روحها الموشومة به,,,
للكآتبة السعودية أمل الفارآن’’
الجزء الأول~
ــــــــــــــــــــــــــــ
في ساحة بيتنا القديم يقف بدوي فيالخامسة عشرة من عمره ،غترته الحمراء الحائلة معصوبة على رأسه. الوحش - الذي لاأراه- يهدده هو وأمه .
الولد طلب من أهل الديرة تخليصهما فلم يفعلوا ، لذا اختطفخمسة من أولاد شيوخهم وفي مشراق بيتنا وضعهم ،خط برجله على الأرض الترابية دائرةحولهم ، وحلف ألا يتركهم حتى ينقذه أهل الديرة وأمه من الخطر "
- يا ألله.. دايرة !! قالت الدكتورة هناء باندهاش أسعدني وأخافني .
قبلها كان نَفَسُهايتناغم مع المقاطع المهمة ( الخطر ، التهديد ، الأولاد الخمسة ثم الدائرة ) يعلووأنا أهبط تذكراً لإحساسي في كل المرات السابقة التي أعود فيها من عالمي السحريمحلقة صوب صوتها البرتقالي .بين يديها أضع آخر ما شاهدته من كوة الحلم السحرية ،أفد كل مرة كما أصغر الصغار يحمل كنـزه لأمه بفرح مشوب برهبة اكتشاف أنه ليس شيئاًمهماً.
إثر كل حلم أحسبه يستحق أن يروى آتيها مرددة أكثر من مرة: " أنا لم أفهمه، قد لا يعني شيئاً " أفـعلُ تحسباً لخيبة أمل ستصيبني إن لم تتوقف عنده قدر ماقدرتُ قبلاً أنه حقه .
الليلة أكرر :" قد لا يعني .. حتى أنا لم أفهمه .."
- لا هذا حلم مهم جداً يا وسمية …الحلم الذي لستِ من أبطاله ولا تكونين حاضرة فيه حلممن أعلى طبقات الروح ..
- طبقات الروح ؟!
- نعم الروح طبقات يا وسمية ،حوالي سبع طبقات ، والأحلام عادة تأتي من الطبقات الدنيا ، لكنها أحياناً تأتي منالطبقات العليا. وهذه تكون أحلام مهمة جداً .
- ألن نعود له يا دكتورة ؟
- بلى ،ولكن بحذر سنلمسه حتى لا نفسده … إنه حلم شفاف ..
وهي تستعيدني الحلم أردتأن أحكيه لها بتفصيل أكبر..أن أحكي كل شيء حتى رائحة المكان وشكل بيتنا، وددت لوأخبرها عن ثوب الولد كَدِرِ اللون ، وعن أمه التي لم أرها ، عن الوحش الطاغية الذيأبغضه قدر ما يتحفز الولد لمواجهته … لكنها رهبة الدكتورة التي تضاهي حبهاتخرسني..
مرة قلت لها بثوارتي كلها ودون مناسبة : أتصدقين يا دكتورة أني صرتأحبك ؟!
قالت -لأنتبه لغلطتي- بضحكتها المجلجلة : وقبل ذلك أما كنتِ تحبينني ؟!
- بلى ، ولكني كنتُ( إن شئتِ الدقة في التـعبير ) أحترمك احتراماً مشوباًبالخوف .
- وما الاحترام ؟! إنه حب ورهبة ،فإذا زال الخوف بقي الحب وحده ..
أعيد حكاية الحلم وحين أصل للدائرة تنطلق نفس الـ " يا ألله " منها ثم تقول : للدائرة شأن عظيم في كل الديانات ..في كل الأساطير ..الدائرة حصر ..الدائرةحِرز..
ببالي ارتسمت " دائرة السوء " الواردة في القرآن ، ثم بسرعة وجدتني علىرملة أخوالي عند بيوتهم في النخل ، النسوة منتثرات عليها في شكل دائرة منبعجة منأكثر من جهة ، إحداهن (لا أذكر الآن من هي)كانت تدفع عن نفسها تهمة من تهم مجالسهنالتي تحط كل يوم على رأس جديد ، تُتوجُهُ بها أخرى ، فتنتفض المتهمة لتـزيل الجُرمولو بيمين كاذب ، ويظل حبهن لبعضهن بحكم القرابة هو هو لا يتـغير ، وتظل التهم هيهي لا تخمد ..
