عرض مشاركة واحدة
قديم 08-02-2010, 02:16 PM   #9
مشرفة ورقآت أدبية
 
الصورة الرمزية كبرياء الحرف
 
تاريخ التسجيل: Sep 2009
المشاركات: 2,036
Smile

حي هادئ جداً وراقٍ ، مساكنه ذات الأسوار العالية تطل على شوارعه بعيون ناعسة ، أحسست أنه سيلفظني بسيارة الأجرة الجربانة التي تحملني .
أتمنى لو أهاتف مها ؛ وحدها كانت تشجعني على زيارة الدكتورة ، كانت متحمسة لرؤية هذه المرأة , وإن يكن بعينيَّ أنا ..
مع المنعطف الأول في الشارع أقبلت ، بعينيها العسليتين وضفيرتها التي تتأرجح بين الأسود والبني ، وتكاد لا تعلن انتماءها صراحة لأحدهما تطل صديقتي القديمة ، تجلس بجواري ، تهمس في أذني حتى لا يسمعنا الهندي ( سائق الأجرة ) : ها أنت تفعلينها أخيراً ، وتزورينها .
- تعرفين يا مها كم تمنيت ذلك .
- وأعرف كم كنت تتهيبينه ، كنت جبانة بما يكفي لتؤجلي الزيارة أربع سنوات .
فيما كنت ألتفت لها مستنكرة لأسألها إن كان هو من علم لسانها أن يصبح أطول مما كان وجدته يقترب ، يمد يده من نافذة السيارة ، يشدها بعيداً ، ويغادر.
أنظر في عينيها ، أحاول إعطاء النظرة فيهما اسماً مناسباً فلا أجد ،كدت أحزن لحالها معه لولا أني خفت أن يكون ذلك مني محاولة للعب دور مثالي دون وجود ما يكفي من جمهور .
الهندي مع ثاني ثنية في الشارع ينعطف بالسيارة يميناً لتطالعنا لوحة عيادة الدكتورة مرحِّبة .
البناية من الخارج لا تشبه تصميم المراكز الطبية في شيء ، جعلتني أقرأ اللوحة على الجدار أكثر من مرة قبل أن أدفع الباب الموارب .
هدوء المكان يشيع شيئاً كالوهن في أعصابي ، زادته موظفة الاستقبال وهي ترسم ابتسامة على وجهها حين رأتني .
لا إرادياً كانت بسمتي المحتشمة تحاول مجتهدة الالتصاق بوجهي ، سألتني عن اسمي فأعطيتها واحداً ارتجلته لساعتي .
في " أرض السواد " لعبد الرحمن منيف كلام عن طبائع البدو ، قال فيه أنهم ( وهم الماكرون فطرةً ) لا يثقون بالغرباء بسهولة ، ربما معه حق ، فقد اقتنعت أن اسمي من أسراري الشخصية التي لا يجوز أن أبوح به لهذه لمجرد أنها تبسمت لي .
في غرفة الانتظار دخل شخص ما بيده ورقة فيها بيانات عني ، ثم أشار بيده إلى أسفل الورقة حيث كُتب بلون أحمر حار " تلقت لفترة ما علاجاً سيكولوجياً "
كرهت الرجل ، لكني لأغيظه وضعت اصبعي بأعلى الورقة عند الاسم ، ثم قلت : أرأيت ..لقد احتطت لذلك ..
حين تبخر الرجل اكتشفت كم هي واسعة غرفة الانتظار ، وفارغة جداً ، وحدي فيها ، أعد المقاعد الشاغرة ، وكل لحظة أُقعد ماجداً على أحدها ، مرة بلحية ومرة دونها .
حين تدعوني الموظفة للدخول أتبعها للأعلى ، ولتخفيف توتري أحاول جعل خطواتي متناغمة مع خطواتها ، في اللحظة التي أنجح فيها تفعلها فتقف ، أحسستها تعمدت ذلك .
بابتسامتها نفسها أشارت بيدها لي أن أدخل ، فلم أمنحها واحدة مماثلة هذه المرة .
أدفع الباب السميك جداً ، وأتذكر أني كنت قرأت أن المعالجين النفسيين يختارون هذه الأبواب المصممة خصيصاً لتعزل الصوت ، أحاول أن أخمن إن كانت الدكتورة ستحملني على ما قد يستدعي كتم صوتي ؟
الظاهر أني جبانة فعلاً كما قالت مها ، فساعة دفعته لم أجرؤ على النظر باتجاه الدكتورة مباشرة ، بصري ينخفض ، وحين أرفعه يتأمل أكثر من شيء في الغرفة قبل أن ينصب عليها ، كنت أخشى اللحظة قدر ما أحببتها .
وجدت أمامي امرأة خمسينية بمعطفٍ أبيض ، متوسطة الطول ، لها شعر أسود كثيف وقصير ، وعينان تبرقان .
تحت بياض معطفها بان اللون البرتقالي ، فتذكرتُني وأنا أصنف صوتها برتقالي النكهة ، أقرر لحظتها كتابة ذلك في سجل يومياتي باعتباره مؤشراً على قوة بصيرتي ، وإشارة خير بأن المرأة التي عرفتها صوتاً ستكون هي وزيادة حين أعرفها جسداً .
تبسمت المرأة واقتربت مني ، ولأول مرة أسمع " هلا يا وسمية " حية مباشرة .
كان السؤال الصعب بعد أحاديث نسائية صغيرة : بم سنبدأ ؟
- لا أعرف يا دكتورة ، جئتك اليوم لأسلمك نفسي ، فانظري أي جزء فيَّ معطوب أكثر لنبدأ به .
تضحك الدكتورة وتشغلني صورتها وهي تتكامل الآن ؛ هل ستجعلني أحبها أكثر أو أقل من السابق ؟

