سعادة الدَّارين في برِّ الوالدين
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، صلى الله عليه، وعلى آله، وصحبه، ومن والاه.
ليس هناك حق بعد حقوق الله ورسوله أوجب على العبد ولا آكد من حقوق والديه عليه، ولهذا فقد أمره الإسلام ببرهما والإحسان إليهما، وقرن ذلك بعبادته وطاعته، فقال عز من قائل: "وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا"ً1، ونهى وحذر من عقوقهما، وعصيانهما، والإساءة إليهما، وعدَّ ذلك من أكبر الكبائر وأعظم العظائم، فعن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه، قيل: يا رسول الله، وكيف يلعن الرجل والديه؟ قال: يسبُّ الرجل أبا الرجل فيسبّ أباه، ويسبُّ أمه فيسبّ أمه".2
بل قرَنَ شكرهما بشكره، فقال: "أن اشكر لي ولوالديك إليّ المصير"3، فمن لا يشكر لوالديه فإن الله غني عن شكره، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "ثلاثة مقرونة بثلاثة، قال تعالى: "وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة"، فمن أقام الصلاة ولم يؤت الزكاة الواجبة لا تقبل له صلاة، وقال: "وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول"، فمن أطاع الله ولم يطع الرسول لا يقبل الله طاعته، وقال: "أن اشكر لي ولوالديك"، فمن شكر لله ولم يشكر لوالديه لا يقبل الله شكره"، أوكما قال.
بل جعل رضاه في رضا الوالدين وسخطه في سخطهما.
فالسعيد السعيد من وفق بعد تقوى الله عز وجل لبر والديه – أحياءً وأمواتاً – والإحسان إليهما، والشقي التعيس من عقَّ والديه وعصاهما وأساء إليهما ولم يرع حقوقهما، فبر الوالدين سبب من أسباب دخول الجنة، وعقوقهما من أقوى أسباب دخول النار: "الوالد أوسط أبواب الجنة، فإن شئت فأضع ذلك الباب أواحفظه".4
عن ابن عباس رضي الله عنهما يرفعه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم: "من أصبح مطيعاً لله في والديه أصبح له بابان مفتوحان من الجنة، وإن واحداً فواحد، ومن أصبح عاصياً لله في والديه أصبح له بابان مفتوحان من النار، وإن كان واحداً فواحد؛ قال رجل: وإن ظلماه؟ قال: وإن ظلماه، وإن ظلماه، وإن ظلماه".
فيا سعادة البارين بوالديهم، ويا تعاسة العاقين لهما، إن كنت أخي المسلم باراً فازدد في برك لهما أحياءً وأمواتاً، وإن كنتَ عاقاً فعليك أن تتوب من هذا الذنب العظيم، وتحاول إدراك ما يمكن إدراكه، واعلم أنك كما تدين تدان، ولله در القائل: بروا آباءكم تبركم أبناؤكم، وعفوا تعف نساؤكم.
واحذروا أيها الأبناء والبنات عقوق الأمهات، فإن برهن وحقهن آكد من بر الآباء وحقهم، واعلموا أنه ما من جرم يعجِّل لصاحبه العذاب في الدنيا مع ما يُدَّخر له في الآخرة أخطر من عقوق الوالدين وقطيعة الرحم.
من فضل الله علينا ورحمته بنا فإن بر الوالدين لا ينقطع بموتهما، وإنما يستمر بالدعاء والاستغفار والتصدق لهما، وبصلة أقاربهما وأرحامهما، وبصدق التوبة والندم على ما مضى من تقصير، فإن فاتك برهما أوأحدهما أحياء فلا يفتك استدراك ما يمكن استدراكه وتحصيل ما يمكن تحصيله، قبل أن يُحال بينك وبين ما تشتهي، حين تأتيك المنون، وتبلغ الروح الحلقوم، وتحرم عما كنت تروم.
تعريف البر
البر كلمة جامعة لخيري الدنيا والآخرة، وبر الوالدين يعني الإحسان إليهما وتوفية حقوقهما، وطاعتهما في أغراضهما في الأمور المندوبة والمباحة، لا في الواجبات والمعاصي، والبر ضد العقوق، وهو الإساءة إليهما وتضييع حقوقهما.
ويكون البر بحسن المعاملة والمعاشرة، وبالصلة والإنفاق، بغير عوض مطلوب.
تعريف الوالدين
الوالدان هما الأب والأم، سواء كانا من نسب أورضاع، مسلمين كانا أم كافرين، وإن عليا، فالأجداد والجدات، آباء وأمهات، سواء كانوا من قبل الأب أوالأم، والخالة بمنزلة الأم كما صح بذلك الخبر.5
حكم بر الوالدين
بر الوالدين فرض واجب، وعقوقهما حرام ومن الكبائر.
دليل الحكم
الكتاب والسنة والإجماع.
فمن الكتاب قوله تعالى: "وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً".6
وقوله: "ووصينا الإنسان بوالديه حسناً".7
ومن السنة قوله صلى الله عليه وسلم وقد سأله رجل قائلاً: من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: "أمك"، قال: ثم من؟ قال: "أمك"، قال: ثم من؟ قال: "أمك"، قال: ثم من؟ قال: "أبوك"8، وفي رواية: "ثم أدناك أدناك".
وقوله صلى الله عليه وسلم: "رغم أنف، ثم رغم أنف، ثم رغم أنف، من أدرك أبويه عند الكبر، أحدهما أوكليهما، فلم يدخل الجنة". 9
وقد أجمعت الأمة على وجوب بر الوالدين وأن عقوقهما من أكبر الكبائر.
فضل بر الوالدين
بر الوالدين والإحسان إليهما من أقوى الأسباب لدخول الجنة، ولنيل رضا الله عز وجل، وقد ورد في ذلك العديد من الآيات والأحاديث والآثار، نشير إلى طرف منها:
1. عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "سألتُ النبي صلى الله عليه وسلم: أيُّ العمل أحبُّ إلى الله تعالى؟ قال: الصلاة على وقتها؛ قلت: ثم أيُّ؟ قال: بر الوالدين؛ قلت: ثم أيُّ؟ قال: الجهاد في سبيل الله".10
2. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يجزئ ولد والداً إلا أن يجده مملوكاً فيشتريه فيعتقه". 11
3. وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الوالد أوسط أبواب الجنة، فإن شئت فأضع ذلك الباب أواحفظه". 12
الأم مقدمة في البر على الأب
ذهب أهل العلم في هذه المسألة مذهبين، هما:
1. الأب والأم يستويان في البر، وهذا مذهب مالك.
2. للأم ثلاثة أضعاف البر، وللأب ضعف، وهذا مذهب الليث بن سعد.
استدل من قدَّم الأم على الأب في البر بحديث: "من أحق الناس بحسن صحابتي"، حيث قال له: "أمُّك" ثلاثاً، وفي الرابعة قال: "أبوك"، وبغيره.
ورد عليهم القائلون بتسوية الوالدين في البر أن المراد بذلك التأكيد على بر الأم، لتهاون الأبناء في بر أمهاتهم أكثر من تهاونهم في بر آبائهم.
أقوال العلماء
قال القرطبي رحمه الله معلقاً على الحديث: "من أحق الناس بحسن صحابتي": (فهذا الحديث يدل على أن محبة الأم والشفقة عليها ينبغي أن تكون ثلاثة أمثال محبة الأب، لذكر النبي صلى الله عليه وسلم الأم ثلاث مرات، وذكر الأب في الرابعة فقط، وإذا توصل هذا المعنى شهد له العيان، وذلك أن صعوبة الحمل، وصعوبة الوضع، وصعوبة الرضاع والتربية تنفرد بها الأم دون الأب، فهذه ثلاث منازل يخلو منها الأب، ورُوي عن مالك أن رجلاً قال له: إن أبي في السودان13، وقد كتب إليَّ أن أقدم عليه، وأمي تمنعني من ذلك، فقال له: أطع أباك ولا تعصٍ أمك؛ فدل قول مالك هذا على أن برهما متساوٍ عنده، وقد سئل الليث14 عن هذه المسألة فأمره بطاعة الأم، وزعم أن لها ثلثي البر، وحديث أبي هريرة – السابق – يدل على أن لها ثلاثة أرباع البر، وهو الحجة على من خالف، وقد زعم المحاسبي في كتاب "الرعاية" له أنه لا خلاف بين العلماء أن للأم ثلاثة أرباع البر وللأب الربع، على مقتضى حديث أبي هريرة رضي الله عنه، والله أعلم).15
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله في شرح حديث أبي هريرة السابق في الفتح16: (قال ابن بَطَّال: مقتضاه أن يكون للأم ثلاثة أمثال ما للأب من البر، قال: وكان ذلك لصعوبة الحمل، ثم الوضع، ثم الرضاع، فهذه تنفرد بها الأم، وتشقى بها، ثم تشارك الأب في التربية، وقد وقعت الإشارة إلى ذلك في قوله تعالى: "ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهناً على وهن وفصاله في عامين"، فسوى بينهما في الوصية، وخص الأم بالأمور الثلاثة، قال القرطبي: المراد أن الأم تستحق على الولد الحظ الأوفر من البر، وتقدم في ذلك على حق الأب عند المزاحمة؛ وقال عياض: وذهب الجمهور إلى أن الأم تفضل في البر على الأب، وقيل: يكون برهما سواء، ونقله بعضهم عن مالك، والصواب الأول، قلت: إلى الثاني ذهب بعض الشافعية، لكن نقل الحارث المحاسبي الإجماع على تفضيل الأم في البر وفيه نظر، والمنقول عن مالك ليس صريحاً في ذلك، فقد ذكره ابن بطال، فقال: سئل مالك: طلبني أبي، فمنعتني أمي؛ قال: أطع أباك ولا تعصٍ أمك؛ قال ابن بطال: هذا يدل على أنه يرى برهما سواء، كذا قال، وليست الدلالة على ذلك واضحة، قال: وسئل الليث يعني عن هذه المسألة بعينها، فقال: أطع أمك فإن لها ثلثي البر؛ وهذا يشير إلى الطريق التي لم يتكرر ذكر الأم فيه إلا مرتين، وقد وقع كذلك في رواية محمد بن فضيل بن عمارة بن القعقاع عند مسلم في الباب، ووقع كذلك في حديث المقدام بن معدي كرب فيما أخرجه المصنف في "الأدب المفرد"، وابن ماجة، وصححه الحاكم، ولفظه: "إن الله يوصيكم بأمهاتكم، ثم يوصيكم بأمهاتكم، ثم يوصيكم بأمهاتكم، ثم يوصيكم بالأقرب فالأقرب"، كذا وقع في حديث بَهْز بن حكيم).
