عرض مشاركة واحدة
قديم 08-02-2010, 02:19 PM   #12
مشرفة ورقآت أدبية
 
الصورة الرمزية كبرياء الحرف
 
تاريخ التسجيل: Sep 2009
المشاركات: 2,036
Smile

تابــع

" راحتي وبياض أيامي وسمية ..
كل مرة أقرر ألا أكتب لك بعدك حرفاً ، وكل مرة لا أقوى على الالتزام بقراري ..
فقط أردت أن أخبرك أني سأفتقدك كثيراً طوال هذه الإجازة ..لا أدري كيف أعبر القادم من أيامس دونك ..
دون " نظرة ترد الروح " تنتشلها من وجوه أدمنتها حد الاختناق ..
ليتك ترينني بعدك ، حيث كل هذا الزحام لا أحد ..
يا أقرب الناس في غيابك ..أحبك جداً "
علياء
قبل علياء ظننت أن الصداقة حبٌ عاقل ، لكني حين عرفتها اقتنعت أن الحب صداقة باردة .. أو أن ما أحسه قربها لا ينتمي لهذين النوعين من العلاقات .
كل يوم مرة مذ بدأت الإجازة أُخرج رسالتها زهرية الطالع ، أرطب روحي بحرفها ، وأفتقدها طوال اليوم ، وأشكر الله أني عرفتها ..
اليوم تلوتها مرتين ، ثم خبأتها لأكتب .ما لم أقله للدكتورة قررت أن أسجله ، خفت بعد الجلسة الأولى ، وهي تعيدني لمواقف قديمة وتعيد مونتاجها بشكل أكثر إنسانية خفت أن أنساها بعد فترة من الوقت ، وكأنها لم تحصل .
سجلت الأحداث في دفتر جديد قررت إهداءه علياء ، وأسميته " نسخ احتياطي للذاكرة "

( 1 )
موعد الزواج ( المحدد سلفاً على أن يكون في الإجازة بعد إنهائي تعليمي ) تم تقديمه ، سيكون بعد ثلاثة أيام فقط ، بالصدفة عرفت ذلك إذ لم يحرص أحد على إخباري .
ربما ما كانوا يعرفون أن التوقيت يختلف عندي ، ربما وثقوا أني لن أجرؤ على المعارضة فتصرفوا على هذا الأساس .
لأول مرة أستجمع جرأتي وأنا أتحدث مع أمي في الموضوع ، قلتُ لها : لا أريد الآن ، لم أستعد نفسياً بما يكفي ، ولن يتم شيء الآن ..
كان ما فيَّ من شجاعة قد انتهى فانصرفت ومضت أمي تلملم حاجياتي استعداداً لنقلها لبيتهم ، بعد الزواج عرفت أنها أيضاً ما كانت تريد هذا الموعد لكنها لم تجرؤ على الرفض حين طلبوا .
قلت لنفسي مواسية : ولو لن يحدث إلا في الموعد الذي أختار أنا ، لن أنضم لحزب الطالبات المتزوجات .
أغلقت الغرفة علي ، وبدأت التخطيط : أكسر رجلي ؟ تجبيرها سيكون مؤلماً ، وستظل في الجبس مدة أطول مما أريد . لن أحتمل الاعتماد على أحد في حركتي خمسة وأربعين يوماً .إذاً أكسر يدي لكن كيف ؟
مكوى الملابس قدم نفسه في عرض صارخ حين واجهني باركاً بجوار كومة ملابس تنتظره ليلهب وجوهها المتجعدة ، رفعته ، كان ثقيلاً جداً .. أغلقت باب الغرفة علي ، جلست تحت طاولة الكي فاردة ذراعي ، أغمضتُ عيني ، ثم سحبته بسلكه ، قدرتُ أن سقوطه بهذا الوزن من ارتفاع أكثر من متر كفيل بكسرها بسرعة . فـعلتها عدة مرات ولم تنكسر يدي ، كنتُ كل مرة أبسط يدي في المكان المناسب وأسحب سلك المكوى وأغمض عيني ثم .. لاشيء .. كل مرة قبل أن يهوي عليها كانت يدي تفر .
بعد إحدى عشرة محاولة فاشلة عرفت أن النتيجة الوحيدة التي حصلت عليها أن المكوى يحتاج لمشروع سقطة جديدة فقط حتى يلفظ أحشاءه كلها .
عدت لغرفتي أبحث عن وسيلة أنفع قلت : أضع يدي بين ضلفتي أحد الدواليب وأغلقه بقوة .
هذه المرة لم أخرج يدي . كان الألم لا يطاق ، أرعبتني فكرة أن ألمس يدي لأتأكد من كسرها ، ثم أدركت لما خف أن يدي لم تكسر فكان علي أن أتخذ القرار الصعب أن أعود للمحاولة مرة أخرى .
في المرة الثانية نزلت دمعة على خدي ، وبعد سبع محاولات عرفت أني لن أكرر الفعلة وأنها لن تفيد .
أتلفت في الغرفة ، أتأمل السرير ، أرفع طرفه . هو ثقيل وحافته عريضة . أضع يدي المحمرة تحته . أرفعه أكثر . أدير وجهي ثم أسقطه .
في طريق العودة من المستشفى أتذكر - وابتسامة سوداء على ثغري يحجبها غطاء وجهي عن أبي - تطمينات الطبيب ، تطمينات أبي قبلها ، اللحظات المجنونة التي تلت سقوط السرير على يدي ، خروجي العاصف لأمي ، يدي التي تنبض ألماً ، الطنين في أذني ..
صوت أبي يصلني غائماً ، أفهم أنه يسألني مجدداً : كيف حدث ذلك ؟!
حين سألتني أمي في البيت تراجع كل الألم لخلفية إحساسي واستنفرت بالكامل لأجيب .
كان واضحا أن أمي لم تصدق كذبتي عن القلم الذي انحشر تحت حافة السرير ومحاولتي إخراجه .
حالما أشرع في إعادة سبك القصة لوالدي أبث فيها ما أستطيع من إيحاء بالصدق . يقطع شروحاتي بحوقلاته المزمجرة ثم يعرض بوجهه .
ألتفت أنا الأخرى وأتذكر كلمات الطبيب الغبي المطمئنة : مجرد رضوض بسيطة فلا تقلقي . رضوض بسيطة لن يتأجل العرس إذن .

