التواضع : ـ
التواضع كما عُرف: هو عدم التعالي والتكبر على أحد من الناس ، وحينما عَرّف النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الكبر قال :' الكبر بطر الحق ، وغمط الناس ' وبطر الحق معناه : ألا تقبل الحق ، وغمط الناس معناها : أن تأتي للبسطاء والفقراء وأنت شامخ عليهم بأنفك.. ترى لنفسك رفعة ومكانة ، فلا تسلم على هذا ولا تتكلم مع هذا ولا تبتسم لهذا " و سُئل الفضيل بن عياض ـ رحمه الله ـ عن التواضع ، فقال : " أن تخضع للحق وتنقاد إليه ، ولو سمعته من صبي قبلتَه ، ولو سمعتَه من أجهل الناس قبلته . و قال أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ " لا يحْقِرَنَّ أحدٌ أحدًا من المسلمين فإن صغير المسلمين عند الله كبير " . وكان من عادة السلف ـ رحمهم الله ـ إن الإنسان منهم يجعل من هو أصغر منه مثل ابنه ، ومن هو أكبر مثل أبيه ، ومن هو مثله مثل أخيه ، فينظر إلى من هو أكبر منه نظرة إكرام وإجلال ، وإلى من هو دونه نظرة إشفاق ورحمة ، وإلى من هو مثله نظرة مساواة ، فلا يبغي أحد على أحد . ومدح سبحانه عباده ووصفهم بالتواضع بقوله تعالى ( وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما ) سورة الفرقان (63) ، وقال تعالى ( تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوًا في الأرض ولا فسادًا والعاقبة للمتقين ) سورة القصص (83) . والتواضع. من أخلاق المسلم الرفيعة ومن شعب ألائمان العظيمة ، فالمسلم متواضع لله رب العالمين يتقبل دينه ، خاضع له سبحانه ، لا يجادل ولا يعترض على أوامر الله برأيه أو هواه , متمسك بسنة وهدي رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيقتدي به في أدب وطاعة ، ودون مخالفة لأوامره ونواهيه قال تعالى ( وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا ) سورة الأحزاب (36) ، وهذه الآية عامة في جميع الأمور ، وذلك أنه إذا حكم الله ورسوله بشيء ، فليس لأحد مخالفته . ومتواضع لوالديه فهما أصل وجوده وسبب بقائه بما تعاهداه من حمل أمه له وتربيتها وتعب والده لحمايته وصونه ، قال تعالى ( واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل ربي ارحمهما كما ربياني صغيرا ) سورة ألإسراء (24) . ومتواضع لعباد الله المؤمنين يحبهم ويحبونه فلا يتكبر عليهم ، و يعرف حقوقهم ، ويؤديها إليهم مهما كانت درجتهم ، و يعود إلى الحق ويرضى به مهما كان مصدره، قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ " ما من إمام أو وال يغلق بابه دون ذوي الحاجة والخلة والمسكنة إلا أغلق الله أبواب السماء دون خلته وحاجته ومسكنته " , قال ابن المبارك ـ رحمه الله ـ " رأس التواضع أن تضع نفسك عند من دونك في نعمة الدنيا حتى تعلمه أنه ليس لك بدنياك عليه فضل، وأن ترفع نفسك عمن هو فوقك في الدنيا حتى تعلمه أنه ليس له بدنياه عليك فضل "