لا أذكر الآن ماذا كانت تنفي. فقط أذكر حلفها ،ثم سبابتيهااللتين ارتفعتا متوازيتين بمحاذاة صدرها .
تلتقيان ببعضهما أمام حِجرها،لتنغرزا في باطن الرمل ، ثم تنداحان عن دائرة أعاق ردفاها الكبيران اكتمالاستدارتها ، لتعود يداها للعلو في ارتعاشة النفي مخرسةً ظاهرياً الألسن السود ..
من الرملة جرجرني استفهام الدكتورة : الأولاد خمسة ؟! لماذا ؟
- ما أدري ..
- اسمعي ..
عادةً أهاتف الدكتورة قبل النوم مباشرة لأحمل توصياتها للسريرطازجة ، في الوقت الذي تتكاسل فيه أمي عن فتح باب غرفتي لترديد جملها الامتعاضية منمكالماتي الطويلة.
أتمدد ..أرخي عضلات جسدي كلها ، كالعادة تبقى عضلات رجلياليمنى مشدودة ، أتجاهلها ، أحاول أن أتنفس بعمق ..قبل الخدر بقليل أقف -كما أمرتالدكتورة - على بوابة الحلم .. بيني وجسد بيتنا الطيني تنبتُ بوابة خشبية كتلك التيعلى مداخل مقاهي أفلام الكاوبوي الهوليودية أطل من خلفها وأسأل أهل الحلم : إلى أينوصلنا ؟ ماذا حصل مع الولد وأمه والطاغية ؟
بعدها أرفع يدي عن البوابة ، أخفضجفني و… أنام.
المنبه يدس آخر صيحاته تحت وسادتي محذراًأن سيصمت ، بعده أمي بالباب تهتف : الصلاة.. أتطلع من النافذة ، الليل لم يستسلمتماماً ، مازالت عباءته تقاوم مشاكسات الضوء الأولى ، وهي تلمُّ أطرافها عن وجهالسماء .
بمجرد أن تطفئ البلدية أنوار الشارع يجب أن أكون في الزاوية تحت محلالذهب أنتظر السيارة التي ستقلني للعمل .
حين أتذكر ذلك كله تبدأ حركتي المحمومةمسابقةً العشرين دقيقة الباقية على الموعد .
على مقعدي المعتاد أَسْترجع ليلتيالبارحة ، ليتني أستطيع أن أهاتف الدكتورة الآن قبل أن أنسى من تفاصيل حلمي الجديدما قد يكون مهماً .
لولا ما أعرفه من فضول زميلتي التي بالمقعد المجاور لكنتكتبت كل شيء . احترازاً أعيد ترتيل الحلم مستحضرة روح الدكتورة ، أنا لم أرها أبداًمن قبل ، لذلك فأنا حين أستحضرها تشرق روحها هالة نورانية على ظهر المقعد الذيأمامي . أحكي لها مرة بإسهاب ، مراتٍ بإيجاز ، مرة أعلـّق ، حيناً أحلل ، وأحايينأصف .وهي تسألني : إلام يرمز هذا ؟ وماذا يعني ذاك ؟ فيما أنا أعتصر لغتي بحثاً عنألفاظ تبهرها ، كما في تعليلي لذاك الحلم ..
" كنت كدأبي _ وبدافع الحب _ قدحشرت نفسي في مشكلة بين صديقتين ، أردتُ الإصلاح فأغضبت الاثنتين مني وتألمتُ جداً، وفي الحلم شاهدت نفسي أقطّـع كبدة نصفها مهترئٌ ونصفها مقروح . أخبرت الدكتورةبالحلم فقط فقالت :
- تقطّـعين كبداً ؟! هل تفعلين ذلك عادة ؟!
- ليس دائماً ..
- ماذا تعني لك الكبد ؟
- في تراثنا العربي وفي لهجتنا المحلية _ حتىاليوم _ الكبد محل المشاعر ..حكيتُ لها عن كبد شاعرنا القديم المقروحة التي كانيريد استبدالها بأخرى صحيحة .