------------------------------------------------------

( 2 )
أرتقي درجات السلم التي لا أراها بسبب كومة السواد الملتفة حولي . أتذكر حكاية روتها إحدى الزميلات في المدرسة عن جدتها ، قالت أنها في زواجها السادس كانت تصعد السلم الطيني صوب روشنها محفوفة بنسوتها وأن الزوج المنتظر على باب الروشن كان يمسك بيده اليسرى سراجاً يضيء لهن الطريق، ويمد اليمنى للعروس ليدخلها. كان من عادة العروس البكر تتمنع ، أما صاحبة الخبرة هذه فيبدو أنها ما كانت لتريد حتى أن تتصنع ذاك ، غير أن ن الحرس الجمهوري شاء ألا تصم نفسها بقلة الحياء وتصمهن من ورائها . تمسَّكن بعباءتها فيما تتعلق هي بذراع العريس ، هي فطنت لما أردن فجارتهن قليلاً .
حين استمررن في لعبتهن السمجة أكثر مما قدرت نـزعت يديها من العباءة المشدودة لتنطرح في أسفل السلم لامَّـةً النسوة الحييات وتدخل هي غرفة السعد.
أتذكر ذلك وأنا أكاد أسير في موكب مشابه وأود لو أحكيها للعجوز التي تكاد تخلع رقبتي وهي تتشبث بعباءتي خلفي . تغريني فكرة أن أروعها بها . حين ندنو أكثر من الغرفة أنسى كل الحكايا وأرتجف ..
على أعتاب الغرفة أمي تبكي وهي توصيه بي خيراً وأتساءل : أمن مكروه سيحدث لي حتى تبكي كل هذا البكاء ؟
أتلصص عليهما ، أحس في حركته وهو يأخذ بخاطرها كأنما يدفعها للخروج .
أعود لي ومن مجلسي أستعرض بسرعة كل حكايات الاغتصاب أثناء الليلة الأولى التي سمعتها في مجالس النساء في الفترة الأخيرة ، في دورة مكثفة وقصيرة لي : أتذكر أولاً ذاك الذي سمعوا قرقعة مواعينه ليلة العرس ولم تهدأ حتى صادها ( المرأة ) . والآخر الصغير الحجم الذي حاول أن يلعب الدور نفسه مع عروسه الغوريلا فوضعته في أكبر القدور المرصوفة بها أرض الغرفة .
هو يدنو ، يحاول أن يكون لطيفاً ومقبولاً ، أعاين ارتباكه وحرصه على حركاته وكلماته بل حتى إيماءته فأتساءل : ليلة الزواج اختبار قبول لمن ؟
يشد الإجابات من فمي شداً . كدت أضحك وأنا أتذكر حكاية روتها إحدى القريبات التي تورط عريسها بفمها الأبكم تلك الليلة و أراد أن يخرجها من صمتها فسألها : أتدرسين ؟
هزت رأسها كما في كل الأسئلة التي فرشها على فستانها قبلاً..
سألها : في أي مرحلة ؟ فسكتت..
قال : أولى متوسط ؟
هزت رأسها نافية..
-ثاني متوسط ؟
-.. (هزة أخرى بالنفي)
-ثالث متوسط ؟
-.. (مثلها)
-أولى ثانوي ؟
-.. (هزة مع بعض الارتياح فها هو أخيراً يقترب من المرحلة المطلوبة)
-ثالث ثانوي ؟
التفتت إليه غاضبة ، تريد أن تصرخ : " لقد نسيت ثاني ثانوي يا غبي"
ألجمتها بقية الخجل أولاً ثم ضحكته التي ما لبثت أن تفجرت خبيثة جداً.
زميلة أخبرتني قصتها هي ؛ في ليلة الزواج لما اقترب منها زوجها صرخت محذرةً : ما تفكِّر فيه لن يحدث .
قال مبتسماً : وما الذي أفكر فيه ؟
عرفت أنها تورطت فهداها عقلها لأن تقول بعد تدبر: أنا لن أُنجبَ أولاداً .
ضحك هذه المرة وهو يردد مقترباً : ليس ذلك ضرورياً ..، ثم أضاف وهو يحتضنها : أبداً .
كنت أريد أن أحكي لهذا ذي الحكايات لولا الحياء ، لذا سكت محاولة تخمين الحكاية التي سأرويها بعد سنين عن ليلتي الأولى .