وقال فضل الله الجيلاني في توضيح الأدب المفرد للبخاري17: (الأم مقدمة في الإجماع في البر على الأب، وأن يكون للأم ثلاثة أمثال ما للأب من البر، وذلك لتحمل المشاق في الحمل والوضع حتى تكاد تموت، ولا أقل من أن تذوقه في كل وضع إذا ضربها الطلق، ثم المحنة زمن الرضاع إلى أن يكبر الولد ويستغني عن خدمتها، فهذه تنفرد بها الأم وتشقى بها، ثم تشارك الأب في الإنفاق والتربية وأنواع من المؤنة والخدمة – كذا ذكره السيوطي – أخذ ذلك من تكرار حق الأم، والأظهر أن يكون تأكيداً ومبالغة في رعاية حق الأم، وذلك لتهاون أكثر الناس في حق الأم بالنسبة إلى الأب، لأن أمر الأم كله في البيت تحت الستور ولا يطلع عليه الناس، فيجترئ الناس على عقوقها أكثر من عقوق الوالد حياء من الناس، وكذا قوته تزجر عن الجرأة عليه، وضعفها يحمل الدنيء على الإساءة إليها، ولا يبعد أن الشريعة بالغت في البر بها أكثر من البر بالأب مواساة لها ومراعاة لضعف قلوب النساء وشفقة على الولد، مع أن الأب ليس أنقص حقاً من حقوقها، لأن الأم للين طبعها وضعف بنيتها لا تستطيع أحياناً أن تتحمل إباء وسوء خلقه فتعجل أن تغضب، فتسرع بالدعاء عليه، والمذكور في كتب الفقه أن حق الوالد أعظم من حق الوالدة وبرها أوجب).
قال ابن قتيبة رحمه الله: (خاصمت أم عوف – امرأة أبي الأسود الدؤلي – أبا الأسود إلى زياد في ولد منه، قال أبو الأسود: أنا أحق بالولد منها، حملته قبل أن تحمله، ووضعته قبل أن تضعه؛ فقالت أم عوف: وضعته شهوة، ووضعتُه كرهاً، وحملتَه خفاً، وحملتُ ثقلاً؛ فقال زياد: صدقت، أنت أحق به؛ فدفعه إليها).18
قلت: هذا في الحضانة، فالولد للأم دون السابعة، والبنت إلى الزواج، ما لم تتزوج الأم، أويكون هناك مانع.
تقديم الأم في البر يكون في الإنفاق، والرعاية، والعطف، فإذا قصُرَت يَدُ الأبناء عن الإنفاق على الوالدين جميعاً تقدم الأم على الأب، وكذلك في زكاة الفطر إن لم يتمكن الابن من إخراج الزكاة عن أبويه الفقيرين أخرج عن أمه، وهكذا، وكذلك الأمر في الرعاية والعطف، أما في التعظيم والاحترام فيقدم الأب على الأم، والله أعلم.
قال فضل الله الجيلاني: (قيل إذا تعذر مراعاة حق الوالدين جميعاً بأن يتأذى أحدهما بمراعاة الآخر يترجح حق الأم فيما يرجع إلى الخدمة والإنعام، حتى لو دخلا عليه يقوم للأب، ولو سألا منه شيئاً يبدأ في الإعطاء بالأم، كما في "منبع الآداب"، قال الفقهاء: تقدم الأم على الأب في النفقة إذا لم يكن عند الولد إلا كفاية أحدهما، لكثرة تعبها عليه، وشفقتها، وخدمتها، ومعاناة المشاق في حمله، ثم وضعه، ثم إرضاعه، ثم تربيته، وخدمته، ومعالجة أوساخه، وتأنيسه في مرضه، وغير ذلك – روح المعاني بتصرف).19
ما يُطاع فيه الوالدان وما لا يُطاعان فيه
بعد أن أجمع أهل العلم علىأن الوالدين يطاعان في فعل:
1. المباح.
2. والمندوب.
ولا يطاعان في:
1. فعل الحرام.
2. وترك الواجب.
اختلفوا في طاعتهما فيما فيه شبهة على قولين.
قال ابن مفلح رحمه الله: (وقد قال المروذي: قلت لأبي عبد الله: هل للوالدين طاعة في الشبهة؟ قال: في مثل الأكل؟ قلت: نعم؛ قال: ما أحب أن يقيم معهما20 عليها، وما أحب أن يعصيهما، يداريهما، ولا ينبغي للرجل أن يقيم على الشبهة مع والديه.
وذكر المروذي له قول الفضيل21: كل ما لم تعلم أنه حرام بعينه؛ فقال أبو عبد الله – أحمد بن حنبل -: وما يدريه أيها الحرام؟ وذكر له المروذي قول بشر بن الحارث22 وسئل هل للوالدين طاعة في الشبهة؟ فقال: لا؛ قال أبو عبد الله: هذا شديد؛ قلت لأبي عبد الله: فللوالدين طاعة في الشبهة؟ فقال: إن للوالدين حقاً؛ قلت: فلهما طاعة فيها؟ قال: أحب أن تعفيني، أخاف أن يكون الذي يدخل عليه أشد مما يأتي؛ قلتُ لأبي عبد الله: إني سألت محمد بن مقاتل العبَّاداني عنها، فقال لي: بر والديك؛ فقال: هذا محمد بن مقاتل قد رأيت ما قال، وهذا بشر الحارث قد قال ما قال؛ ثم قال أبو عبد الله: ما أحسن أن يداريهم.
وروى المروذي عن علي بن عاصم أنه سئل عن الشبهة، فقال: أطع والديك، وسئل عنها بشر بن الحارث، فقال: لا تدخلني بينك وبين والديك.
وذكر الشيخ تقي الدين23 رواية المروذي ثم قال: وقال في رواية ابن إبراهيم فيما هو شبهة فتعرض عليه أمه أن يأكل فقال: إذا علم أنه حرام بعينه فلا يأكل.
قال الشيخ تقي الدين: مفهوم هذه الرواية أنهما قد يطاعان إذا لم يعلم أنه حرام، ورواية المروذي فيها أنهما لا يطاعان في الشبهة، وكلامه يدل على أنه لولا الشبهة لوجب الأكل، لأنه لا ضرر عليه فيه، وهو يُطيِّب أنفسهما). 24
وقال أبو حامد الغزالي رحمه الله: (أكثر العلماء على أن طاعة الوالدين واجبة في الشبهات، وإن لم تجب في الحرام المحض، حتى إذا كانا يتنغصان بانفرادك عنهما بالطعام فعليك أن تأكل معهما لأن ترك الشبهة ورع، ورضا الوالدين حتم). 25
أمثلة للمباح الذي تجب فيه طاعة الوالدين
الأحكام الشرعية خمسة، حلال، وحرام، ومندوب، ومكروه، ومباح، فالمباح هو ما يجوز فعله وتركه، فمن أمثلة المباح الذي تجب فيه طاعة الوالدين ما لم يكن مانع شرعي آخر أن يطلبا منك أوأحدهما:
1. أن تسكن معهما في المنزل.
2. أن تتزوج امرأة معينة.
ومن أمثلة المندوب الذي تجب فيه طاعة الوالدين أوأحدهما، مثل:
1. النهي عن صيام يوم تطوعاً لشدة الحر مثلاً.
2. الذهاب لخلوة لحفظ القرآن الكريم كله.
ومن أمثلة الحرام الذي لا يجب فعله، والواجب الذي لا يجوز تركه ولا تجوز طاعتهما فيه ما يأتي:
1. الأمر بحلق اللحية.
2. الأمر بمصافحة الأجنبيات والدخول عليهن من الأقارب.
3. الأمر بإسبال الملابس.
4. طلب الانتماء إلى طريقـة من الطـرق الصوفيـة أوحـزب من الأحـزاب العلمـانية، سواء كان ينتمي إليها الوالدان أم لا.
5. النهي عن الذهاب إلى صلاة الجماعة إلا بسبب خوف من لصوص ليلاً، قال الحسن البصري: إذا نهته أمه عن شهود العشاء شفقة عليه فلا يطعها؛ ومن أهل العلم من قال يطيعها.
6. النهي عن الحجاب الشرعي للبنات.
7. إذا طُلب منه ممارسات شركية نحو الذهاب لزيارة رجل مبتدع أودخول قبة شيخ والخشوع والدعاء عندها مثلاً.
8. الإجبار على الدراسة في الجامعات المختلطة.
9. إذا طلب منه العمل في البنوك أوالشركات الربوية أوفي خمارة.
10. إذا طلب منه الهجرة إلى دار الكفر ولا ضرورة لذلك.
ما لا يعمل إلا بعد إذن الوالدين
أولاً: السفر لطلب علم مندوب أومباح
طلب العلم منه ما هو فرض عين26 ومنه ما هو فرض كفاية أومندوب أومباح، فالسفر لطلب العلم الواجب تعلمه لا يحتاج إلى إذن الوالدين، أما ما سوى فرض العين فلا يجوز أن يسافر له ويبتعد عن والديه إلا بإذنهما ورضاهما معاً، وكذلك الأمر لفرض العين إذا كان هو الكافل أوالملازم الوحيد، وهما أوأحدهما في حاجة إليه.