----------------------------------------------------------

- هل هذه إشارة تراجع منك يا أبا بصير ؟!
- لا..لقد بعت الله نفسي ، ولا عودة في ذلك ، لكني فقط تذكرت أهلي ، ما كنت أعتقد أن فراقهم سيكون صعباً هكذا .
- هذا جزء من ثمن الجنة يا رجل ، والباقي كثير ، ادفعه بسرعة حورياتك ينتظرنك .
- توكلنا على الله ، يقولها ثم يتذكر أمراً ما فيهتف بالرجل وهو يستدير : متى نكون هناك ؟
- قبل الفجر سنقلع إلى باكستان ، وبعون الله نصل كابول بعد عصر اليوم التالي .
يربت الرجل على كتفه ، ويقوم ، ثم يتناول ماجد مصحفه الصغير ليكمل التلاوة .

----------------------------------------------------

- ماذا تريدين بالضبط يا وسمية ؟
- في الليلة التي سبقت مجيئنا للرياض كنت أرتب أوراقاً قديمة ، بينها وجدت ظرفاً ما إن تناولته حتى سقطت منه طفلة لم تتجاوز عامها الأول ، عيناها المدورتان المفتوحتان بدهشة بيضاء ، استدارة وجهها ، الشعيرات الخفيفة المنسدلة على رأسها محاوِلةً بجهد خارق ملامسة حواجبها الكثيفة ، ثغرها المرسومة عليه كلمة خاتلتها الكاميرا فالتقطت لها الصورة قبل أن تنطقها ، كلها أثارت فيَّ حنيناً لها لا يوصف .
كانت تلك وسمية الصغيرة المطمورة تحت أنقاض الروح ، أريد أن أُخرجها يا دكتورة .
من عيني الدكتورة هناء يسيل شيء كالأمومة أحس معه بالراحة فأكمل : حين ارتمت في حجري ذلك اليوم آمنتُ أنها تريدني قدر ما أريدها ، تحتاجني فكيف أستعيدها ؟
- بذات الحنين الذي يتبدى في صوتك الآن ناديها ، وصدقيني ستأتي .
- حقاً يا دكتورة ؟ كيف أفعل ؟
قامت ، اتجهت لغرفة أخرى ، وحين التفتت لتجدني لا أزال في مكاني أشارت بيدها أن تعالي .
أدخلتني غرفة غريبة ، كانت الألوان فيها عجوزاً متكدرة المزاج ( هكذا أحسستها ) قدرت أن مراجعي الدكتورة المرضى قد تؤذيهم الألوان الفرائحية إن هي حاصرتهم وهم يبوحون بأوجاعهم هنا ، لذا انتقت لهم ما يشبههم .
تقعدني على أريكة بنية الوجه ، وأسألها إن كان الديكور والأثاث في المكان معداً بما يناسب ذوقها هي أم هو مناسب للمراجعين ؟
- بالطبع هو معد على أسس علمية مدروسة .
فكرت أنه بإمكاني الآن براحة إخبارها أني لم أحبه ، لكنها عاجلتني بطلبها أن أستلقي على الأريكة لتبدأ العمل .
بعد خطوات الاسترخاء جعلتني الدكتورة أتذكر ملامح الصغيرة بأكبر وضوح ممكن ، طلبت مني أن أناديها ، وبين يدي وضعتها ، كانت صغيرة ناعمة ، قالت لي : هاهي وسمية الصغيرة ، إنها ابنتكِ الآن ، ماذا تريدين أن تفعلي معها ؟
ضممتها لصدري ، تحسست جبينها بإصبعي ، ثم بللت وجهها الذي أُحب بماء عيني .
كنت لا أزال أغلق عيني ، وأتأمل صورتها في ذهني ، الدموع جلتها ، أزالت قشرة الرماد عن وجهها ، خداها اصطبغا بذات الحمرة القديمة ، فستانها ارتشف بعض الماء أيضاً فسرت فيه الروح ، عادت له زرقته السماوية .
حين طلبت مني الدكتورة أن أستيقظ كنت لا أزال أبكي ، لكن داخلي كان هادئاً جداً ، كانت أفكاري – كما أطفالٍ صغار – أرهقهم اللعب طويلاً فناموا .