--------------------------------------------------

( 3 )
أحببته قبل أن أعرف عنه أيَّ شيء ؛ كان خجلي ( الذي يجب أن أعترف الآن أنه كان مرضيَّاً ) يمنعني قبل الزواج من أن أسأل عن أي شيء يخصه ؛ لم أسألهم حتى عن اسمه ، كنتُ إذا انزلقت تلميحاتهم إليه يجف حلقي ، يبرد الدم في عروقي ، حتى التنفس بصعوبة أستطيعه ثم أنسحب من مجلسهم ، فإذا دخلت غرفتي لم أخجل أن أقـعده بجواري .. نتحاور .. نتلاعب .. نتغازل ..أحياناً نتشاجر .
حين أثرثر مع خياله في الليالي كنت أصوغ جملي التي أخاطبه بها متحاشية مطب الاسم .
أحببته صورة هلامية لرجل ، حتى إذا ما رأيته تلك الليلة ألصقت مشاعري كلها بجسده هو .


------------------------------------------------------

( 4 )
- أنتِ مهبولة ..حقيبته ذي التي تجهزين سيأخذها في سفرته مع زوجي للخارج..
-طيب..
-أنتِ ما تفهمين ؟! ما ظنك أن الملاعين يفعلون هناك ؟
- …
-لابد أن تحاولي منعه من السفر..كلميه بقوة..هدديه بترك البيت..على الأقل لا تجهزي حقيبته ..
أتساءل : كيف يمكن أن تكون شقيقته وتحكي عنه بكل هذا السوء ؟!
خرجتْ وحرنت أنا حتى عاد ، سلّم فلم أرد إلا غمغمة ..سأل بتلهف عن الحقيبة ، بلا مبالاة باطنها مسكون بالخوف قلت : ما أكملت تجهيزها..
لما سكتَ أكملتُ أنا : ولن أفـعل لأني لا أريد أن تسافر..
-ستجهزينها غصباً عنك ..
- لا..
- عجيب.. هذي أول مرة يطول فيها لسانك..أول مرة ترفضين طلباً لي..
وعدته سراً في داخلي أن أرفض طلباتٍ كثيرةً فيما بعد ..
بينما كنت أنتظر خطوته المقبلة ، أحسبها كلمة ، ضغطت أصابعه على عنقي ، ثم توعدني إن رجع ولم يجدها جاهزة .
لما خرج..من دخان عجزي وذلتي تكاثفت صورتها ترفض أن تفهم أعذاري ، وتطالبني بما وعدت.
أنا بذكائي الفطري المتأخر أنبتُّ لها تلك اللحظة فـقط قروناً حمراء و ذيلاً طويلاً وصبغت عينيها بشيء كالخبث..
قلت لنفسي : أليس زوجها أيضاً مسافراً ؟ لماذا لم تفعل معه ما تستحثني عليه ؟! أتخاف آثار حزام بدلته العسكرية على خصرها كما يحصل دائماً ؟
آثار أصابعه على عنقي تضغط كبريائي ، وأنا أصفعني بسؤالي : كيف لم تعلمني الأيام ؟!
أليست هذه التي كانت بعد كل موقف منه - وإن كان عادياً - تستعمر أذني..تنهشها باستفهامات سوداء عنه و إيحاءات تحاول بها استنهاض غيرة المرأة فيّ ضده ؟!
هل كانت تجرب فيّ الوجه الذي تود لو تواجه به زوجها الذي تعبده وتلعنه ؟!أم أنها كما قال هو ذات مرة تكرهه ؟

