- بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في حلقة من أصحابه ، إذ قال : ليصلين معكم غدا رجل من أهل الجنة . قال أبو هريرة : فطمعت أن أكون أنا ذلك الرجل ، فغدوت فصليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم فأقمت في المسجد حتى انصرف الناس وبقيت وهو ، فبينا نحن عنده إذ أقبل رجل أسود متزر بخرقة ، مرتد برقعة ، فجاء حتى وضع يده في يد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال : يا نبي الله ! ادع الله لي . فدعا النبي صلى الله عليه وسلم له بالشهادة ، وإنا لنجد منه ريح المسك الأذفر ، فقلت : يا رسول الله ! أهو هو ؟ قال : نعم . إنه لمملوك لبني فلان ، قلت : أفلا تشتريه فتعتقه يا نبي الله ؟ قال : وأنى لي ذلك إن كان الله تعالى يريد أن يجعله من ملوك الجنة ، يا أبا هريرة ! إن لأهل الجنة ملوكا وسادة ، وإن هذا الأسود أصبح من ملوك الجنة وسادتهم ، يا أبا هريرة ! إن الله تعالى يحب من خلقه الأصفياء الأخفياء الأبرياء الشعثة رءوسهم ، المغبرة وجوههم ، الخمصة بطونهم إلا من كسب الحلال ، الذين إذا استأذنوا على الأمراء لم يؤذن لهم ، وإن خطبوا المتنعمات لم ينكحوا ، وإن غابوا لم يفتقدوا ، وإن حضروا لم يدعوا ، وإن طلعوا لم يفرح بطلعتهم ، وإن مرضوا لم يعادوا ، وإن ماتوا لم يشهدوا . قالوا : يا رسول الله ! كيف لنا برجل منهم ؟ قال : ذاك أويس القرني . قالوا : وما أويس القرني ؟ قال : أشهل ذو صهوبة ، بعيد ما بين المنكبين ، معتدل القامة ، آدم شديد الأدمة ، ضارب بذقنه إلى صدره ، رام بذقنه موضع سجوده ، واضع يمينه على شماله ، يتلو القرآن يبكي على نفسه ، ذو طمرين لا يؤبه له ، متزر بإزار صوف ، ورداء صوف ، مجهول في أهل الأرض معروف في أهل السماء ، لو أقسم على الله لأبر قسمه ، ألا وإن تحت منكبه الأيسر لمعة بيضاء ، ألا وإنه إذا كان يوم القيامة قيل للعباد : ادخلوا الجنة ، ويقال لأويس : قف فاشفع . فيشفع الله عز وجل في مثل عدد ربيعة ومضر ، يا عمر ! ويا علي ! إذا أنتما لقيتماه فاطلبا إليه أن يستغفر لكما يغفر الله تعالى لكما . قال : فمكثا يطلبانه عشر سنين لا يقدران عليه ، فلما كان في آخر سنة التي هلك فيها عمر في ذلك العام قام على أبي قبيس فنادى بأعلى صوته : يا أهل الحجيج من أهل اليمن ! أفيكم أويس من مراد ؟ فقام شيخ كبير طويل اللحية فقال : إنا لا ندري ما أويس ؟ ولكن ابن أخ لي يقال له : أويس ، وهو أخمل ذكرا ، وأقل مالا ، وأهون أمرا من أن نرفعه إليك ، وإنه ليرعى إبلنا ، حقير بين أظهرنا ، فعمى عليه عمر كأنه لا يريده ، قال : أين ابن أخيك هذا ، أبحرمنا هو ؟ قال : نعم . قال : وأين يصاب ؟ قال : بأراك عرفات ، قال : فركب عمر وعلي سراعا إلى عرفات فإذا هو قائم يصلي إلى شجرة والإبل حوله ترعى ، فشدا حماريهما ثم أقبلا إليه ، فقالا : السلام عليكم ورحمة الله ، فخفف أويس الصلاة ثم قال : السلام عليكما ورحمة الله وبركاته ، قالا : من الرجل ؟ قال : راعي إبل وأجير قوم ، قالا : لسنا نسألك عن الرعاية ولا الإجارة ؛ ما اسمك ؟ قال : عبد الله ، قالا : قد علمنا أن أهل السماوات والأرض كلهم عبيد الله ، فما اسمك الذي سمتك أمك ؟ قال : يا هذان ! ما تريدان إلي ؟ قالا : وصف لنا محمد صلى الله عليه وسلم أويسا القرني ، فقد عرفنا الصهوبة والشهولة ، وأخبرنا أن تحت منكبك الأيسر لمعة بيضاء فأوضحها لنا ، فإن كان بك فأنت هو . فأوضح منكبه فإذا اللمعة ، فابتدراه يقبلانه ، قالا : نشهد أنك أويس القرني ، فاستغفر لنا يغفر الله لك ، قال : ما أخص باستغفاري نفسي ولا أحدا من ولد آدم ، ولكنه من في البر والبحر ، في المؤمنين والمؤمنات ، والمسلمين والمسلمات ، يا هذان ! قد أشهر الله لكما حالي وعرفكما أمري فمن أنتما ؟ قال علي رضي الله عنه : أما هذا فعمر أمير المؤمنين ، وأما أنا فعلي بن أبي طالب ، فاستوى أويس قائما وقال : السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته ، وأنت يا ابن أبي طالب ، فجزاكما الله من هذه الأمة خيرا ، قال : وأنت جزاك الله من نفسك خيرا ، فقال له عمر : مكانك يرحمك الله حتى أدخل مكة فآتيك بنفقة من عطائي ، وفضل كسوة من ثيابي ، هذا المكان ميعاد بيني وبينك ، قال : يا أمير المؤمنين ! لا ميعاد بيني وبينك ، لا أراك بعد اليوم تعرفني ، ما أصنع بالنفقة ؟ ما أصنع بالكسوة ؟ أما ترى أن نعلي مخصوفتان متى تراني أبليهما ؟ أما تراني أني قد أخذت من رعايتي أربعة دراهم ، متى تراني آكلها ؟ يا أمير المؤمنين ! إن بين يدي ويدك عقبة كئودا لا يجاوزها إلا ضامر مخف مهزول ، فأخف يرحمك الله . فلما سمع عمر ذلك من كلامه ضرب بدرته الأرض ، ثم نادى بأعلى صوته : ألا ليت أن أم عمر لم تلده ، ياليتها كانت عاقرا لم تعالج حملها ، ألا من يأخذها بما فيها ؟ ثم قال : يا أمير المؤمنين ! خذ أنت هاهنا حتى آخذ أنا هاهنا ، فولى عمر ناحية مكة وساق أويس إبله فوافى القوم إبلهم ، وخلى عن الرعاية وأقبل على العبادة حتى لحق بالله عز وجل
يتبع ---------- ان شاء الله (( قصة أخرى ))