_ هذا هو .. يا سلام على الفنان !! هكذا انبرتالدكتورة تقول ، ثم أكملتْ وأنا لا أزال أغتبط بمديحها للفنان الذي هو أنا : تدرينيا وسمية بعض الناس حين أسألهم عن رموز أحلامهم يظل الواحد كالعنـز الدايـخة لاينطق "
فسرته لي لأنشغل آن كل حلم أعده لأبسطه تحت سمعها بهاجس أن أكون الفنانذاته الذي امتدحته علها تنفحني إطراءها .
بروح الفنان ذي أجتهد كل مرة في الصعودمع خيالها بتحليقاته المبهرة.
يومها عادت لكبدي المجروحة فعلاً والمقروحة ،قالت : لا يجوز أن تبقى هكذا ؛ عودي للموقف المؤلم.تنفسي بعمق وأنتِ تحيينهكاملاً.مع أنفاسك ستخرج ألوان تعبر عن مشاعرك التي كُبتت معه . بعد ذلك احملي الكبدبيديك ، أعيديها طرية طازجة ككبد طفل ، ثم قولي لهم : هاكم .. خذوها .
أنا لاأدري من هم هؤلاء الذين سأخاطبهم ، ولم أسأل الدكتورة ، لكني أظنهم سادة عالم الحلم .
أعود لحلم البارحة . أتهيأ لكل سؤال محتمل حتى لا أغدو عنـزاً غبيةً دايـخة ،أرتِّب لساني : " أنا بعد أن عملتُ ما قلتِ لي يا دكتورة ( لما سألت أهل الحلم عنالولد وأمه والوحش ) نمت فحلمتُ أني تلقيت خمس رسائل ،فتحت واحدة فاكتشفتُ أنيأخطأت تسلسلها فـقد كانت تلك رقم (3) في الترتيب.
كل الرسائل كانت معنونة بنفسالعنوان ، وأظن أن كلمة " باكية " تتردد فيه ، ربما يا دكتورة أن ثمة علاقة بينالرسائل الخمس والأولاد الخمسة في الحلم السابق ما رأيك ؟ "
حين أصل مقر عمليأكتب الحلم كاملاً ، وأضع عدة خطوط تحت كلمة " باكية "
لو الدكتورة سمعت الحلمالآن لرددت باستغراب : باكية ؟! فأجيب بتردد: يبدو أن لكلمة باكية هذه علاقةً ماببيت مالك بن الريب :
" فمنهن أمٌ وابنتاها وخالة وباكية أخرى تهيج البواكيا "
في الليل قالت الدكتورة : وماذا تعني " تهيج البواكي " ؟ تبكي بحرقة فتزيدبكاهن كلما هدأن ؟
أردتُ أن أُضيف الكثير لشرحها المبسط للبيت ، لكني مدركةًأنه صحيح جداً ضحكتُ كما يليق بعنـزة دايـخة ، وأمّـنتُ أن نعم .
حكيت لها أنالقصيدة تستوقـفني دائماً وأتساءل عن باكيتها مجهولة الهوية ،تلك التي قالوا أنهازوجته ، وقالوا أخته ، بعضهم جزم أنها حبيبته ، و آخرين أكدوا أنها بنته التي وجّـهلها قصيدة أخرى..
- لكني يا دكتورة لا أحسبها أياً من هؤلاء ، إنها باكية أخرىلم يعرفوها ..
- فمن تكون إذاً ؟
ضحكتُ : ربما أنا ..
صوت الدكتورة خرجعميقاً متبتلاً وهي تهمس : إذاً فهي روحك يا وسمية مختطفة بالبكاء منذ خمس حيواتسابقة ، هذا ما يقوله الحلمان .
- لكني يا دكتورة لا أكاد أبكي ..
- البكاء _ هنا _ حزنٌ يا وسمية .
الحزن كله انهمر من صوتها ليُغرق روحي ، من داخلي انتزعتُسؤالاً أردته طوقَ نجاة قلت: ماذا عن الحيوات الخمس ؟
حكت بشكل بدا لي مبهماًعن الحلول والتناسخ التي يؤمن البعض بها . قالت بأني لن أفهم ، وقلتُ ما تريد منيفهماً تشك في نتائجه ، ربما تخشى أن أحلل كلامها فتتقافز بي استنتاجاتي لأخرجها منالملة كما يفعل بعض ربعنا إذا سمعوا الغريب عليهم .