----------------------------------------------------------

( 5 )
ألاحظ حبات العرق الكبيرة على جبينها وهي تحاول تعليمي في المطبخ فأعرف أنها تكاد تفقد تماسكها وإصرارها ، أسألها وأنا أكرر بصعوبة ما تفعله إن كنت أعمل بشكل جيد ، فتبلع أخته الثانية كلمتها ، وتضحك ضحكة قصيرة تعثرت على شفتيها بين الحنق والخجل من إجابة قد تجرحني جداً ..
أمام هذه الشقيقة لا تلك أنهزم تماماً ..رغم إحساسي بالعجز التام في مجاراة الأولى في وضع المكياج و التزين إلا أن عجزي في المطبخ أمام هذه التي تفعل كل شيء بمنتهى اليسر كان يحرجني أكثر ..
محاولةً مواساة نفسي أطمئنها بكلمات الأولى : " أختي لا تفهم ؛ الطريق إلى قلب الرجل لا يمر بالمطبخ بالتأكيد إلا لماماً..الطريق إلى قلبه هناك في غرفة النوم ..انظري لها إنها تطبخ فقط بينما زوجها يسكر كل ليلة "
بعد أن تغادراني أقول لنفسي: حسناً ..فأنا الأسوأ هنا لا أحسن صنعاً في الغرفة و لا في المطبخ..

----------------------------------------------------------

( 6 )

لا تتغير أبداً ..بعد كل مشكلة..أثنائها..قبلها..تتشمم رائحتها ..أحسها تسعد بها، تظل طوال الوقت منبطحة في الصالة .. ملتصقة بجدار غرفتي ..تمرن قدميها أحياناً بالتلكؤ لدقائق بجوار باب غرفتي ..تقيس برودة الجو في الداخل وقتامته بمدى ارتفاع صوت التلفزيون أو المسجل اللذين أزيد صخبهما يوماً بعد آخر حتى لا تسمع هي شجاراتنا .
العجوز التي لا أعرف لماذا تكرهني تتابع بشغف لا أفهمه مشاكلنا..ورغم نوبات العطف المفاجئة النادرة ظل إحساسي نحوها أزرق بارداً يَسْوَدُّ كلما جاءت تخبرنا شائعة سمعتها عن قرب طلاقنا..
اليوم أهاتف أمي و أنا في ذروة مشكلة جديدة مخنوقة بأحابيلها ، وكالعادة لا تسمع أمي في صوتي الفاقد للرغبة في أي شيء تذمراً منهم..
أكلمها في الصالة..تخرج العجوز متلكئة ثم..في صفحة الباب البنية الفاتحة أرى ظلالاً هلامية ضخمة تلتوي بالجدار و تلتصق به مادة عنقاً عريضة صوبي..
أريد بعض الجرأة لتحملني قدماي إلى حيث تقف ، فقط لأقول لها بعيني أني رأيتها..
لو فقط أطلب منها أن تُريح نفسها من محاولة تسمع شكواي وهي تصب في أذن أمي لأنها لن تصب فيها أبداً ، تنسد شهيتي للكلام ( ولم تكن مفتوحة جداً مذ تزوجت ) ثم أدخل غرفتي أبكي .