-------------------------------------------------------

- هذه البنت ستصيبني بالجنون ؛ في الوقت الذي نستمتع فيه بوقتنا تتجه للمكتبات لتزيد أكوامها في غرفتها .
- أمي ..وسمية أيضاً تستمتع بوقتها على طريقتها ، نفس السعادة التي تجدينها في السوق تجدها في المكتبة ، ورضاك عن حاجة جديدة تشترينها رضاها عن كتابٍ تحصل عليه أكبر .
- تقولين ذلك فقط حتى لا أغضب ، أنت لا تفعلين مثلها ، ليتها مثلك أو مثلي .
- أمي الله خلقنا مختلفين ، ويجب أن نقبل ذلك ، ولو ضغطت عليها فكل ما ستحصلين عليه هو جعلها تتألم .
- أهي قالت لك أني أضغط عليها يا ريم ؟!
- لا يا أمي ، أبداً ، لكني فقط أردت أن أوضح لك الصورة .
- الأمر واضح ، ابنتي الكبرى تخجلني دائماً ، لا حضور لها في أوساط النساء ، ولا تريد الزواج مجدداً ولا العودة لزوجها السابق ، ولا تتصرف كما تتصرف النساء . أحياناً أحس أن الله جعلها عقوبة لي على ذنب لا أعرفه ، أو ابتلاء من عنده .

----------------------------------------------------

أخرج من عندها خفيفة جداً ، تدنو مني سيارة أجرة فأتجاهلها وأتابع طريقي ، أريد أن أمشي طويلاً وأنا بيضاء نقية ، الكثير من الوجع بددته هذه المرأة العظيمة الليلة .
أتأمل الدمية الصغيرة ( رمز وسمية الطفلة ) التي أهدتنيها ، أتلفت يميناً وشمالاً ، وحين أتأكد أن ليس في الشارع أحد ، أضمها لصدري مجدداً .
أريد أن أكتب شعراً ، أو أسمع شعراً ، أريد أن أغني ، أن أخبر الدنيا أني طاهرة وخفيفة وسعيدة .
حين انعطف بي الشارع الذي فيه عيادة الدكتورة بدا لي الآخر أباً يفتح ذراعيه لي وحدي ، لم أستطع مقاومته ، ركضت على صدره قليلاً ، ولما سمعت صوت سيارة من بعيد همست لوسمية الصغيرة التي مازالت تضحك أطلب منها أن تسكت ، ثم توقفنا عن السير .
أسلمتني آخر عطفة في الحي إلى شارع سريع ، وسرعان ما لمحتني سيارة أجرة أخرى .
أتأكد أن الصغيرة مرتاحة في جلستها بجواري في السيارة ، ثم أتناول جوالي من الحقيبة ، وأكتب : " أنا راضية عن نفسي لأني ذهبت للدكتورة ، وأريد أن أكافئني فماذا أفعل ؟ "
أرسلتها لعلياء ثم لريم ، جاء رد ريم سريعاً : كافئيها بأن تعودي لأهلي بسرعة ، اتصلت بهم قبل قليل ، أمي متكدرة وأبي يسأل عن المكتبة التي مازالت مفتوحة حتى هذا الوقت لأجل خاطرك ؟!
الغريب أني لم أتضايق ، بل أني شعرت بالامتنان لها ، بعثت لها رسالة أخرى أشكرها بها لأنها ذكرتني بكذبتي التي كدت أنساها وأرسلت لها قُبلة أيضاً .
بعد قليل جاء رد علياء : كافئي نفسك بأن تتصلي بي ..
أحب هذا الغرور فيها ، يشبه غروري كثيراً .
أرسلت لها : يبدو أنك لم تفهميني ، أريد أن أكافئ نفسي لا أن أكافئك أنت .
بعدها بدقيقة هاتفتني : ماذا فعلت معها ؟ بسرعة خبريني ..
- هذه المرأة رائعة يا علياء ، هذا كل ما أستطيع أن أقوله الآن ، والبقية في الحلقة القادمة .