والتواضع خلق محبب للخالق جلّ شأنه ولذلك ربى عليه أنبيائه فخاطب حبيبنا ونبينا محمداً ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمراً له بالتواضع بقوله تعالى ( واخفض جناحك للمؤمنين ) سورة الحجر(88) ، وربى عليه موسى عليه السلام يوم أن قال أنه لا يعرف من هو أعلم منه على وجه الأرض فأرسل إليه الخَضِر ليتعلم منه ، وربى عليه سليمان عليه السلام الذي أوتي من الملك ما لم يؤته أحد من العالمين فجاءه الهدهد وهو طائر صغير ليقول له : ( أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبإ بنبإ يقين ) النمل (22) ، وقد ضرب نبيّنا محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ أروع الأمثلة وأعلاها في التواضع قال تعالى ( فبما رحمة من الله لنتَ لهم ولو كنتَ فظّاً غليظ القلب لانفضوا من حولك ) آل عمران ( 159) ، وقال تعالى ( وإنك لعلى خلق عظيم ) سورة القلم ( 4) ،والنماذج التي تدل على تواضعه صلى الله عليه وسلم كثيرة، منها:
كان ـ صلى الله عليه وسلم ـ رقيقَ القلب رحيمًا خافضَ الجناحِ للمؤمنين ليّن الجانب لهم ، يحمِل الكلَّ ويكسِب المعدوم ، ويعين على نوائبِ الدّهر ، وركب الحمارَ وأردفَ عليه ، يسلّم على الصبيان ، ويبدأ من لقيَه بالسلام ، يجيب دعوةَ من دعاه ولو إلى ذراعٍ أو كُراع ، و كان ـ صلى الله عليه وسلم ـ فى خدمة أهله . يشترى لهم حاجاتهم من السوق , ويرقع ثوبه ويقصف نعله ويحلب شاته ولما سئِلت أم المؤمنين عائشة ـ رضي الله عنها ـ : ما كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يصنَع في بيته ؟ قالت : يكون في مهنة أهله ـ يعني: خدمتهم ـ فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة. كلمه صلى الله عليه وسلم رجل يوم الفتح فأخذته الرعدة فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ هون عليك فإنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد ودخل مكة يوم الفتح منتصراً، ولكنه دخلها ، وهو خاشعاً مكبراُ ، خافضًا رأسه تواضعًا لله رب العالمين ، حتى إن رأسه ـ صلى الله عليه وسلم ـ كادت أن تمس ظهر ناقته ورغم ما تعرض له من أهلها لكنه قال لهم : " لا تثريب عليكم اليوم " ويوم غزوة الخندق اختار ـ صلى الله عليه وسلم ـ أصعب الأعمال ,فكان ينزل لحمل التراب من الحفرة ثم يصعد به وقد غطاه التراب ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ وجزاه عن أمته خير الجزاء ،
أما عن تواضع السلف الصالح فقد حفلت سيرتهم بالكثير.نورد نماذج لها فيما يلي:
* قال أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ بعد أن بَايَعَه الناسُ بالخلافة :" أيها الناس فأني قد وليت عليكم ولست بخيركم فأن أحسنت فأعينوني وأن أسأت فقوموني " وقال : " أَطِيعُوني ما أَطَعْتُ اللّهَ ورسولَه فإِذا عَصَيْت اللَّهَ ورسولَه فلا طاعةَ لي عليكم " وكان ـ رضي الله عنه ـ يذهب إلى كوخ امرأة عجوز فقيرة ، فيكنس لها كوخها ، وينظفه ، ويعد لها طعامها ، ويقضي حاجتها . وقد خرج ـ رضي الله عنه ـ يودع جيش المسلمين الذي سيحارب الروم بقيادة أسامة بن زيد ـ رضي الله عنه ـ وكان أسامة راكبًا ، والخليفة أبو بكر يمشي، فقال أسامة : " يا خليفة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لتركَبَنَّ أو لأنزلنَّ " . فقال أبو بكر " والله لا تنزل ، ووالله لا أركب.. وما عليّ أن أغبّر قدمي ساعة في سبيل الله " .