قال أبو حامد الغزالي: (وكذلك ليس لك أن تسافر في مباح أونافلة إلا بإذنهما.. والخروج لطلب العلم نفل إلا إذا كنت تطلب علم الفرض من الصلاة والصوم ولم يكن في بلدك من يعلمك، وذلك كمن يُسْلِم ابتداء في بلد ليس فيها من يعلمه شرع الإسلام فعليه الهجرة ولا يتقيد بحق الوالدين). 27
ثانياً: السفر للحج والعمرة
من كان حياً والداه أوأحدهما فلا يجوز له الذهاب والسفر إلى الحج أوالعمرة إلا بعد إذنهما.
وليس لهما أو لأحدهما أن ينهياه عن حج الفريضة إذا وجب عليه خاصة أن الراجح من قولي العلماء أن الحج يجب على الفور، ما لم يكونا في حاجة لرعايته لهما، ولم يكن لهما راعٍ غيره، هذا في حال الكبر والمرض، أما في الأحوال العادية فلا يجوز لهما أن يمنعاه عن حج الفريضة.
أما بالنسبة لحج وعمرة التطوع فلهما منع الابن عن ذلك، وله أن يرضيهما إن لم تكن بهما حاجة إليه أوكان هناك من يقوم بواجبهما.
قال أبو حامد الغزالي: (والمبادرة إلى الحج الذي هو فرض الإسلام نفل لأنه على التأخير28).29
ثالثاً: الخروج إلى الجهاد
جهاد الكفار والمنافقين بالنفس لتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى من أجل القربات، وهو نوعان:
1. فرض عين واجب، وهذا لا يستأذن فيه الوالدان، وهو نوعان كذلك:
أ. إذا استنفر الإمامُ المسلمين لقتال الكفار.
ب. إذا هجم الكفار وغزوا داراً من ديار المسلمين، كما هو الحال الآن في فلسطين، وأفغانستان، والعراق، وكشمير، والشيشان، وجنوب الفلبين، وغيرها من البلاد المغصوبة، وجهاد الدفاع يكون تحت راية الإمام وغير الإمام، إذا دعا إليه ولاة الأمر من العلماء.
2. فرض كفاية، وهو جهاد الطلب، بأن يخرج المسلمون رافعين راية الجهاد تحت إمام من أئمتهم يدعون الكفار والمشركين للدخول في الإسلام، وهو الذي خاضه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام والمسلمون من بعدهم، حتى حل علينا هذا العصر الحديث الكبيس، حيث ركن المسلمون إلى الدنيا واستسلموا للكفار.
وجهاد الطلب لا يخرج إليه إلا بعد إذن الوالدين.
وجهاد الدفاع يتعين على أهل البلد الذي غلب عليه أوغزاه الكفار، فإن لم يغنوا فعلى من يليهم من المسلمين، وهكذا حتى يشمل الحكم سائر المسلمين، أما إذا استغنى أهل البلد المغزو وقاموا بالواجب فلا يجب على غيرهم.
الأدلة على ذلك من الكتاب والسنة وإجماع الأمة
فمن الكتاب:
1. قوله تعالى: "وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم".30
2. وقوله تعالى: "انفروا خفافاً وثقالاً وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون".31
3. وقوله: "يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون. يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم".32
ومن السنة:
1. "من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بغزو مات على شعبة من النفاق".33
2. "أبواب الجنة تحت ظلال السيوف".34
3. "مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم، القائم، القانت بآيات الله، لا يفتر من صيام ولا صلاة حتى يرجع المجاهد في سبيل الله، وتوكل الله للمجاهد في سبيل الله بأن يتوفاه أن يدخله الجنة، أويرجعه سالماً مع أجر وغنيمة".35
وقد أجمعت الأمة على وجوب جهاد الدفاع وعند النفرة، وعلى ندب جهاد الطلب.
قال القرطبي رحمه الله في تفسير قوله تعالى: "انفروا خفافاً وثقالاً.." الآية: (وذلك إذا تعين الجهاد بغلبة العدو على قطر من الأقطار، أوبحلوله بالعُـقر، فإذا كان ذلك وجب على جميع أهل تلك الديار أن ينفروا ويخرجوا إليه خفافاً وثقالاً، شباباً وشيوخاً، كل على قدر طاقته، من كان له أب بغير إذنه، ولا يتخلف أحد يقدر على الخروج من مقاتل أومكثر، فإن عَجَزَ أهل تلك البلدة عن القيام بعدوهم كان على من قاربهم وجاورهم أن يخرجوا على حسب ما لزم أهل تلك البلدة، حتى يعلموا أن فيهم طاقة على القيام بهم ومدافعتهم، وكذلك كل من علم بضعفهم عن عدوهم وعلم أنه يدركهم ويمكنه غياثهم لزمه أيضاً الخروج إليهم، فالمسلمون كلهم يد على من سواهم، حتى إذا قام بدفع العدو أهل الناحية التي نزل بها العدو عليها، واحتل بها سقط الفرض على الآخرين.
ولو قارب العدو دار الإسلام ولم يدخلوها لزمهم أيضاً الخروج إليه، حتى يظهر دين الله، وتحمى البيضة، وتحفظ الحوزة، ويخزى العدو، ولا خلاف في هذا.
وقسم ثانٍ من واجب الجهاد، فرض أيضاً على الإمام إغزاء طائفة إلى العدو كل سنة مرة36، يخرج معهم بنفسه، أويخرج من يثق به ليدعوهم إلى الإسلام، ويرعبهم، ويكف أذاهم، ويظهر دين الله عليهم، حتى يدخلوا في الإسلام ويعطوا الجزية عن يدٍ.
ومن الجهاد أيضاً ما هو نافلة، وهو إخراج الإمام طائفة بعد طائفة، وبعث السرايا في أوقات العِزَّة وعند إمكان الفرصة، والإرصاد لهم بالرباط في موضع الخوف، وإظهار القوة).37
وقال العلامة ابن القيم رحمه الله: (والتحقيق أن جنس الجهاد فرض عين، إما بالقلب، وإما باللسان، وإما بالمال، وإما باليد، فعلى كل مسلم أن يجاهد بنوع من هذه الأنواع.
وأما الجهاد بالنفس ففرض كفاية38، وأما الجهاد بالمال ففي وجوبه قولان، والصحيح وجوبه.39
الأدلة على أن الجهاد إن كان فرض كفاية فلا يخرج إليه إلا بعد إذن والديه
من الأدلة على ذلك ما يلي:
1. عن عبد الله بن عمرو قال: "قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: أجاهد؟ قال: ألك أبوان؟ قال: نعم؛ قال: ففيهما فجاهد".40
2. وخرَّج أحمد عن أبي سعيد قال: "هاجر رجل، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: هل باليمن أبواك؟ قال: نعم؛ قال: أذنا لك؟ قال: لا؛ قال: ارجع فاستأذنهما، فإن أذنا لك وإلا فبرهما".
3. وعن عبد الله بن عمرو قال: "جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يبايعه على الهجرة، وترك أبويه يبكيان، فقال: ارجع إليهما وأضحكهما كما أبكيتهما".41
4. وعن معاوية بن جاهمة عن أبيه قال: "أتيت النبي صلى الله عليه وسلم أستشيره في الجهاد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ألك والدان؟ قلت: نعم؛ قال: الزمهما فإن الجنة تحت أرجلهما".42
قلت: بعض الآباء والأبناء في هذه المسألة على طرفي نقيض، بينما نجد بعض الشباب متحمساً للجهاد والغزو، ودائماً يحدث ويمني النفس به وهو صادق في ذلك، نجد بعض الآباء والأمهات على العكس والنقيض من ذلك، فمنهم من لا يسمح ولا يأذن لابنه بذلك حتى لو تعين الجهاد على ابنه، وتختلف دوافع المنع، فمنها:
1. الحرص الشديد على الأبناء والخوف عليهم.
2. الجهل بقيمة الجهاد وفضله، وما أعده الله للمجاهدين في سبيله.
3. حب الدنيا والتعلق بها، وكراهية الموت، سواء كان شهادة أوبسبب حادث حركة.
4. إطلاق الكفار وعملاؤهم وإعلامهم مصطلح الإرهاب الذي يمارسونه ضد المسلمين على الجهاد الذي شرعه رب العالمين، وهو رهبانية الإسلام.
5. غلبة الفكر العلماني، مما دفع بعض العلمانيين المتزيين بالإسلام أن يزعموا "أن الجهاد ماضٍ إلى يوم القيامة" هذه كلمة مضى عليها التاريخ، وتخطاها الزمن، وأن الإسلام لم ينتصر بحد السيف، وإنما انتشر عن طريق التجاور والطرق الصوفية، عن طريق دق الطبول، والرقص، والتواجد، وهم يعلمون كذب هذا قبل غيرهم.
فعلى الآباء أن يتقوا الله في إسلامهم، وفي أنفسهم، وأن يتخلصوا من هذه العواطف الحيوانية، والهواجس الشيطانية، والأفكار العلمانية، وأن يتحرروا من هذه القيود الأرضية.
وليقتدوا في ذلك بسلف الأمة، بعمرو بن الجموح، ذلكم الشيخ الأعرج الذي عذره الله ورسوله، وخرج أبناؤه في أحُد، ولكنه اشتهى أن يطأ الجنة بعرجته تلك، فأذن الرسول صلى الله عليه وسلم له، ونال ما تمناه واشتهاه.
وبأبي بكر الصديق وعمر رضي الله عنهما، فقد أمرا ابنيهما أن يطلقا زوجيهما خشية أن يمنعهما ذلك من الغزو والجهاد.
وعليكن أيتها الأمهات الاقتداء بتلك الصحابية التي استشهد لها أربعة أبناء، فلم يهلها ذلك، ولم تجزع، بل حمدت الله واسترجعت، وأرادت فقط أن تطمئن على سلامة الرسول الكريم، والقائد العظيم، فلما قيل لها هو بخير كما تشتهين، طلبت أن تراه، فلما رأته قالت: كل شيء بعدك جلل43 – أي كل مصيبة بعدك يسيرة وحقيرة.
