مئات السنين مرَّت عليك وأنت في قبرك بعد أن أنشب الموت رمحه في قلبك..
تعاقبت الأجيال، وتلاحقت القرون، وكر الليل بعد أن فرَّ النهار لسنين عديدة، وأنت مسجّى في قبرك، لوحدك في لحدك...
تخيَّل أنَّك عشت بعد موتك، وخرجت من قبرك، وأمهلت للبقاء في الدنيا للحظات قصيرة تلتقي فيها بأحد أحفاد أحفادك الذين جاؤوا من بعدك بأجيال..
تصوَّر هذا... هاهو بين يديك... فماذا ستقول له؟ وبماذا توصيه؟
لاشكَّ أنك ستوصيه بأغلى ما لديك، وستحدثه بأهم ما عندك، وسترغبه فيما حُرمت أنت منه، وستلفت انتباهه لأعظم ما ينبغي له أن يشتغل به..
الحقيقة أن هذا لم يحصل لك، لكنه حصل لغيرك، ووقع لسواك على وجه الحقيقة التي لا شك فيها...
ستبهت حتماً، وتقول: ما هذا الكلام؟ وأين حصل؟ ومتى وقع؟
أقول: لقد حصل هذا لرسولنا الكريم محمد - صلى الله عليه وسلم - عندما التقى بأبينا ورسولنا إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - في الجنة، فيا ترى: بماذا أوصاه؟ وفيم رغَّبه؟ وعن أيِّ شيءٍ حدَّثه؟
فعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لقيت إبراهيم ليلة أسري بي فقال: يا محمد! أقرئ أمتك مني السلام، و أخبرهم أن الجنة طيبة التربة، عذبة الماء، و أنها قيعان، و أن غراسها؛ سبحان الله، و الحمد لله، و لا إله إلا الله، و الله أكبر ". (أخرجه الترمذي بسند حسن، انظر صحيح الجامع 5152).
وفي رواية أخرى عنه، قال: قال رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم -: " رأيت إبراهيم ليلة أسري بي فقال: يا محمد أقرئ أمتك السلام و أخبرهم أن الجنة طيبة التربة عذبة الماء و أنها قيعان و غراسها: لا حول و لا قوة إلا بالله " 1.
فيا لها من وصيّة قويّة!
ولذلك عندما مرَّ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - على أبي هريرة - رضي الله عنه - وهو يغرس غرساً له، قال له: " ألا أدلك على غراس هو خير من هذا ؟ تقول: سبحان الله، و الحمد لله، و لا إله إلا الله، و الله أكبر، يغرس لك بكل كلمة منها شجرة في الجنة " 2.
وعندما علم سامع الوصية بقيمة تلك الهدية، وعرف قدرها أخذ يوصي بها أتباعه وأحبابه وطلابه، فكان ـ - صلى الله عليه وسلم - يقول: " أكثروا من غرس الجنة، فإنه عذب ماؤها، طيب ترابها، فأكثروا من غراسها: لا حول و لا قوة إلا بالله " 3.
فلا تبخل على نفسك بها، فإنها من أعظم ما ينبغي الحرص والمداومة عليه، فهي وصية الأجداد للأحفاد، والآباء للأبناء!