*حمل عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ الدقيق على ظهره ، وذهب به إلى أطفال يتامى ، وأشعل النار ، وظل ينفخ حتى نضج الطعام ولم ينصرف حتى أكل الأطفال وشبعوا . ويروى أن رجلا من بلاد الفرس جاء برسالة من كسرى ملك الفرس إليه ـ رضي الله عنه ـ وحينما دخل المدينة سأل عن قصر الخليفة ، فأخبروه بأنه ليس له قصر فتعجب الرجل من ذلك ، وخرج معه أحد المسلمين ليرشده إلى مكانه . وبينما هما يبحثان عنه في ضواحي المدينة ، وجدا رجلا نائمًا تحت شجرة ، فقال المسلم لرسول كسرى : هذا هو أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ، فازداد تعجب الرجل من خليفة المسلمين الذي خضعت له ملوك الفرس والروم ، ثم قال الرجل : حكمتَ فعدلتَ فأمنتَ فنمتَ يا عمر . رأه عروة بن الزبير ـ رضي الله عنهما ـ يحمل قربة ماء فقال له: ألا ينبغي لك هذا . فقال :" لما أتاني الوفود سامعين مطيعين ـ القبائل بأمرائها وعظمائها ـ دخلت نفسي نخوة ، فأردت أن أكسرها " ، وقال له رجل من المؤمنين :لو زللت لقومناك بسيفنا وأجابه بقوله الحمد لله الذي جعل من يقوم عمر بسيفه . وعن جبير بن نفير : أن نفرا قالوا لعمر بن الخطاب : ما رأينا رجلا أقضى بالقسط ، ولا أقول للحق ولا أشد على المنافقين منك يا أمير المؤمنين ، فأنت خير الناس بعد رسول الله . فقال عوف بن مالك: كذبتم والله ، لقد رأينا بعد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ . فقال : من هو ؟ فقال : أبو بكر ، فقال عمر صدق عوف وكذبتم ، والله لقد كان أبو بكر أطيب من ريح المسك ، وأنا أضل من بعير أهلي . يعنى قبل أن يسلم ، لأن أبا بكر أسلم قبله بست سنين ،.
* عندما كان سلمان الفارسي ـ رضي الله عنه ـ أميراً على المدائن ، فجاء رجل من أهل الشام معه حمل تين ، وعلى سلمان سراويل عجمية وعباءة ، فقال الرجل لسلمان :تعال احمل ـ يحسبه حمالاً ـ فحمل سلمان ، فرآه الناس فعرفوه ، فقالوا هذا الأمير، فقال الرجل :لم أعرفك ، فقال له سلمان : لا حتى أبلغ منزلك ، قد نويت فيه نية فلا أضعه حتى أبلغ منزلك .
* كان علي بن الحسن يقول: عجبت للمتكبر الفخور الذي كان بالأمس نطفة ثم هو غدا جيفة، وعجبت كل العجب لمن شك في الله وهو يرى خلقه، وعجبت كل العجب لمن أنكر النشأة الأولى، وعجبت كل العجب لمن عمل لدار الفناء وترك دار البقاء.
* ورد أن ضيفا نزل يومًا على الخليفة عمر بن عبد العزيز ، وأثناء جلوسهما انطفأ المصباح ، فقام الخليفة عمر بنفسه فأصلحه ، فقال له الضيف يا أمير المؤمنين ، لمَ لَمْ تأمرني بذلك ، أو دعوت من يصلحه من الخدم ، فقال الخليفة له :" قمت وأنا عمر ، ورجعت وأنا عمر ما نقص مني شيء ، وخير الناس عند الله من كان متواضعًا ".
* يقول ألأمام الشافعي رحمه الله: " أرفعُ الناس قدرًا من لا يرى قدرَه، وأكبر النّاس فضلاً من لا يرى فضلَه "
و قد وضع الله حداً للتواضع بشكلٍ لا يقود إلى الذلة والضعف المهين للإنسان والدين " . يقول تعالى في وصف عباده المؤمنين : (يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين ) سورة المائدة من ألآية(54 ) ، و هذه صفات المؤمنين الكُمَّل أن يكون أحدهم متواضعًا لأخيه ووليه ، متعززًا على خصمه وعدوه ، كما قال تعالى ( محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم) سورة الفتح ( 29) .وعن أبي ذر رضي الله عنه قال "أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم بخصال من الخير أوصاني أن لا أنظر إلى من هو فوقي وأن أنظر إلى من هو دوني وأوصاني بحب المساكين والدنو منهم وأوصاني أن أصل رحمي وإن أدبرت وأوصاني أن لا أخاف في الله لومة لائم وأوصاني أن أقول الحق وإن كان مرا وأوصاني أن أكثر من لا حول ولا قوة إلا بالله فإنها كنز من كنوز الجنة " .