عليك أيتها الأم أن تقتدي بالخنساء تماضر بنت عمرو بن الشريد السُّلمية، تلك الشاعرة العربية، المسلمة، المخضرمة، أرق شعراء العرب، وأحزن من بكى وندب، التي بكت أخاها صخراً44 بكاءً حاراً وقالت فيه شعراً صادقاً في قصيدتها التي مطلعها:
أعيني جــودا ولا تجمــدا ألا تبكيان لصخـر الندى؟
والتي جاء فيها:
يذكرني طلوع الشمس صخراً وأذكره لكل غروب شمس
فلولا كثرة الباكيـن حــولي على إخوانهـم لقتلت نفسي
و مـا يبكيـن مثلَ أخي ولكن أسلي النفسَ عنه بالتـأسي
عندما أسلمت45 تغيرت نفسيتها، وتهذبت عاطفتها، وعلت وسمت همتهما، فقد كان لها أربعة بنين خرجت معهم لخدمتهم في حرب القادسية، فقالت مشجعة وحاثة لهم على الإقدام في القتال: إنكم أسلمتم طائعين، وهاجرتم مختارين؛ وذكرت من صونها لبنيها وعدم خيانتها لأبيهم ما ذكرت، ثم قالت لهم: وقد تعلمون ما أعد الله لكم من الثواب الجزيل في حرب الكافرين، واعلموا أن الدار الباقية خير من الدار الفانية، فإذا أصبحتم غداً إن شاء الله سالمين، فاغدوا إلى قتال عدوكم مستبصرين، وبالله على أعدائه مستنصرين، فإذا رأيتم الحرب قد شمرت عن ساقها، واضطرب لظاها على سياقها، وجللت ناراً على أروقها، فتيمموا وطيسها، وجالدوا رئيسها، عند احتدام خميسها46، تظفروا بالمغنم والكرامة، في دار الخلد والمقامة.
فخرج بنوها قابلين لنصحها، فلما أضاء لهم الصبح باكروا مراكزهم، وأنشأ أولهم يقول:
يا إخوتي إن العجوز47 الناصحة قد نصحتنـا إذ دعتنـا البارحـة
مقـالــة ذات بيان واضحــة فباكروا الحرب الضروس الكالحة
وإنما تلقـون عنـد الصـائحـة من آل سـاسان كلابـاً نابحــة
قد أيقنوا منكم بوقـع الجـائحـة وأنتـم بين حيــاة صالحــة
أوميتة تورث غُنْماً صالحة
وتقدم فقاتل حتى قتل رحمه الله تعالى، ثم تقدم الثاني وهو يقول:
إن العجوز ذات حـزم و جلــد والنظـر الأوفـق والرأي الأسـد
لقد أمرتنـا بالسـداد و الرَّشَــد نصيحـة منهـا وبـراً بالولــد
فباكروا الحرب حُماةً في العـدد إما لفــوز بـارد على الكبــد
أوميتـة تورثكــم غنم الأبــد في جنة الفردوس والعيش الرغـد
فقاتل حتى استشهد رحمه الله تعالى، ثم تقدم الثالث وهو يقول:
و الله لا نعصي العجـوز حرفـاً قد أمـرتنـا حدبــاً وعطفــاً
نصحاً وبـراً صادقــاً ولطفـاً فبادروا الحرب الضروس زحفـاً
حتى تلقَّـوا آل كســرى لفـاً وتكشفـون عن حمــاكم كشفـاً
فقاتل حتى استشهد رحمه الله تعالى، وحمل الرابع وهو يقول:
لستُ لخنســا ولا للأخـــرم ولا لعمـرو ذي السنـا الأقــدم
إنْ لم أرُدْ في الجيش جيش العجم ماضٍ على هول خِضَـم خِضْـرَم
إما لفـوز عاجــل ومغنـــم أو لوفــاة في السبيـل الأكـرم
فقاتل حتى قتل رحمه الله، فبلغ خبرُهم الخنساء أمهم، فقالت: الحمد الله الذي شرفني بقتلهم، وأرجو من ربي أن يجمعني بهم في مستقر رحمته؛ فكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يعطي الخنساء بعد ذلك أرزاق أولادها الأربعة، لكل واحد منهم مائتي درهم.
وأنتم أيها الشباب عليكم بمداراة آبائكم وأمهاتكم، وإقناعهم باللطف وبالحسنى، واحذروا المواجهة والمكاشرة، فبالرفق واللين ينال الابن ما يريده من والديه مهما كانوا متعنتين متمنعين.
أما إذا كان الأب علمانياً منافقاً، فهذا لا يستأذن في الخروج إلى الجهاد والغزو، فالمنافق نفاق الاعتقاد فهو كافر وإن تظاهر بالإسلام.
واعلم ايها الشاب أن الأجداد، والجدات، والأعمام، والعمات، والأخوال، والخالات، والإخوة والأخوات الكبار هم بمنزلة الآباء عند فقدهم، ولهذا فلابد من الاستئذان منهم وطلب رضاهم للخروج للغزو والجهاد والرباط، إن كان من فروض الكفايات.
رابعاً: الهجرة
هجر المعاصي والهجرة من ديار الكفر ومن البلاد التي لا يتمكن فيها المسلم من القيام بشعائره الدينية أويخشى أن يفتن فيها عن دينه ولو كانت بلاداً إسلامية جائزة، وقد تكون واجبة في بعض الأحيان.
فمن أراد أن يهاجر وله أبوان أوأحدهما فعليه أن يستأذنهما ويسترضيهما، أما إن كانت الهجرة وجبت عليه خوفاً على دينه هاجر، أذنا له أم يأذنا له، أما إن لم تجب الهجرة في حقه فلا يهاجر إلا بعد إذنهما، أما الهجرة إلى ديار الكفر من غير ضرورة فلا تجوز أذن له والداه أم لا.
خامساً: السفر للعمل والتجارة
كذلك لا يجوز لابن أن يسفر إلى بلد من البلاد الإسلامية، أوإلى محلة بعيدة من سكنى والديه، للعمل أوللتجارة، أولديار الكفر إن اضطر إلى ذلك إلا بعد أن يأذن له والداه.
ما يستحب فيه رضا الوالدين ولا يجب
من الأمور المباحة التي يستحب فيها استئذان الوالدين والاجتهاد في إرضائهما ومداراتهما مسألتان هما:
أولاً: الزواج.
ثانياً: الطلاق.
أولاً: الزواج
أ. البنت
لا يحل للبنت أن تتزوج من غير إذن ورضا أبيها أووليها في حال موت الأب أوفقدانه، بكراً كانت البنت أم ثيباً، بالغة أم غير بالغة، وذلك لما صح عنه صلى الله عليه وسلم: "لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل"، ولا ينبغي للأب أوالولي أن يعضل وليته ويمنعها من الزواج أوالرجوع من كفء تقدم لها إلا لسبب شرعي، فإن فعل فهو آثم، والسلطان ولي من لا ولي لها.
ويستحب للأب أوالولي أن لا يزوج وليته إلا بعد الاطمئنان لرضاها بمن تقدم لها، وأجاز الجمهور للأب خاصة أن يزوج بنته البكر غير البالغ لمن يأنس فيه الكفاءة، أسوة بما فعله أبوبكر رضي الله عنه حيث زوج عائشة لرسول الله صلى الله عليه وسلم من غير إذنها ورضاها.
هذا وقد صحَّ عن الرسول صلى الله عليه وسلم أن الزانية هي التي تزوج نفسها يعني من غير ولي.
صحَّ في سبب نزول قوله تعالى: "فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف ذلك يوعظ من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر ذلكم أزكى لكم وأطهر والله يعلم وأنتم لا تعلمون"48: "أن معقل بن يسار كانت أخته تحت أبي البدَّاح، فطلقها وتركها حتى انقضت عدتها، ثم جاء فخطبها، فرضيت، وأبى أخوها أن يزوجها، وقال: وجهي من وجهك حرام إن تزوجتيه؛ فنزلت الآية، فقال مقاتل: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم معقلاً فقال: إن كنت مؤمناً فلا تمنع أختك من أبي البداح؛ فقال: آمنت بالله؛ وزوَّجها منه".49
قال القرطبي: (إذا ثبت هذا ففي الآية دليل على أنه لا يجوز النكاح بغير ولي، لأن أخت معقل كانت ثيباً، ولو كان الأمر إليها دون وليها لزوجت نفسها، ولم تحتج إلى وليها معقل، فالخطاب إذاً في قوله تعالى: "فلا تعضلوهن" للأولياء).50
ما ذهب إليه الإمام أبو حنيفة رحمه الله بأنه يجوز للمرأة أن توكل من يزوجها من كفء من غير رضا وليها مردود بالقرآن، والسنة، وقول عامة أهل العلم، والحمد لله الذي لم يتعبدنا بأقوال الرجال مهما كانت منزلتهم ودرجتهم في العلم، ولهذا قال أبو حنيفة: إذا خالف قولي الحديث فاضربوا به عُرْض الحائط؛ فاعلم أنه ليس كل خلاف يُستراح له ويُعمل به.
ب. الابن
يستحب للابن أن يتزوج بإذن ورضا والديه، وينبغي للوالدين أن لا يجبروا أبناءهم وبناتهم على زواج من يكرهون ولا يحبون، فالزواج عشرة طويلة، فإذا كان لا يجب على ابن أن يأكل ما يجبره عليه أبواه فمن باب أولى لا يجب عليه أن يتزوج من لا يرغب في زواجها، وإن رغب في زواجها له والداه أوأحدهما.
ولكن عليه أن يداري في ذلك حتى يقنعهما أويقنعانه.
بل لا تجب طاعة الأبوين إذا كان المرغوب في زواجه من الأبوين أوأحدهما:
1. منافقاً نفاق اعتقاد مثل الشيوعيين، والجمهوريين، والعلمانيين.
2. لا يصلي.
3. مبتدعاً أورافضياً.
4. منحرفاً في عقيدته بممارسة بعض الشركيات.
5. متحرراً من القيود الشرعية.
6. بالنسبة للمرأة إذا كانت متبرجة سافرة.
7. فاسقاً، شارب خمر، مرابٍ، ممثلاً، فناناً، ونحوه.
أما إذا توفر الدين والخلق، وراقت للابن فالأفضل له طاعة والديه.
