تابــع
( 9 )
- اليوم اتصلت أمي وأخبرتني أن واحدةً من مكتب التوجيه كلمتها وطلبت أن أراجعها لتسلمني خطاب توجيهي للعمل .
ينظر إلي نظرة بدت لي متوعدة وهو يسألني : وماذا بعد ؟
- أريدك أن تأخذني إليهم غداً .
- لماذا ؟
أفتعل ضحكة لا تخفي توجسي وأنا أقول : كي أستلم وظيفتي .
- سبق وتحدثنا في ذلك . قالها وصدَّ عني يطالع جريدته ، أستجمع شجاعتي وأراجعه : لكني أريد أن أعمل .
- ...
نظرته الطويلة القاحلة وحدها كانت الرد ، تمنيت لو يمتلك شجاعة مواجهة المشاكل فيسألني لماذا أريد أن أعمل ، وأتناول منه شعلة الشجاعة فأقول أن المدرسة وحدها ستعيد لي بعضاً من يقين أني أصلح لشيء .
أريد أن أخبره أني أتوسم فيها مخلِّصاً لي من آلامي . وحدها تقدر أن تقول لي أني جيدة ..أني مثل الأُخريات ..
أردت أن أخبره أني كثيراً ما أبقى في غرفتي أقابل المرآة ، وفي كلٍ أتأمل بقوة صورتي فيها ، وأسألها : من هذه المنطبعة على صفحتك ؟ لأنها ليست أنا..ليست وسمية الطالبة الممتازة بشهادة معلماتها ومديرتها ، و ليست وسمية الصديقة التي ترى فيها صاحباتها أوفى البنات ، وليست وسمية الفتاة التي يحترمها أهلها وإخوتها ..هذه التي في المرآة هي العبدة التي كلما أطاعت أسيادها زادوا استعباداً لها .
أردت أن أقول له أنَّ أهله صاروا يسفرون عن وجوههم الرافضة أكثر و أكثر.. وأني أمام أهلي بدأت أشد القناع على وجهي أكثر وأكثر كلما زرتهم حتى لا يعرفوا ما يحصل بداخلي..
أردت أن أبكي على كتفه إحساس الغربة الذي ينحرني كل لحظة .
لم يناقشني ولم أبح له بخواطري ، فـقط حين فتحت الموضوع في اليوم التالي خيرني بينه وبين العمل بعد أن اتهمَ أهلي بأنهم وراء عنادي الجديد ..
وددت لو أمتلك شجاعة لأخبره من منا يديره أهله .. تمنيت لو أستطيع إعادة كلمات أمه المتشنجة حين ناقشها في أمر عملي .. حين اقترح أن يسمح لي وينكد علي .
-------------------------------------------------------
( 10 )
- أتحبينه ؟ قالها وهو يطوقني فيما كنتُ أرضع الصغير ، أتأمل الطفل الذي كل ما بان من ملامحه يحاول جاهداً أن يقلد ذا الكبير ، أرقب طمأنينته الخالصة وبما يشبهها أقول : أتصدق أني أحبك فوق ما أحبه ؟
يلبس أبوته كاملة بعد أن يطرد نشوة حسبها آثمة ، ثم يقول لي : لا يسعدني ذلك . أريد أن تحبيه هو أكثر حتى من نفسك .
هذا هو قريني ، حتى مشاعري يفصلها بالطريقة التي يريد ، ويشذب زوائدها إن لم تعجبه .
------------------------------------------------------
( 11 )
- سأخرج من بيتهم بشكل نهائي..لمملت كل حاجياتي ، وسآتي بعد قليل ..
- إن كان من أجل الوظيفة فقد طارت وانتهى الأمر .
- ليست وحدها السبب يا أمي .
لأول مرة أرى أمي متماسكة هكذا ، هل أخطأت تقدير وعيها ؟
لم يبدُ لي أن قراري أدهشها .
أبعد صورتها لأتأكد مرة أخرى من تنظيم الغرفة ؛ ما كنتُ أريد أن أتركها له غير مرتبة .. ما كنت أحتمل فكرة أن يلومني ولو كانت أذني الأنأى عن سماعه !
ألقي نظرة على الصغير النائم الذي صار الآن يعرف وجهي ووجه أبيه جيداً ، ثم أحمله وأخرج .
ألقي على البيت النظرة الأخيرة ، أخرج..على عتبة الباب أودع العجوز فتدير ظهرها متظاهرة بأنها لم ترني .
أواسي نفسي : لا بأس لا أحد يجرؤ على مواجهة حريق شارك في إشعاله .
تستجمع أمي شجاعتها فلا تبكي..لكنها كل لحظة تستعيدني ما أطلعتها عليه من الحكاية فلا أضيف جديداً ..تسألني وأتجنب استفهاماتها لأستولد استفهاماتي أنا : هل حقاً أني خرجت ؟ ماذا يعني خروجي؟ أأنا خرجت أم طردت ؟ متى سأعود ؟ كيف؟ هل سيأتي غداً ليصالحني ؟
جاءت ريم من المدرسة ..رأت حقائبي ولم تُعلّق..