لما غاب صوتها السند عدتُلي ؛ آسى لروحي الموشومة بالحزن بشهادة الدكتورة والحلم .
تساءلت : أمعقول هو ؟أنا السعيدة دوماً المتفائلة أبداً .. الحزنُ مكتوب علي منذ خمسة أعمار؟!
أضفتُمحتجة : لكني لا أبكي. قالت لي الساكنة في أقصاي : بلى .. لقد ظللتِ طوال حزنينتبكين ، ومن يدري قد...
أتمدد ، أركّز على عضلات رجلي ، أرخيها ،عضلات يدي ، كتفيّ ، بطني ، ظهري ، وجهي ،عنقي ، جبيني ، ثم أتنفس بعمق : شهيق ..زفير .. شهيق .. رنين ..رنيــن ..
لمتُ نفسي : لِمَ نسيت أن أفصل الحرارة عنالهاتف ؟كيف لم أكتم أنفاسه ؟!
بحنق على من بدد استرخائي قمت ، أرفع السماعة : نعم ؟
كانت أختي ريم ، صوتها العزيز متى جاء يرفعني لطقس خاصٍ به وحده ، يوماًما سأسأل الدكتورة عنها ؛ من أين لها هذه الطاقة التي تبثها في روحي متى حضرتفأُشْرق ؟!
ريم شقيقتي الأصغر مني ، الأجمل مني ، الأعقل مني ، حين كنّا طفلتينكانت _ لولا بعضٌ من شيطنة _ الطفلة النموذج ، و كنتُ أنا الصورة السالبة لها ، أميتمدحها ، وأنا أضربها انتقاماً، وهي ترد لي الأذى مضاعفاً بأن تتجّمل في عيني أميأكثر. نكبر والمعاداة تبرد ، ونكبر ويشوب المجافاة اعتياد ، ونكبر وتَفْصُح الألفةعن محبة..حين تتزوج لا أبكي لكني افتقدها جداً ، ويظل صوتها كلما جاء يستثير كلمافيَّ من ثرثرة..
أحكي لها حكاية الحلم الأخير ، يستدرجني انبهارها _ رغماعتيادها شطحاتي _ لمزيد من البوح .
أثرثر خافضة صوت الدكتورة الذي يرن في أذنيمحذراً : لا تخبريهم يا وسمية ( على الأقل الآن ) ليست لكلماتك بعد وزنهاومصداقيتها عندهم في هذا المجال ، كل ما سيحصل أنهم سيشككونك في قناعاتك ، ولنيقتنعوا هم .
قالت ريم : حين تحكين لي " سواليفك " ذي أسير معك على خط تفكيركذاته وإن بدهشة ، وحين أنفرد بنفسي ويترجع في أذني كلامك أسأل نفسي عن اتزانكالنفسي !!
لأقطع شكها باليقين في صحتي النفسية والعقلية وشوشتها بأني الليلةسأكشف عن الباكية غموضها كما أمرتني الدكتورة .
سألتني : كيف ؟
قلت : أزورمرابع أهله ( مالك ) ثم أرتب باكياته ، وحين تزهر في أقصى المسرح باكيته المجهولةأتجه لها ،أرفع الغطاء عن وجهها لأعرفها ..
ارتعشت سماعة الهاتف في يدي منشهقتها وهي تهتف: فكرة مرعبة ، لو كنتُ مكانكِ ما فعلت .
حاولت تخيلها لو كانتْمكاني ( تعيش يومياتي ) فسألتها : أما تتمنين تجارب كتجاربي ذي ؟
لم يستغرقترتيب الإجابة فترة طويلة ، كأنما تخرجها من أحد دواليبها العتيقة قالت : أنا ..لا .. ينقصني الكثير من الجنون لأفـعل .
أودعها . أفصل سلك الهاتف ، إطلالـة علىالصالة ، بعدها أندس في سريري ، أتمدد ، أرخي عضلات جسدي ، أركّز على عضلات رجلي ،أرخيها ، عضلات يدي ، كتفيّ ، بطني ، ظهري ، وجهي ،عنقي ، جبيني أتنفس بعمق : شهيق ..زفير ..
,’
,’
يتبـــــــــــــــــــــــع~