يا رب لولا أنت مــا اهتدينا
ولا تصــدَّقنـــا ولا صلــــينا
فأنزلــن سكينـــة عــــلينا
وثبــت الأقــــدام إن لاقينا
إن الذيـــن قد بغــوا علينا
إذا أرادوا فتــنـــة أبـــيـــنا
ولما سمعه عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: “يا ابن رواحة أفي حرم الله وبين يدي رسول الله؟!” فرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم : “خل عنه يا عمر فوالذي نفسي بيده لكلامه أشد عليهم من وقع النبال”.
وكان المسلمون المهاجرون منهم والأنصار يحفظون شعر “عبد الله بن رواحة” عن ظهر قلب ويرددون أناشيده الجميلة في مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان “ابن رواحة” سعيدا بحب المسلمين، ويكثر من الشعر كلما شعر بهذا الحب حتى نزلت الآية الكريمة: “والشعراء يتبعهم الغاوون” فحزن حزنا شديدا وقرر أن يترك إنشاد الشعر ولكنه سرعان ما استرد غبطة نفسه وواصل مهمته في الدفاع عن الإسلام بشعره بعد نزول آية أخرى “إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا”.
وعندما جاءت سنة ثمان للهجرة أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشا لمواجهة الروم وأمّر عليه زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب وعبد الله بن رواحة فإن استشهدوا فليرتض المسلمون رجلا فليجعلوه عليهم.
ولما أراد الخروج بكى عبد الله فقالوا: ما يبكيك يا بن رواحة ؟ فقال: أما والله ما بي حب الدنيا ولا صبابة إليها ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ “وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا” فلست أدري كيف لي بالصدور بعد الورود؟ فقال المسلمون: صحبكم الله وردكم إلينا صالحين ودفع عنكم فأرسل بن رواحة هذه الأبيات المزلزله:
لكننـــي أسأل الرحمن مغـــفرة
وضــربة ذات فـــــرع تقذف الزبدا
أو طــعنة بيـدي حرَّان مـــــجهزة
بحربة تنـــفذ الأحــــشاء والكبدا
حتى يقال إذا مروا على جدثـي
أرشدك الله من غازٍ وقـــد رشدا
وهكذا كانت أمنية عبد الله بن رواحة ولا شيء سواها، ضربة سيف أو طعنة رمح، تنقله إلى عالم الشهداء الظافرين، ولم يكن ذلك عجيبا عليه فقد خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم في كل غزواته “بدر وأحد والخندق والحديبية وخيبر” راغبا في الموت في سبيل الإسلام ومن أشهر قصائده:
يا نفس إلا تقتلي تمــــوتي
هذا حياض الموت قد صليت
وما تمــــنيت فـــقد لـــقيت
وإن تأخـــرت فــــقد شقيت
وتحرك الجيش إلى مؤتة وحين استشرف المسلمون عدوهم وجدوا قرابة مائتي ألف مقاتل من الروم، فوجموا.. وقال بعضهم: “فلنبعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نخبره بعدد عدونا، فإما أن يمدنا بالرجال، وإما أن يأمرنا، فنمضي له” فشجعهم عبد الله بن رواحة على المضي إلى الجهاد قائلا: “ما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به فانطلقوا فإنما هي إحدى الحسنيين إما ظهور وإما شهادة” وبدأ يحث الناس بشعره على الجهاد قائلا مخاطباً ناقته:
إذا أدنيتني وحـــملت رحلي
مسيرة أربع بعــــــد الحساء
فشأنك فانعــمي وخلاك ذم
ولا ارجع إلــى أهلـي ورائي
وجاء المـــــؤمنون وغادروني
بأرض الشام مشهور الـــثواء
وكان لشعر ابن رواحة مفعول السحر حتى إنه زرع الحماس في نفوس المجاهدين وانطلقوا لملاقاة جيش الروم وهم يهتفون: الله اكبر.. الله اكبر.
والتقى الجيشان وسقط الأمير الأول “زيد بن حارثة” شهيدا مجيدا.. وتلاه الأمير الثاني “جعفر بن أبي طالب” حتى أدرك الشهادة في غبطة وعظمة.. وتلاه ثالث الأمراء “عبد الله بن رواحة” فحمل الراية من يمين جعفر وكان القتال قد بلغ ذروته وكادت القلة المسلمة تتوه في زحام الجيش العرمرم الذي حشده هرقل وحين كان “ابن رواحة” يقاتل كجندي كان يصول ويجول في غير تردد.. أما الآن فقد صار أميرا للجيش ومسئولا عن حياته ولكنه بلا تردد استجمع كل قواه وأخذ يصيح بالمسلمين:
أقسمت يا نفس لتنـــــزلـنه
لتــــــنــزلنّه أو لتُكـــــرهــنّه
ما لي أراك تكــرهين الجـنـة
ما أنت إلا نــــطفة في شنّه
يا نفـــس إلا تقتلي تموتـي
هذا حمام الموت قد صليـت
وما تمــنيــت فقــد أعطيـت
إن تفــعلي فعلــهما هـديت
وكان يعني بذلك صاحبيه اللذين سبقاه إلى الشهادة: زيدا وجعفر رضي الله عنهما.
وما إن سمع المسلمون صياح عبد الله بن رواحة حتى هبوا لمؤازرته وهو يعصف بجيش الروم بكل قوة وشجاعة وهم يرددون أنشودته الخالدة.. حتى سقط ابن رواحة شهيدا كما تمنى.
وبينما كان القتال يدور فوق ارض البلقاء بالشام أخبر الوحي رسول الله صلى الله عليه وسلم بما حصل في الغزوة فحدث رسول الله الصحابة بذلك والمعركة مازالت تدور.
هكذا كان “عبد الله بن رواحة” شاعرا مجاهدا جسد أبرع صور الدفاع عن الإسلام والذود عنه بشعر صادق يحض النفوس على التقوى والجهاد وطلب الشهادة.. فأحبه النبي وأثنى عليه كثيرا والتف حوله المسلمون وحفظوا شعره ورددوه عن ظهر قلب.. رحم الله “ابن رواحة” وأسكنه فسيح جناته.
اللهم إني أحب عبدك عبد الله بن راوحة , اللهم أجمعني به في دار عدلك ومستقر رحمتك.