هي وسعود وماجد فرحوا بالصغير ، فتركته لهم فيما لأحاول النوم..متمنية لو أني أحضرتُ صورته معي .
في الليل لم أتآلف مع المكان بسرعة ، رائحة غرفتي القديمة تعبق بشيء كالغبار..سريري يطقطق كلما تحركت يمنعني من النوم ..ملابسي تضايقني ..
لم أعرف أنه سيكون شهراً للدموع ، لم يتصل ، لم يسأل ، حتى أهلي الذين كانوا يشدون من أزري انسحبوا لسواد الصمت.
أبي الذي في البداية أرهقني بسؤلاته المكرورة : هل حصل بينكما شيء غير رغبتك في العمل ؟ لِمَ لم تقولي له كذا ؟ ولِمَ سكتَ حين قال كذا ؟ و لمّا رددت عليه بهذه الحجة بماذا أجابك ؟
ما مِنْ جلسة أخرج منها وهو راضٍ عن أدائي رغم أني صرت كلما استعادني الحكاية اقتطعُ من تفاصيلها ما لم يرضه في المرات السابقة .
أحياناً يذكرني بتفصيل قلته بالأمس و تجاهلته اليوم ليعيد تأنيبي عليه..حتى هو أخر الأيام ملّ وأراحني .
----------------------------------------------------------
( 12 )
مها تتصل : لماذا أنتِ عند أهلك ؟
سكت فتورطت هي ، ثم حاولت أن تجد لي مخرجاً فـقالت : أهو مسافر؟
-لا..
-إذن لماذا لستِ عنده ؟
-كذا أحسن..
تغلق السماعة وأدرك أنها البداية ، وأن سجلي سينفتح في الديرة وسيقرأ الكل سطوره من أولها .
في الليل وحدي مع فيروز ، أنشج وتغني لي :
"كيفك ؟
قال عم بيقولوا صار عندك ولاد ،
أنا والله كنت مفكرتك براة البلاد "
أتخيل أني ألتقي به بعد سنين أُطل عليه من فوق نجاحاتي وأقول له : " كيفك ؟ " أسأله عن أحواله ، عن أولاده ، وأعبث به ؛ يرسل له جسدي رسالتين متعاكستين تماماً واحدة تدعيّ أنها لا تكاد تراه لفرط صغره ، وفي الثانية شيء من ظلال اهتمام به قديم ، حين يغادر منكسراً انطرح في سريري ، أبكيه .
-----------------------------------------------------------
( 13 )
ثم ماذا ؟ ظل هذا السؤال شاغلي عُمراً . ماذا سأفعل ؟ أنتظره ؟ أم أنساه أوأشرع القلب لساكن جديد ؟
كلما طرزت وسادتي الخالية بآخر غيره مر الليل كله وأنا أحاول أن أستشعر ألفة تجاهه لا تجيء .
آخر واحد تزوجته في خيالي تجاهلتُ وأنا معه ذا الخاطر ، ظللت متعلقة بذراعه أرفل في فستاني الأبيض الرقيق ثم ..ثم..سافرنا لا أدري إلى أين ؟!
- لكني يا مها كنتُ أسير مقبوضة الصدر خائفة ، وهذا الكائن بجواري لا يفعل شيئاً ، لا يحاول أن يشعرني بالأمان . ماذا كان يجب أن أفعل ؟
- تتزوجي غيره .
تنهدتُ بعمق وقلت : لم يبق واحد في الديرة ، لم يبق أحد في رأسي إلا اقترنتُ به ، لكن لا فائدة .
مها قالت : وسمية اكتبي .
- أكتب ؟!!
- نعم ، أذكر كتاباتك أيام الثانوية ، كانت رائعة ، والآن تبدو الكتابة خياراً معقولاً .
أتذكر الكراسة الصغيرة التي اشتريتها في أواخر أيامي في بيت طليقي ، ومها تذكرني إشادات بعض أستاذاتي اللاتي كنا نطلعهن على ما كنتُ أكتبه .
تواصل مها : هذه الأيام كلما تأملت ما مضى من عمرك بدا لي أن ثمة أدواراً كان عليك أن تلعبيها بسرعة لتنتهي منها وتتفرغي للكتابة : زوجة في التاسعة عشرة ، أم في مطلع العشرين ، ومطلقة قبل الحادية والعشرين، ثم .. أنت لك !!
ودعتها ورحت أنبش أوراقي القديمة بحثاً عما يصلح للنشر.
---------------------------------------------------------
- حين انتهيت من الكتابة تعجبت جداً : ليس فيه ما يُحب ، كيف أحببته ؟
- المشاعر الإنسانية ليست عقلانية أبداً ، ولا تخضع للمنطق ، ولله حكمة في ذلك .
- أتدرين ..؟ أعتقد أني لم أقع في حبه ، أنا لم أجرؤ على كرهه ، ظنت الطفلة التي كنتها والتي علموها فقط ( كوني له أمة ) أن أكبر الخطايا أن تكره من اقترنت به .