فالعاقل لا يفارق التواضع المحمود يبدأ من لقيه بالسلام ، ويجيب دعوة من دعاه ، كريم الطبع ، جميل العشرة ، طلق الوجه ، باسم الثغر رقيق القلب ، متواضعا من غير ذلة ، جواداً من غير سرف ، نابذاً صفات المتكبر الذي جهل قدر نفسه وتفاصيلها ، وعيوب عملها وآفاتها فيشعر بأن منزلته ومكانته أعلى من منزلة غيره ، و هو في حقيقة الأمر معتدٍ على مقام الألوهية، ، إذ الكبرياء والعظمة لله وحده . قال تعـالى ) فلله الحمد رب السموات ورب ألأرض رب العالمين* وله الكبرياء في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم ) سورة الجاثية (36-37 ) ، وقال سبحانه في الحديث القدسي: ( الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري ، من نازعني واحداً منهما ألقيته في جهنم ) رواه مسلم . وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده : عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : " يُحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذرِّ في صُوَر الرجال يغشاهم الذل من كل مكان فيساقون إلى سجن في جهنم يسمى " بولس " تعلوهم نار الأنيار يسقون من عصارة أهل النار طينة الخبال" . فالعبد عبد والرب رب فكيف يليق الكبر بإنسان أوله نطفة قذرة ، وآخره جيف منتنة ، وهو بينهما عاجز واهن ، يرهقه الجوع والظمأ ، ويعتوره السقم والمرض ، وينتابه الفقر والضر ، ويدركه الموت والبِلى ، لا يقوى على جلب المنافع ورد المكاره ، و كلما حوله يؤكد عبوديته لله. ويكفي المتواضع فخرا أن العبد كلما تواضع أزداد رفعة قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ " ما نقصت صدقة من مالٍ ، وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزا وما تواضع أحدا إلا رفعه الله " وقال ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ قال : " لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر ، قال رجل : إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنة ، قال : إن الله جميل يحب الجمال ، الكبر : بَطَر الحق وغَمْط الناس ".
تواضع تكن كالنجم لاح لناظر على صفحات الماء وهو رفيع
ولا تك كالدخان يعلو بنفسـه إلى طبقات الجو وهو وضيـع
ختاما فإن على كل عبد مؤمن أن يخلص قلبه من الشعور بالعظمة والغرور واحتقار الآخرين وأن يُخلص سلوكياته من مظاهر الكبر وأن يحب لأخيه ما يحب لنفسه وصدق رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ القائل " مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم مثل الجسد إذا اشتكى منه شيء تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى " وفي حديث قدسي قال الله تعالى: " حقت محبتي للمتحابين في وحقت محبتي للمتواصلين في ، وحقت محبتي للمتناصحين في ، وحقت محبتي للمتزاورين في ، وحقت محبتي للمتباذلين في ، المتحابون في على منابر من نور يغبطهم بمكانهم النبيون والصد يقون والشهداء " .
اللهم إنا نعوذ بك من منكرات الأخلاق والأعمال والأهواء والأدواء ، و نسألك فعل الخيرات , وحبك وحب من يحبك وحب كل عمل يقربنا إلى حبك .
وصلى اللهم على الهادي البشير نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين ،،،،،،،
جمعه وكتبه الراجي رحمة ربه
عبد الهادي بن عبد الوهاب المنصوري
جدة 18/8/1431هـ