-----------------------------------------------------

( 7 )
- وماذا بعد ؟
تضحك مها مستنكرة السؤال كله : ماذا تعنين بـ "ماذا بعد" ؟ تنجبين وتربين أولادك وتقومين على رعايتهم حتى يتحملوا مسؤولية أنفسهم ..
-هكذا فقط ؟! أهذا كل ما سأفـعله في حياتي ؟!أما من شيء آخر ؟!
-بلى..أنتِ طبعاً لو توظفت ( معلمةً ) واستمررتِ في عملك فقد تصبحين مديرة أو موجهة أو ما شابه..
-ثم ماذا ؟!! ليست هذه بحياة التي تشبه حيوات كل الآخرين..هذا موت بطيء لن أحتمله..
أتركها وأتصل بريم ،أطلب منها أن ترسل لي دفتراً جميلاً ..
- ماذا ستكتبين فيه ؟
- سأعرف حين يأتيني أحدٌ به ..
على وجه الدفتر صورة لغابة طبيعية لم تر من البشر إلا عين المصور ، وخلفيته الغابة ذاتها كابية اللون وقد امتصت كاميرا مسعورة روح اللون منها .
في صفحته الأولى كتبت : حتى كائنات الطبيعة يمكن مسخها ، لتكون الشيء وصورته السالبة...هكذا نحن أيضاً .