- عبدة ؟! أنت يا وسمية ؟! صدقيني لا أستطيع تخيلك في هذا الدور مهما حكيت ، هذا لا يشبهك أبداً .
في بالي تزدحم صور كثيرة كان فيها يذلني ، لا أريد أن أرويها الآن ، لذا قلت لها : عموماً سترين ما كتبت وتحكمين بنفسك .
- كتبت شيئاً من ذلك ؟
- أخافتني فكرة أن هذا الجزء المؤلم سيغادر الذاكرة مادامت الدكتورة تمسح الآن بعضه ، وتزوِّر بعضه الآخر .
- كتبته لتنشريه ؟!
- لا يا ريم ، بل لأطلعك أنت وعلياء عليه حالما أعود ، لتعرفا الملامح التي عشت بها الزواج ، ولكي لا أغفر له في يوم من الأيام .
- أين وضعت ما كتبت ؟
- في حقيبتي ..لماذا تسألين ؟
- لأني واثقة أن فيه فضائح كعادة كتاباتك ، وأخاف أن يقع في يد أحد ، ستكون مشكلة ، انتبهي له .
- مرة واحدة يا ريم أتمنى ألا تكوني نفسك .
قالت شقيقتي بلسان بدا يشبهني أكثر مما يشبهها : " لا أسوأ من ألا تكون ذاتك "
أترك المهووسة بالستر ، وأقلب دفتري وحبره يسيل ، أدسه تحت ملابسي وأخرج .
----------------------------------------------------------
في الليل تتصل ، وبلهفة تسأل : كيف هي جلسة اليوم ؟
لا أدري لم راودتني فكرة أن علياء تستمتع بحكايتي مع الدكتورة ، تجد في متابعتها ذات اللذة التي يمكن أن تجدها في قراءة رواية غرائبية .
قبل أن أصرح بفكرتي ينتابني وجهها القريب كأم فأخاف أن أجرحه ، أعطيها كلمتي غير المرتبة تفادياً لخروج الأخرى النـزقة : كانت الجلسة اليوم الأخيرة للأسف .
- لماذا ؟
- غداً نعود لديرتنا .
- طيب ..الحمد لله ، هذه الجلسات فيها الكفاية ، وقد أفادتك كثيراً ( بشهادتك ) لا تكوني طماعة يا وسمية ، ومادمت استطعت زيارتها هذه المرة فالزيارات القادمة ستكون أسهل ، ما علينا ..ماذا قالت لك ؟
- أنا قلت لها .. بحت لها بأنه ما زال يستـعبدني حتى الآن ، وأنه ما احتلني بالزواج قدر ما احتلني بعده .
قالت الدكتورة : ارميه في حاوية النفايات ، من يرهقك حمله في صدرك ضعيه فيها ( تخيلي ذلك ) وبعدها لن يشغل بالك ، لأنك تكونين قد قررت نفيه من دائرة اهتمامك .
- بهذه البساطة ؟ قالتها علياء ، وكنت قبلها عند الدكتورة أريد قولها ، ثم أبلعها احتراماً لها ، لعلياء أقدم تفسيراتٍ لا أنسبها لي ولا للدكتورة : بهذه البساطة ، لاحظي الفكرة ؛ نحن نضع في الحاوية ما لا نحتاجه ، وما نضعه فيها لا نعود للتفكير فيه مطلقاً .
على الأريكة البنية ذاتها أستلقي ، أسترخي ، وتعليمات الدكتورة تتتابع حتى أصل الخدر الكامل ، ثم أقربُها .
وأنا لا أزال أنظر للحاوية الكبيرة ، أتساءل إن كان للونها الأحمر دلالة أم لا ، قالت لي : هل فتحتها ؟
- فتحتها ، ووضعته فيها .
- جيد ..
- هو يصرخ يا دكتورة .
- لماذا ؟
- هي مملوءة بعلب المعلبات الفارغة .. حين ألقيته فيها جرحت العلب ظهره .
علياء هتفت : أحسن ، يستاهل ..
أفرح حين أجدها تقع في مزلقي ، وأواصل سردي : الدكتورة قالت لي ألا أرمي معه كل ذا الحقد ، نريد أن نرميه ونشفق عليه ..
ما كان فيَّ أي شفقة عليه ، لكني استعصمت بكلمتها " نحن ضحايا الضحايا " فسألتها : ماذا أفعل الآن ؟
- الخيار لك ..
- حسناً ، لقد وضعته في أخرى جديدة .
لا أعرف كيف أصف لك إحساسي يا علياء بعدها والدكتورة تمسح رأسي ، من يدها تفيض على روحي سكينة بيضاء فواحة .
- آه يا وسمية كم أتمنى لو أزورها ( الدكتورة هناء )
أضحك ، وأعرف أنها بدأت تـغضب ، لكني لم أستطع ، الصورة التي ارتسمت بين عيني لحظتها لعلياء والدكتورة تقلبها فلا تجد فيها شيئاً للعلاج تضحكني جداً .
------------------------------------------------------