-------------------------------------------------------

في الصباح التالي أنهض من النوم ناسية كلمات أبي اللائمة التي نمت عليها ، ووجه أمي المستاء ، متذكرةً الحلم القصير الغريب ، أسجله حتى لا أنساه " لوحة فيها رجل له شعر أحمر " ثم أضع الرجل الأحمر في حقيبتي بانتظار لقاء الدكتورة في الليل .
هي قالت أني سأرى حلماً مهماً ، وأود لو أتصل بها الآن لأسألها إن كان هذا هو المطلوب أو أعود للنوم لأجلب واحداً أفضل .
- أحمر ؟ أهذا كل شيء ؟!
- هو كل شيء ..
- وهذا ما ستقولينه لها ؟!
- هذا ما رأيت يا ريم .
- سأحترمها جداً لو طردتك الليلة ، أما إن هللت للحلم ، واستولدته دلالات لا ارتباط بينها وبينه سأتأكد تماماً أن هذه المرأة تسرق نقودك برضاك .
أسكت حين يمر أبي بقربي ، وأتذكر أن علي ( بعد الظهر ) إعداد كذبة جديدة لتبرير غيابي ليلة أخرى عن المجموعة . ريم التي لم تشأ إغلاق الهاتف حتى تثق أنها أفسدت مزاجي الرائق بشكل تام ، تسألني : هل اتصل بك ماجد ؟
- لا ، لماذا ؟
- لا أدري ..أنا قلقة ، قال أنه سيذهب للعمرة ، ولن يغيب أكثر من أسبوع ، وأنه سيوافيكم في الرياض أو يعود للديرة ، وها قد مرت عشرة أيام لا اتصل فيها ولا عاد .
- لا أهتم ، مادام رفض الذهاب معي للدكتورة فليذهب حيث شاء .
- أعرف أنك تهتمين جداً ، ولكنك تحاولين ألا تظهري ذلك .
- ليس صحيحاً .. هو اختار طريقه وهو من يجب أن يقلق على نفسه .

----------------------------------------------------------

- كنت في الليلة السابقة أفكر في علاقتي بأمي باعتبارها الموضوع الأهم الذي يجب أن أبدأ به معك ، وعرض التلفاز برنامجاً عن فنان تشكيلي فرنسي يقيم معرضه الأول ، شدتني بعض لوحاته ، ونمت بعد البرنامج فجاء هذا الحلم .
الدكتورة تتأملني بصمت ، وأنا ألمع أعطاف حلمي ليبدو أكثر أهمية ، أقول لها : تذكرت ، قد يكون لهذا علاقة بحكاية قديمة .
أقولها وأسكت ، ويبين من اعتدال الدكتورة في جلستها واتجاهها بالكامل لي أنها بدت تهتم فعلاً .
- آها ؟
- كانت زميلة لي تحدثني يوماً عن أخطاء طالباتها الطريفة في الاختبارات ( كانت معلمة تاريخ) قالت لي أنها درست الصغيرات سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ، فروت لهن من صفاته أنه أبيض مشرب بحمرة ، قالت أن إحداهن في الاختبار التالي كتبت أنه أبيض وشواربه حُمرٌ .
- هذه هي ، فقد نمت وعلاقتك بأمك ببالك ، فجاء الحلم ليقول أن هذه العلاقة فيها لبس ، سوء فهم أو سوء إفهام أو سوء تعبير .
- أو هي كل ما قلت يا دكتورة .
- ولم ذلك كله ؟
- لا أعرف ، فقط أتذكر أني مذ بدأت أستبطن مشاعري اكتشفت أن في خاطري شيئاً سيئاً فيما يخصها .
- يجب أن نصحح هذا ، العلاقة بالأم هي الأهم على الإطلاق ، ودون سلامتها لا تتحقق الصحة النفسية .

__________________

كبرياء الحرف غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
 
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75 76 77 78