---------------------------------------------------------

( 8 )
في السيارة قال لي : التقيت بعرافة في مصر ، قرأت لي الطالع ، ربطت عقدة في منديل ثم حلتها ، قالت أنها عقدتنا ، وأنها ستحل ، وسنكون أسعد ، وستختفي كل مشاكلنا ، قالت أن من صنعت السحر ابنة عمٍ لي تريد الزواج بي .
كان يخبرني ويضحك .كنت أعرف أن هذا لا شيء ، ومع ذلك تعلقتُ بالأمل مثله ، ضحك وقال أنها أخبرته للتدليل على صدق كلامها أني حامل وأني سألد ذكراً وأننا سنسميه خالداً .
تبادلنا نظرة ثم ضحكنا . بعدها أدار هو وجهه للناحية الأخرى ليتأكد من خلو الشارع قبل أن ينعطف يساراً ، والتفت أنا أتأمل المحلات المتشابهة السحنة المصطفة على طول شارع قديم ، نعرف أن لا خالد ، وأن من في بطني إن كان ولداً فسيكون اسمه نادر على اسم جده . ذلك أمر مفروغ منه..
والمفروغ منه أكثر أن هذه العلاقة الهشة لن يلزمها أكثر من شهرين أو ثلاثة بعد الولادة لتتهاوى فلا وقت لهذا الخالد الذي أحسست في شبه اتفاقنا البارد أن لن يجيء أننا ( كلينا ) نطبق على عنقه الصغيرة الحمراء الحارة فنهصرها..
أراد هو أن يشرع نوافذ كلامية تخرج من قمرة السيارة غبار الأفكار السابقة وتدخل نسمةً باردةً لفكرة أخف وطأة فسألني مداعباً بطني المنتفخة عن ولي العهد ..
ولي العهد كما يبدو التقط النداء ، في آخر دورة لنا بالسيارة صرت استشعر آلاماً بأسفل ظهري كآلام الدورة لكنها أشد قليلاً..تأملت الكرة الثابتة منذ أشهر بظاهر بطني وارتعت..
سكتُ أول مرة وكظمت ألم الثانية .بعد الثالثة أخبرته أن ألما بسيطاً في ظهري.
كان عليّ بعدها أن أتحمل رعباً أنساني الألم .صار يطير بالسيارة ، كان على ما يبدو يخاف أن ألد فيها .
كدنا نصطدم بأحدهم ذات منعطف.بصوت صار أضعف مع تزايد نبضات الألم أرجوه أن يبطئ .. أن ينتبه..
يطرق باب منـزل أهلي بقوة ، ثم يرقيني عتباته مرتجفاً فيما أحس كل ألمي يتسرب سائلاً رطباً على فخذيّ ..
يوصي أمي بأن تبلغه حالما ألد فيما أتجه للحمام لأبدل ملابسي ، وأسأل نفسي وحدها : هل يمكن أن تتم الولادة بهذه السرعة ؟
أخلع ملابسي فيما صعقة كضربة سوط شديدة جعلتني أجثو على الأرض ، كان الألم هذه المرة مرعباً وهو يكوي بطني وظهري في آن واحد بلسعاته و يتهددني في الوقت نفسه بالمزيد..
أخرج من الحمام وتتلقاني أمي بالتمر .. لا أدري من أقنعها أنه يسهل الولادة ويدفع الجنين خارجاً..
أريد أن أرفض ، لأن فكرة الأكل الآن تبعث على الغثيان .
كنت أضعف من أن أرفض ، وأوهن من أن أستجيب وآكل ، فتحت فمي وتركته لها تحشوه بما شاءت .
الألم في بطني لا يمكن التعبير عنه حتى بالصياح ، ريم نيابة عني تبكي ، فإذا عضضت شفتي صاحت ، تارة أقف ، وتارة أجلس ، مرات انبطح أرضاً ، أبحث عن الوضع الذي يقلل الألم وومضة أخرى من نار تلف وسطي .
في السيارة أستعجل الوصول للمستشفى ، أظنه القادر على إخراج هذا الجنون مني أو إخراجي منه ..
حين كانت الممرضة ترفـعه باسمة : ولد ..نسيت أشياء كثيرة ، وسطع وجهه هو ، أريد أن أهاتفه الآن لأبشره ..لم نتحدث كثيراً حول المولود المنتظر ( لم أعرف إن كان يفضله ولداً أم أن الأمر عنده سيان )
ما إن دخلت أمي عليّ حتى طلبتُ إليها أن تهاتفه..هي تسألني عني و أنا أكرر طلبي بأن تبلغه ..تكرر وعدها والممرضة تشدها خارجاً..أخذت الصغير معها فأحسستُ بالراحة وبالألم ؛ لابتعاد صوت صياحه ، و لأني لم أستشعر حبه ..
اللحظات التالية أحاول أن أصل لمعرفة تحديد تقريبي للزمن..أحسني خاويـة تماماً وبلا مشاعر باستثناء نبضات صغيرة أسفل بطني..
أمي تُقبل بالصغير ، تطلب مني أن أقبله..أرفض ثم حين تلح أفـعل مجاملة لها..
تبتسم مستنكرة ، وأتعجب من استغرابها ، أريد أن أخبرها أني ما كنت مخيرة في أن أهبهم إياه أو أن لا أفـعل ..
أما وقد جاء فهو لهم ، وليس علي أن أحبه !!
أنظر إليه : أأنا ولدت هذه اللحمة الحمراء ؟!
ما أنا متأكدة منه أني عدت للحياة بعد اختبار سريري لقدرتي على مقاربة الموت .
أعيد سؤال أمي إن كانت أخبرته ، وتكرر : عليك أن تنامي الآن ، فأنت مرهقة بلا شك .
أود أن أسألها عن الطريقة ؛ لأن الساعات الفائتة تلك أنستني كل البدهيات لكنها غادرت قبل أن تصطف عبارة سؤالي بشكل مفهوم في رأسي .
في الغرفة أبقى وحيدة إلا من شيء كالجوع ، أتأملها ، كل ما فيها لا إنساني ..آلاتها..سريرها..ساعتها الحائطية.. حتى الطريقة التي خلعوا بها ملابسي كانت لا إنسانية ، ثم هذه الطريقة في الاستلقاء تمنعني من النوم . تروعني بهاجس أن لحمة أخرى مسعورة ستحاول ثانية الخروج مني .
أود لو أنام على جنبي ، لكني لا أملك الجرأة الكافية لأجرب أن أتحرك .
الوقت يمضي جارّاً معه ذكريات العمر الذي انقضى منذ دخولي الغرفة حتى خروج المولود : أصوات الممرضات المتشنجة ..نكات الطبيب السمج..لعناتي للجميع..صرخات الصغير .
ينخفض الصوت ، الوجوه تشحب ..الساعة غير المضبوطة إطارها الدائري ينبعج..تسيل بعض الأرقام من جانبه فيما قليلاً ..قليلاً تخدر أجفاني حتى أسقط في رحم النوم .
يأتي الصباح أبيضاً في كوب حليب بلا شاي ، عافته نفسي كما عافت عيني صباحهم الذي أرادت الممرضة أن تغريني بمشاهدته وهي تزيح ستائر في الغرفة لم أكتشف إلا هذه اللحظة وجودها..
في المنـزل حين عدنا كان الجميع فرحين بالصغير..حتى لم ينتبه أحد لوجودي لولا الفراش الذي أعِد على عجل لظننت أنهم نسوني تماماً ..بعد قبلات عديدة نالها وحده وابتسامات ومناغاة بدأ البعض يلتفت إليّ سائلاً أسئلة روتينية عن حالي ..حامداً الله على سلامتي..كأني كنت في سفرة قصيرة عدت منها قبل أن يشتاقوا إلي..

__________________

كبرياء الحرف غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
 
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75 76 77 78