ثانياً: الطلاق
لا يجب على الابن طاعة والديه أوأحدهما في طلاق زوجته من غير سبب شرعي، سيما إذا كانت الزوجة مستورة الحال، مقيمة للصلاة، راعية لحق زوجها، غير متبرجة، فليس عليه أن يطيع والديه في ذلك لعدم استلطافهما لها، أولمشكلة حدثت بين أم هذه المرأة أوأختها مع أحد الوالدين أوإحدى بناتهن.
أما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمر أن يطلق زوجه التي كان يحبها وكان عمر يأمره بطلاقها لأنه خشي أن تشغله عن الغزو والجهاد وليس لحظوظ نفس ولا أمر دنيوي، لهذا قال أحمد رحمه الله لرجل طلب منه أبوه أن يطلق زوجه لغير عذر شرعي: لا تطلق؛ فقال له: ألم يأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عمر أن يطلق زوجه لأن أباه أمره بذلك؟ فقال له أحمد: إن كان أبوك مثل عمر أوبشر بن الحارث الحافي فطلق.
بهذا تفهم الأحاديث والآثار التي أمرت بطاعة الأبوين في الأمر بالطلاق، وهي:
1. عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "كانت تحتي امرأة، وكنت أحبها، وكان عمر يكرهها، فقال لي: طلقها؛ فأبيتُ، فأتى عمر رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم فذكر له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: طلقها".51
2. وعن أبي الدرداء رضي الله عنه أن رجلاً أتاه فقال: إن لي امرأة وإن أمي تأمرني بطلاقها؟ فقال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الوالد أوسط أبواب الجنة، فإن شئت فأضع ذلك الباب أواحفظه".52
قال الونشريسي المالكي: (سئل أبو إسحاق التونسي عن رجل له زوجة موافقة له، وبينها وبين أمه سرورة، هل يلزمه طلاقها، إذا طالبته أمه بفراقها للسرورة التي بينهما؟ وهل يكون عاقاً لأمه في ترك طلاق زوجته وهو يعلم أن زوجته غير ظالمة لأمه؟ وهل له أن يرجع على زوجته ويعين عليها مع أمه فيما يجري بينهما من السرورة، ويصول عليها ويقصر من حقوقها ولا يحسن إليها لترضى بذلك أمه إذا لم ترض عنه الأم إلا بفعل ما ذكرنا؟ وهل يلزمه أن تكون معه أمه في بيت واحد على قصعة واحدة؟
فأجاب: لا يلزم الابن ذلك، وإنما عليه القيام بواجبات أمه، ولا يلزمه أن تكون مع زوجته، وإذا كانت زوجته موافقة عنده، ولم يثبت عنده ظلم زوجته لأمه، ولم يكن في ترك طلاق زوجته رضى لوالدته وإثم، وليترَضَّ أمه بما قدر من غير أن يوافقها على ما لا يجوز له من الإضرار بها، ولا يساعدها عليه).54
قال ابن مفلح: (قال الشيخ تقي الدين رحمه الله: إنه ليس لأحد الوالدين أن يلزم الولد بنكاح من لا يريد، وأنه إذا امتنع لا يكون عاقاً، وإذا لم يكن لأحد أن يلزمه بأكل ما ينفر عنه مع قدرته على أكل ما تشتهيه نفسه كان النكاح كذلك، وأولى، فإن أكل المكروه مرارة ساعة، وعشرة المكروه من الزوجين على طول تؤذي صاحبه، ولا يمكنه فراقه.
وقال أحمد في رواية أبي داود: إذا قال: كل امرأة أتزوجها فهي طالق ثلاثاً إن فعل لم آمره بفراقها، وإن كان له والدان يأمرانه بالتزويج أمرته أن يتزوج، وإن كان شاباً يخاف العنت أمرته أن يتزوج، وإذا قال له والداه: تزوج فلانة، فإنه يمكنه أن يتزوج غيرها، وهذا معنى ما نقله الفضل بن زياد.
إلى أن قال: فإن أمره أبوه بطلاق امرأته لم يجب، ذكره أكثر الأصحاب، قال سَنَدي: سأل رجل أبا عبد الله فقال: إن أبي يأمرني أن أطلق امرأتي؟ فقال: لا تطلقها؛ قال: أليس عمر أمر ابنه عبد الله أن يطلق امرأته؟ قال: حتى يكون أبوك مثل عمر رضي الله عنه.
واختار أبو بكر من أصحابنـا أنه يجب، لأمر النبي صلى الله عليه وسلم لابن عمـر، ونص أحمـد في روايـة بكر بن محمد عن أبيه إذا أمرته أمه بالطلاق لا يعجبني أن يطلق، لأن حديث ابن عمر في الأب55.
ونص أحمد أيضاً في رواية محمد بن موسى أنه لا يطلق لأمر أمه، فإن أمره الأب بالطلاق طلق إذا كان عدلاً، وقول أحمد رضي الله عنه: لا يعجبني كذا، هل هو يقتضي التحريم أوالكراهة؟ فيه خلاف بين أصحابه، وقد قال الشيخ تقي الدين فيمن تأمره أمه بطلاق امرأته، قال: لا يحل له أن يطلقها، بل عليه أن يبرها، وليس تطليق امرأته من برها، قال أحمد في رواية أبي داود: إذا خاف العنت أمرته أن يتزوج، وإذا أمره والده أمرته أن يتزوج.
وقال في رواية جعفر: والذي يحلف بالطلاق انه لا يتزوج أبداً؟ قال: إن أمره أبوه تزوج، قال الشيخ تقي الدين: كأنه أراد الطلاق المضاف إلى النكاح، كذا قال، أوكأنه مزوَّجاً فحلف أن لا يتزوج أبداً سوى امرأته، وقال في رواية المروذي: إذا كان الرجل يخاف على نفسه، ووالداه يمنعانه من التزوج فليس لهم ذلك، وقال له رجل: لي جارية وأمي تسألني أن أبيعها، قال: تتخوف أن تتبعها نفسك؟ قال: نعم؛ قال: لا تبعها، قال: إنها تقول: لا أرضى عنك أوتبيعها، قال: إن خفت على نفسك فليس لها ذلك.
قال الشيخ تقي الدين – ابن تيمية -: لأنه إذا خاف على نفسه يبقى إمساكها واجباً، أو لأن عليه في ذلك ضرراً، ومفهوم كلامه أنه إذا لم يخف على نفسه يطيعها في ترك التزويج وفي بيع الأمَة، لأن الفعل حينئذ لا ضرر عليه فيه، لا ديناً ولا دنيا.
وقال أيضاً: قيد أمره ببيع السرية إذا خاف على نفسه، لأن بيع السرية ليس بمكروه، ولا ضرر عليه فيه، فإنه يأخذ الثمن، بخلاف الطلاق، فإنه مضر في الدين والدنيا، وأيضاً فإنها متهمة في الطلاق ما لا تتهم في بيع السرية).56
ما يختص به الوالد في ولده دون غيره
هنالك أمور خص بها الشارع الوالد في ولده دون غيره من الأولياء، من تلك الأمور ما يأتي:
1. يجوز للوالد تزويج بنته البكر من غير إذنها ورضاها
ولا يجوز ذلك لأحد من الأولياء سوى الأب، لأنه غير متهم في تحقيق ما فيه مصلحتها.
2. لا يقتاد من أحد الوالدين وإن علا بابنه وإن سفل
لا يقتص من أحد الوالدين بابنه، لأنه ربما نتج القتل بسبب ضربه وتأديبه، قال مالك رحمه الله: إلا إذا تكاه وذبحه ذبح الشاة؛ في هذه الحال يقتاد به لأنه لا مجال للتأويل لظهور التعمد في القتل.
وفرق بعض أهل العلم بين الأب والأم، فقالوا: تقتل الأم بولدها ولا يقتل الأب لأن له الولاية دونها؛ والراجح التسوية بينهما لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يُقتل والد بولده"57، ولأن شفقة الأم ورحمتها على ولدها أشد من شفقة الأب.
قال ابن قدامة رحمه الله في شرح ما قاله الخرقي في مختصره: "ولا يقتل والد بولده وإن سفل": (وجملته أن الأب لا يقتل بولده، والجد لا يقتل بولد ولده، وإن نزلت درجته، وسواء في ذلك ولد البنين أوالبنات، وممن نقل عنه أن الولد لا يقتل بولده عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وبه قال ربيعة، والثوري، والأوزاعي، والشافعي، وإسحاق، وأصحاب الرأي – الأحناف، وقال ابن نافع، وابن عبد الحكم، وابن المنذر: يقتل به لظاهر آي الكتاب والأخبار الموجبة للقصاص، ولأنهما حران مسلمان من أهل القصاص، فوجب أن يقتل كل واحد منهما بصاحبه، كالأجنبيين؛ وقال ابن المنذر: قد رووا في هذا الباب أخباراً؛ وقال مالك: إن قتله حذفاً بالسيف ونحوه لم يقتل به، وإن ذبحه أوقتله قتلاً لا يشك في أنه عَمَدَ إلى قتله دون تأديبه، أقيد به؛ ولنا ما روى عمر بن الخطاب وابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يُقتل والد بولده".
إلى أن قال: والجد وإن علا كالأب في هذا، سواء كان من قبل الأب أومن قبل الأم في قول أكثر مسقطي القصاص عن الأب، وقال الحسن بن حيّ: يقتل به؛ ولنا أنه والد، فيدخل في عموم النص.. والجد من قبل الأم كالجد من قبل الأب).58
3. تصرفه في مال ابنه
مما خص به الوالدان دون غيرهما أنه يجوز لهما أن يتصرفا في أموال أبنائهما من غير إسراف ولا إضرار به وبزوجه وأولاده، فلا ضرر ولا ضرار.
ويدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم لمن قال له: إن أبي أخذ مالي- وفي رواية: اجتاح مالي-: "أنت ومالك لأبيك".59
وفي ذلك قصة.
