولا في اللياليالسابقة . لا وجه يشبه أي وجه أعرف. ملامح الوجوه ليست إنسانية بالتأكيد..رغم أنهامرعبة إلا أني لا أخافها لكني لا أحبها .. ما هذه يا دكتورة ؟
الدكتورة عوضاًعن أن تقدم لي تفسيراً فاجأتني بأمرها : حدقي في الوجوه بقلب رجل وعقل امرأة !!

---------------------------------------------------

الثانيةصباحاً أحمل وسادتي أدفع باب غرفة أمي مخلفة ورائي ابني وشيئاً لا أدري ما هو ..
لم أره ، فقط أحسست به ، أمي تسألني ـ وأنا أندس بقربها ـ عما بي فألهث وأصمت. لا أحاول التفسير . الخوف يعقل لساني والخجل من ضعفي يكبله أكثر ، يجعلني _ وأناالتي منذ ما لا أذكر من سنين لا أحاول حتى لمس أمي حين أحادثها _ أنطوي في رحم ظلهاالمنعكس من نور مصباح الصالة .
هو يعود ..أحسه ، أخافه ، أعوذ بالرحمن منه ولوكان جنياً .
وهو لا يرتدع ؛ يقترب ، أنفاسه تعلو ،تصطك بصدغي متسارعة ، عالية . لا حارة ولا باردة ، لكنها مرعبة .
محاولة الهروب مجدداً لن تفيد ؛ فـقبل فراريمن غرفتي كنت قد حاولت كل شيء .غيرت موضع رأسي ، قمت من السرير .. فتحت عيني علىاتساعهما عله يكون حلماً حين تتلبسني اليقظة الكاملة ينسلخ عني .. لكن جسده الذي لاأشك في ذكوريته رغم هوائيته يدنو أكثر كل مرة . لا اللحاف الذي أشده علي يقينيه ولاتراتيلي ..
في الصباح أتعجب : أنا التي لم أحدد بعد إحساسي تجاه ذاك الذي لاصقجسده جسدي عامين كاملين أقع تحت اختبار جسد ذكوري مرعب هو الآخر.. لِـمَ ؟!
فيالليلة التالية نمتُ بعد أن رأيتُ وجوهاً جديدة . استيقظتُ بآخر الليل لأجد ابني ( نادراً ) يدنو من سريري. أطل أنحف مما هو ، جسده ألين مما أعهد ، يتمايل كشخصياتمسرح العرائس باسماً ، مدلياً يديه أمامه. يمازحني ربما ! لكن شيئاً فيه لم يرحني .
أغمضتُ عيني ، ثم فتحتها ، عدت ألتفت لسريره لأجده فيه بمنامة أخرى غير تلكالتي كانت عليه قبل قليل . كان علي أن أفهم لحظتها أن \" جنييّ \" اختار الليلة أنيظهر صغيراً في صورة ابني .
الآن وأنا أعود لذكر هذا الموضوع ، للتفكير فيهولكتابته تعود لي الوجوه . هل أعود للتحديق فيها كما أمرتني الدكتورة وأستمر فيالتجربة حتى نهايتها أم أتجاهلها .
الدكتورة في المرة الأولى استحثتني قائلة : إنه عالم جميل يا وسمية لو دخلته ..
-أجميل هو عالم الجن يا دكتورة ؟!
- قديكونون جناً وقد .. لكنه رائع ..
لأول مرة لا أقتنع بما تقوله .أخجل من أن أقوللها أن ليس جميلاً أبداً ذاك الذي يسابقني إلى فراشي .. لهاثه الحشرجة لا يمكن أنأحتمله ولو قيل لي أن وراءه ما وراءه فكيف وأنا لا أعرف ما وراءه ، وهي لا تخبرني .
لم أعد أفاتح الدكتورة في موضوع هذا العالم بعد أن توقفت عند أعتابه المخيفةلا أتجاوزها بنظرة الإصرار على الولوج التي طلبت الدكتورة أن أتسلَّح بها .
الآنوالوجوه تدعوني للعودة تستجرني مرة أخرى أقرر أني أبداً لن أذهب ..
حين أخبرتالدكتورة عن اختفاء الوجوه في المرة السابقة ، قالت أنها انسحبت حين فقدتُ الإيمانبها .
في خاطري يومها قلت: أحسن . لا ردها الله .
الآن أشك إن كان أحسن أمأسوأ ..
أشد الصغير الملون من قبعته المخروطية . أحدق فيه بقلب رجل وعقل امرأةوأسأله : مطير هل أنت جني ؟ وهل كانوا هم أيضاً جناً ؟ هل أنت مؤذٍ مثلهم ؟ هل هممؤذون حقاً ؟
هو لا يفعل شيئاً غير أن يبتسم ، أيّاً كانت يومياتي لاشيء يُفقِدهانشراحه ، كم أحسده هو الآخر على ذي الميزة .
أقعده محله وأتحسس شعر زاهي الهائش فيبسم أيضاً ، و يومئ لي براحته المفتوحة \" تفضلي إلى قلب علياء \" فأُقَبِّلَهُ ،وبعيداً عن مطير أوشوشه : تظل يا ابن علياء _ كما هي _ اليقين الذي لا يخالطه شك .

__________________

كبرياء الحرف غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
 
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75 76 77 78