قال القرطبي رحمه الله في تفسير قوله: "وبالوالدين إحساناً.."60 الآية: (وقد روينـا بالإسنـاد المتصـل عن جــابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه قال: "جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن أبي أخذ مالي؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم للرجل: فائتني بأبيك؛ فنزل جبريل عليه السلام على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إن الله يقرئك السلام ويقول لك إذا جاءك الشيخ فاسأله عن شيء قاله في نفسه ما سمعته أذناه؛ فلما جاء الشيخ قال له النبي صلى الله عليه وسلم: ما بال ابنك يشكوك أتريد أن تأخذ ماله؟ فقال: سله يا رسول الله، هل أنفقه إلا على إحدى عماته، أوخالاته، أوعلى نفسي! فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: إيهِ61 دعنا من هذا، أخبرني عن شيء قلته في نفسك ما سمعته أذناك؟ فقال الشيخ: والله يا رسول الله، ما زال الله عز وجل يزيدنا بك يقيناً، لقد قلت في نفسي شيئاً ما سمعته أذناي؛ قال: قل وأنا أسمع؛ قال: قلت:
غَذَوتُك مولـوداً ومُنْتُك يافعـاً تُقـلّ بما أجني عليك وتُنْهِـلُ
إذا ليلة ضافتك بالسُّقـم لم أبِتْ لسقمك إلا سـاهـراً أتملمـلُ
كأني أنا المطروق دونك بالذي طُرِقتَ به دوني فعيني تَهْمَـلُ
تخاف الردى نفسي عليك وإنها لتعلم أن المـوت وقت مؤجل
فلما بلغتَ السن والغـاية التي إليهـا مدى ما كنتُ فيك أؤمل
جعلتَ جزائي غلظة وفظاظـة كأنك أنت المنعـم المتفضـل
فليتك إذ لم ترع حـق أبـوتي فعلتَ كما الجار المصاقب يفعل
فأوليتني حق الجوار ولم تكن عليَّ بمــال دون مـالك تبخل
قال فحينئذ أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بتلابيب ابنه، وقال: "أنت ومالك لأبيك").
4. لا يحل له أن يشتكيهما لحاكم أوقاضٍ أويتظلم منهما لأحد من الناس
مما خص به الأبوان دون غيرهما أنه لا يحق للابن أن يشكو أحد أبويه ويوقفه في المحاكم ولا أن يتظلم منه عند أحد من الناس وإن ظلماه وتعديا على ماله، أونفسه، أوعياله، أوزوجه، لمنافاة ذلك لبرهما، قال ابن عباس رضي الله عنهما: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من أمسى وأصبح مرضياً لوالديه، أمسى وأصبح وله بابان مفتوحان من الجنة، وإن واحداً فواحداً، ومن أمسى وأصبح مسخطاً لوالديه أمسى وأصبح وله بابان مفتوحان إلى النار، وإن واحداً فواحد؛ فقال رجل: يا رسول الله، وإن ظلماه؟ قال: وإن ظلماه، وإن ظلماه، وإن ظلماه".
5. أن يبالغ في مداراتهما ويحذر من مغايظتهما
مما يخص به الأبوان دون غيرهما من الأبناء المبالغة في مداراتهما والحذر من مخاشنتهما والإغلاظ عليهما.
قال ابن أبي زيد رحمه الله: (وسأله – أي مالكاً – رجل له والدة وأخت وزوجة، قال: فكلما رأت لي شيئاً قالت: أعطِ هذا لأختك؛ فأكثرت عليَّ من هذا، فإن منعتها سبتني ودعت عليًّ؟ قال له مالك: ما أرى أن تغايظها، وتخلص منها بما قدرتَ عليه، وغيِّب عنها ما كان لك؛ قال: أين أخبئه؟ ذلك معي في البيت، قال: أما أنا فما أرى أن تغايظها، وأن تتخلص من سخطها بما قدرتَ عليه.
وذكر عن مالك أن رجلاً قال له: إن أبي في بلد السودان، فكتب إليَّ أن أقدم عليه، وأمي تمنعني من ذلك؟ قال له مالك: أطع أباك ولا تعصِ أمك؛ وكره أن يأمره بعصيان أمه.
وذكر أن الليث أمره – أي هذا السائل – بطاعة الأم لأن لها ثلثي البر).62
قلت: مالك رحمه الله أمر هذا السائل بمداراة والديه كلاهما، وأبى له أن يغضب أحدهما على حساب الآخر، وطريقة مالك هذه أسلم مما ذهب إليه الليث.
هذا الرفق وتلك المداراة واجبة مع الوالدين حتى في حال الأمر والنهي
قال ابن مفلح رحمه الله: (قال أحمد في رواية يوسف بن موسى: يأمر أبويه بالمعروف وينهاهما عن المنكر؛ وقال في رواية حنبل: إذا رأى أباه على أمر يكرهه يكلمه بغير عنف ولا إساءة، ولا يغلظ له في الكلام، وإلا تركه، ليس الأب كالأجنبي؛ وقال في رواية يعقوب بن يوسف: إذا كان أبواه يبيعان الخمر لم يأكل من طعامهما وخرج عنهما.
وقال في رواية ابن هاني: إذا كان له أبوان، ولهما كَرْمٌ يعصران عنبه ويجعلانه خمراً يسقونه، يأمرهما وينهاهما، فإن لم يقبلا خرج من عندهما، ولا يأوي معهما؛ ذكره أبو بكر في "زاد المسافر" وذكر المروزي أن رجلاً من أهل حمص سأل أبا عبد الله: أن أباه له كروم يريد أن يعاونه على بيعها؛ قال: إن علمتَ أنه يبيعها ممن يعصرها خمراً فلا تعاونه.
قال المروذي لأبي عبد الله: فإن كان يرى المنكر ولا يقدر أن يغيره؟ قال: يستأذنها، فإن أذنت له خرج، قال المروذي: سألتُ أبا عبد الله عن قريب لي أكره ناحيته، يسألني أن أشتري له ثوباً أوأسلم له غزلاً؛ فقال: لا تعنه ولا تشتر له إلا بأمر والدتك، فإن أمرتك فهو أسله، لعلها أن تغضب).63
بمَ يكون برُّ الوالدين؟
أولاً: المسلمين
أ. في حياتهما
يكون بر الوالدين المسلمين في حياتمها بالآتي:
1. طاعتهما في المعروف.
2. موافقتهما فيما يريدان في غير معصية الله.
3. الإنفاق عليهما إن كانا محتاجين.
4. الإحسان والإهداء إليهما إن كانا مكتفين.
5. عدم التعرض لسبهما.
6. لا يحدّ النظر إليهما.
7. لا يمشي أمام أبيه إلا في الظلمة.
8. ولا يقعد قبله.
9. لا يدعو أباه باسمه.
10. التكلم معهما بلين وتلطف.
11. عدم رفع الصوت عليهما.
قال البغوي رحمه الله: (سئل الحسن: ما بر الوالدين؟ قال: أن تبذل لهما ما ملكت، وتطيعهما فيما أمراك ما لم يكن معصية.
ثم قال: ألم تعلم أن نظرك في وجوه والديك عبادة، فكيف بالبر بهما؟
وقال عروة بن الزبير: ما برَّ والده من سدَّ الطريق إليه، وقال أبو هريرة لرجل وهو يعظه في بر أبيه: لا تمش أمام أبيك، ولا تجلس قبله، ولا تدعه باسمه.
وقال ابن محيريز: من مشى بين يدي أبيه فقد عقه إلا أن يميط له الأذى عن الطريق، وإن كناه أوسماه باسمه فقد عقه إلا أن يقول يا أبه).64
قال تعالى: "وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أوكلاهما فلا تقل لهما أف ولا تهرهما وقل لهما قولاً كريماً واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيراً"، قال ابن عباس: لو كان هناك أدنى من الأف لنهى عنه.
قال القرطبي في تفسير هذه الآية: (أي لا تقل لهما ما يكون فيه أدنى تبرم، وعن أبي رجاء العطاردي قال: الأف الكلام الفَزَع الرديء الخفي، وقال مجاهد: معناه إذا رأيت منهما في حال الشيخ الغائط والبول الذي رأياه منك في الصغر فلا تقذرهما وتقول أف، والآية أعم من هذا، والأف والتف وسخ الأظفار.
ثم قال: خص حالة الكبر لأنها الحالة التي يحتاجان فيها إلى بره، لتغير الحال عليهما بالضعف والكبر، فألزم في هذه الحالة من مراعاة أحوالهما أكثر مما ألزمه من قبل، لأنهما في هذه الحالة قد صارا كلاً عليه، فيحتاجان أن يلي منهما في الكبر ما كان يحتاج في صغره أن يليا منه، ولهذا خص هذه الحالة بالذكر، وأيضاً فطول المكث للمرء يوجب الاستثقال للمرء عادة، ويحصل الملل ويكثر الضجر، فيظهر غضبه على والديه، وتنتفخ لهما أوداجه، ويستطيل عليهما بدالة البنوة وقلة الديانة، وأقل المركوه ما يظهره بنَفَسِه المتردد من الضجر، وقد أمر أن يقابلهما بالقول الموصوف بالكرامة، وهو السالم عن كل عيب).65
ب. بعد وفاتهما
أما بر الأبوين المسلمين بعد وفاتهما فيكون بالآتي:
1. الدعاء والاستغفار لهما.
2. قضاء ما عليهما من دين لله أوللآدميين مثل أن يحج ويعتمر عنهما إن لم يحجا ويعتمرا، وإخراج الزكاة عنهما إن وجبت عليهما وحال عليها الحول.
3. تنفيذ وصاياهما.
4. التصدق عنهما.
5. صلة أرحامهما.
6. صلة أهل ودهما.
ثانياً: الكافرين أوالمشركين
أ. في حياتهما
1. الإحسان إليهما.
2. الرفق بهما.
3. وصلهما إن كانا محتاجين.
4. الدعاء لهما بالهداية.
5. الاجتهاد في دعوتهما إلى الإسلام وترغيبهما فيه.
6. يستأذنهما في الخروج إلى السفر ونحوه، وفي استئذانهما للخروج للجهاد قولان.
ب. بعد وفاتهما
1. لا يدعو ولا يستغفر لهما لنهي الإسلام عن ذلك.
2. صلة أرحامهما المسلمين خاصة.
فضل وثواب بر الوالدين في الدنيا والآخرة
لقد وعد الله البارين بأبائهم وأمهاتهم بالخير الكثير والفضل العميم في الدنيا، والثواب الجزيل والأجر الكبير في الآخرة.
أولاً: ما يناله البار بوالديه في الدنيا
1. يُنسأ له في أجله - هذا بالنسبة لعلم المَلَكِ الموكل بكتابة الأجل.
2. يُوسَّع له في رزقه - هذا بالنسبة لعلم المَلَكِ الموكل بكتابة الرزق.
3. تُجاب دعوته.
4. يبره أبناؤه وأحفادُه ويكافئونه.
5. يحبه أهله وجيرانه.
6. تدفع عنه ميتة السوء.
7. يحمده الناس ويشكرونه.
8. يرضى عنه ربه لرضا والديه عنه.
الأدلة على ذلك
· عن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يرد القدر إلا الدعاء، ولا يزيد في العمر إلا البر".66
· حديث الثلاثة الذين دخلوا غاراً في جبل فانحطت على فم الغار صخرة فسدته، فقال بعضهم لبعض: انظروا أعمالاً عملتموها صالحة فادعوا الله بها لعله يفرجها؛ فقال أحدهم: اللهم إنه كان لي والدان شيخان كبيران، ولي صبية صغار، كنت أرعى عليهم، فإذا رجعت عليهم فحلبت بدأت بوالديّ أسقيهما قبل ولدي، وإنه قد نأى بي طلب الشجر، فما أتيت حتى أمسيتُ، فوجدتهما قد ناما، فحلبت كما كنت أحلب فجئت بالحلاب، فقمت عند رؤوسهما أكره أن أوقظهما وأكره أن أبدأ بالصبية قبلهما، والصبية يتضاغون67 عند قدمي، فلم يزل ذلك دأبي ودأبهم حتى طلع الفجر، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج لنا فرجة نرى منها السماء؛ ففرج الله لهم حتى يرون السماء.." الحديث.68
وفي الحديث فوائد، منها:
1. أن بر الوالدين سبب قوي لإجابة الدعاء.
2. أن التوسل المشروع يكون بالأعمال الصالحة كما يكون بسؤال الله باسم من أسمائه أوصفة من صفاته، أوبطلب الدعاء من الحي الحاضر من غير اعتقاد أنه ينفع ويضر، وما سوى ذلك من التوسل بجاه وذات الأنبياء والصالحين أحياءً وأمواتاً، حاضرين وغائبين، فهو ممنوع محرم.
3. أن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان مخلصاً لله وموافقاً لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
· وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما يرفعه للنبي صلى الله عليه وسلم: "رضى الرب في رضى الوالد، وسخط الرب في سخط الوالد".69
· وعن معاذ بن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من بر والديه فطوبى له زاد الله في عمره".70
ثانياً: فضل وثواب البارّين بوالديهم في الآخرة
1. البر من أقوى أسباب دخول الجنة.
2. يدخل الجنة مع أول الداخلين.
3. مكفر للذنوب.
الأدلة على ذلك
· عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: سمعتُ النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "الوالد أوسط باب الجنة، فإن شئتَ فاحفظ الباب أوضيِّع".71
· وروى أبوبكر بن حفص أن رجلاً قال: يا رسول الله، إني أصبت ذنباً عظيماً، فهل لي من توبة؟ قال: هل لك من أم؟ قال: لا؛ قال: هل لك من خالة؟ قال: نعم؛ قال: فبرها"، وروي نحوه عن ابن عمر.72
· وقال مكحول: "بر الوالدين كفارة للكبائر، ولا يزال الرجل قادراً على البر ما دام في فصيلته من هو أكبر منه".73
جزاء الوالدين
لا يستطيع أحد أن يجزي والديه أوأحدهما إلا أن يجده مملوكاً فيعتقه، ولكن الأبناء مطالبون بالإحسان والبر، وليس بالإجزاء، والله يبارك في القليل، ويجزي باليسير كثيراً.
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوكاً فيشتريه فيعتقه".74
وعن سعيد بن أبي بردة قال: "سمعت أبي يحدث أنه شهد ابن عمر رجلاً يمانياً يطوف بالبيت، حمل أمَّه وراء ظهره يقول:
إني لهـا بعيرهـــا المــذلل إن أذعرت ركابها لم أذعــر
حملتهـا أكثــر مما حمــلت فهل ترى جازيتها يا ابن عمـر
ثم قال: يا ابن عمر، أتراني جازيتها؟ قال: لا، ولا بزفرة واحدة، ولكنك أحسنتَ، والله يجزيك بالقليل كثيراً".75
وقد صدق من قال:
لأمك حـق لوعلمـتَ كبيـــر كثيـرك يا هذا لديه يسيـــر
فكـم ليلةٍ باتت بثقـلك تشتـكي لها من جواهـا أنة وزفيــر
وفي الوضع لو تدري عليك مشقة ومن ثديها شُرْب لديك نميــر
وكم مرة جاعت وأعطتك قوتهـا حُنـواً وإشفاقاً وأنت صغيــر
فضيعتها لما أسنت جهـــالـة وطـال عليك الأمر وهو قصير
فآهاً لذي عقــلٍ ويتبـع الهوى وواهاً لأعمى القلب وهو بصير
فدونك فارغب في عميم دعائـها فأنت لمـا تدعـو إليه فقيــر
ولما ماتت أم إياس الذكي القاضي المشهور بكى عليها، فقيل له في ذلك فقال: كان لي بابان مفتوحان إلى الجنة فغلق أحدهما.
وكان رجل يقبِّل كل يوم قدم أمه، فأبطأ يوماً على أصحابه فسألوه، فقال: كنت أتمرغ في رياض الجنة، فقد بلغنا أن الجنة تحت أقدام الأمهات.76
تعريف العقوق
العقوق لغة: من العق، وهو القطع.
العقوق شرعاً: كل فعل أوقول يتأذى به الوالد من ولده ما لم يكن شركاً أومعصية.
قال الحسن البصري وقد سئل: إلى ما ينتهي العقوق؟ قال: أن يحرمهما، يهجرهما، ويحد النظر إليهما؛ وقال عطاء: لا ينبغي لك أن ترفع يديك على والديك؛ وقال عروة بن الزبير: لا تمتنع من شيء أحباه.
حكم العقوق
العقوق حرام ومن أكبر الكبائر.
دليل ذلك
من القرآن قوله تعالى: "إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أوكلاهما فلا تقل لهما أفٍ".77
ومن السنة: "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وشهادة الزور".78
وقد أجمعت الأمة على حرمة العقوق وأنه من الكبائر المتفق عليها.
عقوبة العاق لوالديه
أ. في الدنيا
1. يضيَّق عليه في رزقه وإن وسِّع عليه فمن باب الاستدراج.
2. لا يُنسأ له في أجله كما ينسأ للبار لوالديه والواصل لرحمه.
3. لا يُرفع له عمل يوم الخميس ليلة الجمعة.
4. لا تفتح أبواب السماء لعمله.
5. يبغضه الله.
6. يبغضه أهله وجيرانه.
7. يخشى عليه من ميتة السوء.
8. يلعنه الله وملائكته والمؤمنون.
9. لا يستجاب دعاؤه.
10. تعجل له العقوبة في الدنيا مع ما يدخر له يوم القيامة.
11. يعقه أبناؤه وأحفاده.
ب. في الآخرة
1. لا يدخل الجنة إن كان من الموحدين مع أول الداخلين.
2. لا ينظر الله إليه وإن دخل الجنة.
قال صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة لا ينظر الله عز وجل إليهم يوم القيامة: العاق لوالديه، والمرأة المترجلة، والديوث"79، وفي رواية: "لا يدخل الجنة منان، ولا عاق، ولا مدمن خمر".
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "رَغِمَ أنفه، ثم رغم أنفه، ثم رغم أنفه"، قيل: من يا رسول الله؟ قال: "من أدرك والديه عند الكبر أوأحدهما ثم لم يدخل الجنة".80
وعن جبير بن مطعم رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يدخل الجنة قاطع"81، وفي رواية: "قاطع رحم".
من صور العقوق
العقوق صوره كثيرة، ونماذجه وفيرة، وسنشير إلى بعض تلك الصور، وهي:
1. السب واللعن.
2. التبرؤ من والديه.
3. تقديم الصديق على الأب والزوجة على الأم.
4. الكذب عليهما.
5. غيبتهما.
6. التكبر والترفع عليهما.
7. التسبب في بكائهما.
8. عدم طاعتهما في ترك المباحات والمستحبات.
الأدلة على ذلك
· عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه؛ قيل: يا رسول الله، وكيف يلعن الرجل والديه؟ قال: يسبُّ الرجل أبا الرجل فيسب أباه، ويسبُّ أمه فيسب أمه".82
· قال ابن عمر رضي الله عنهما: "بكاء الوالدين من العقوق والكبائر".
· وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ثلاث دعوات مستجابات لهن، لا شك فيهن، دعوة المظلوم، ودعوة المسافر، ودعوة الوالدين على ولديهما".83
أسباب العقوق
لا يقدم على عقوق والديه، ويتجرأ في الإساءة إليهما إلا شقي جاهل، وأسباب العقوق كثيرة، ولكن سنشير إلى بعضها، وهي:
1. الجهل بقدر الوالدين، وبالعقوبة المترتبة على عقوقهما في الدنيا والآخرة، ولهذا قال ابن عباس رضي الله عنهما: كل من عصى الله فهو جاهل؛ ولذلك قيل: من جهل شيئاً عاداه.
2. تفضيل بعض الأبناء وإيثارهم على بعض، ولهذا نهى الشارع الحكيم عن ذلك نهياً شديداً، وحذر من مغبته، وعندما جاء بشير بن سعد إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليهب لابنه النعمان، قال له: "أكل بنيك منحت هكذا؟" قال: لا؛ قال: "لا تشهدني على جور، أشهد على هذا غيري، ألا تحب أن يكونوا لك في البر سواء؟".
3. التقصير في الإنفاق على الأبناء في الصغر وإهمالهم.
4. التقصير في حق الأم والميل لإحدى الزوجات على حساب غيرها.
5. رفقاء السوء.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعينوا أولادكم على البر، من شاء استخرج العقوق من ولده".84
مما يدل على أهمية العلم في معرفة الحقوق والواجبات على العبد، ومتى يقدم هذا ويؤخر هذا، قصة جريج العابد ودعاء أمه عليه، لأنه قدم التطوع بالصلاة وهي سنة على طاعة والدته، وعدم إجابته لها – وهي واجبة - وقد دعته ثلاث مرات، إذ لو كان عالماً لقطع صلاته وأجاب أمه، ثم دخل في صلاته مرة ثانية.
خرج مسلم في مسنده85 بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: "كان جريج يتعبد في صومعة، فجعلت أمه – قال حميد: فوصف لنا أبو رافع صفة أبي هريرة لصفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أمه حين دعته كيف جعلت كفها فوق حاجبها، ثم رفعت رأسها إليه تدعوه – فقالت: أنا أمك كلمني؛ فصادفته يصلي، فقال: اللهم أمي وصلاتي؛ فاختار صلاته، فرجعت ثم عادت في الثانية، فقالت: يا جريج أنا أمك فكلمني؛ فقال: اللهم أمي وصلاتي؛ فاختار صلاته، فقالت: اللهم إن هذا جريج وهو ابني، وإني كلمته فأبى أن يكلمني، اللهم فلا تمته حتى يرى المومسات؛ قال: ولو دعت عليه أن يفتن لفتن، قال: وكان راعي ضأن يأوي إلى ديره، قال: فخرجت امرأة من القرية فوقع عليها الراعي، فحملت فولدت غلاماً، فقيل لها: ما هذا؟ قالت: من صاحب هذا الدير؛ قال: فجاءوا بفؤوسهم ومساحيهم، فنادوه فصادفوه يصلي، فلم يكلمهم، قال: فأخذوا يهدمون دَيْره، فلما رأى ذلك نزل إليهم، فقالوا له: سل هذه؛ قال: فتبسم، ثم مسح رأس الصبي، فقال: من أبوك؟ قال: أبي راعي الضأن؛ فلما سمعوا ذلك منه قالوا: نبني لك ما هدمنا من ديرك بالذهب والفضة؛ قال: لا، ولكن أعيدوه تراباً كما كان؛ ثم علاه".
في هذه القصة من الفوائد والعبر ما يأتي:
1. تصوير الرسول صلى الله عليه وسلم الدقيق لأم جريج وهي تنادي ابنها بوضع كفها على حاجبها ورفع رأسها إليه كما تفعل العجائز.
2. دقة وجودة حفظ أبي هريرة رضي الله عنه.
3. إذا تزاحم على الشخص أمران قدم الأهم ثم المهم، وقدم الواجب على الندب.
4. تحذير الوالدين من استعجال الدعاء على الأبناء.
5. أن العلم مقدم على العمل.
6. أن عقوبة العقوق تعجل، مع ما يُدخر للعاق في الآخرة.
7. ما دعت به أم جريج على جريج بأن لا يموت حتى يرى المومسات - وهن الزواني – مصيب لكل المشاهدين للفنانات، والممثلات، والنساء الكاسيات العاريات، فهن في حكم الزواني لتبرجهن، وسفورهن، وفتنتهن لعباد الله.
قال الإمام النووي معلقاً على قصة جريج هذه: (فيه – أي في الباب – قصة جريج رضي الله عنه، وأنه آثر الصلاة على إجابتها فدعت عليه فاستجاب الله لها، وقال العلماء هذا دليل على أنه كان الصواب في حقه إجابتها، لأنه كان في صلاة نفل، والاستمرار فيها تطوع لا واجب، وإجابة الأم وبرها واجب، وعقوقها حرام، وكان يمكنه أن يخفف الصلاة ويجيبها ثم يعود لصلاته، فلعله خشي أنها تدعوه لمفارقة صومعته86 والعود إلى الدنيا ومتعلقاتها وحظوظها، وتضعف عزمه فيما نواه وعاهد عليه).87
قلت: كانت هذه هي العقوبة بسبب عدم إجابته لأمه وهو في حال عبادة وتقرب إلى الله عز وجل، فكيف تكون عقوبة من يدعوه أحد والديه وهو مرتكب لحرام أومكروه ولا يجيب؟ فكثير من الأبناء قد يدعوهم أحد الأبوين ويكون وهو يشاهد مسلسلاً، أويلعب "بالكتشينة" "الورق"، أويلعب كرة، أووهو يقرأ، أويكون جالساً مع صديقه، ونحو ذلك، ولا يتردد مجرد تردد كما تردد جريج في إجابة أمه أم الاستمرار في صلاته.
على الأبناء أن يتقوا الله في أنفسهم وفي والديهم، وليعلموا أنهم ليسوا أعز على الله من جريج، ذلكم العابد الناسك، حيث عجَّل الله له العقوبة لصالحه، ولكن كثيراً من الأبناء والبنات قد تؤخر عنهم العقوبة استدراجاً لهم لشدة غفلتهم وعظيم جريمتهم، لأن بعض الأخيار قد يطهره الله من الذنوب والآثام في الدنيا، ويمحصهم بشيء من الابتلاءات، ولهذا جاء في الخبر: "أشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الأمثل والأمثل"، وهذا مصداق قوله عز وجل: "قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مداً".
لقد ورد في حديث قال الترمذي غريب89، عن أبي هريرة يرفعه: "إذا اتخِذ الفيء دولاً، والأمانة مغنماً، والزكاة مغرماً، وتعلم لغير العلم، وأطاع الرجل امرأته، وعق أمه، وأدنى صديقه، وأقصى أباه، وظهرت الأصوات في المساجد، وساد القبيلة فاسقهم، وكان زعيم القوم أرذلهم، وأكرم الرجل مخافة شره، وظهرت القينات والمعازف، وشربت الخمور، ولعن آخر هذه الأمة أولها، فليرتقبوا عند ذلك ريحاً حمراء، وزلزلة، وخسفاً، ومسخاً، وقذفاً، وآيات تتابع كنظام بالٍ قطع سلكه فتتابع"، الشاهد فيه التحذير من طاعة الزوجة على حساب بر الأم، وإدناء الصديق وإقصاء الأب، وعد ذلك من علامات الساعة المنذرة بنهاية الدنيا وظهور الشرور.
قال ابن قتيبة رحمه الله: (كان صخر بن الشريد أخو الخنساء خرج في غزوة فقاتل فيها قتالاً شديداً، فأصابه جرح رغيب90، فمرض، فطال به مرضه وعاده قومه، فقال عائد من عواده يوماً لامرأته سلمى91: كيف أصبح صخر اليوم؟ قالت: لا حياً فيُرجى، ولا ميتاً فينسى؛ فسمع صخر كلامها فشق عليه، وقال لها: أنت القائلة كذا وكذا؟ قالت: نعم، غير معتذرة إليك؛ ثم قال آخر لأمه: كيف أصبح صخر اليوم؟ فقالت: أصبح بحمد الله صالحاً، ولا يزال بحمد الله بخير ما رأينا سواده92 بيننا؛ فقال صخر:
أرى أمَّ صخر ما تمـل عيادتي وملت سليمى مضجعي ومكاني
وما كنتُ أخشى أن أكون جنازة عليك ومن يغتـر بالحدثـان93؟
فأي امرئ سـاوى بأمٍ حليلـة فلا عـاش إلا في أذى و هوان
أهم بأمر الحـزم لـو أستطيعه وقـد حيـلَ بين العَيْر والنزوان
لعمري قد أنبهت من كان نائمـاً وأسمعت من كانــت له أذنان
فلما أفاق عَمَدَ إلى سلمى فعلقها بعمود الفسطاط حتى فاضت نفسها، ثم نكس من طعنته فمات).94
نماذج للأبناء البررة
سنورد في هذه الصفحات بعض النماذج الحية والصور النادرة لبر الوالدين والإحسان إليهما، عسى أن تكون شاحذاً ودافعاً للأخيار، ومذكراً ومنبهاً للمقصرين والعاقين لآبائهم، فالاقتداء بالسلف الصالح هو سبيل المهتدين، وطريق العقلاء الكيسين من المؤمنين، فنقول وبالله التوفيق:
1. سيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم
يتجلى بر رسول الله صلى الله عليه وسلم بوالديه، وعمه، وزوجه خديجة بعد وفاتها، وبقومه في أحسن صوره في حرصه على هداية الأحياء منهم الذين أدركوا الإسلام، وفي سؤاله لربه أن يستغفر لأمه، فلم يجبه ربه لذلك، ولكن عندما سأله أن يزور قبرها أذن له في ذلك، فزار قبرها.
قال تعالى: "ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم. وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم".95
خرج مسلم في صحيحه عن سعيد بن المسيب عن أبيه قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد عنده أبا جهل وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا عم، قل لا إله إلا الله كلمة أشهد لك بها عند الله"؛ فقال أبوجهل وعبد الله بن أمية: يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب؛ فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه ويعيد له تلك المقالة حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم: هو على ملة عبد المطلب؛ وأبى أن يقول لا إله إلا الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك"؛ فأنزل الله عز وجل: "ما كان للنبي..." الآية، وأنزل الله في أبي طالب لرسوله صلى الله عليه وسلم: "إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين".
قال القرطبي: (هذه الآية تضمنت قطع موالاة الكفار حيهم وميتهم، فإن الله لم يجعل للمؤمنين أن يستغفروا للمشركين).96
2. سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه
روي عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: (كنت باراً بأمي، فأسلمتُ، فقالت: لتدعنَّ دينك، أولا آكلُ ولا أشربُ حتى أموت فتعيَّر بي، ويقال: يا قاتل أمه؛ وبقيت يوماً ويوماً، فقلت: يا أماه، لو كانت لك مائة نفس فخرجت نفساً نفساً ما تركتُ ديني هذا، فإن شئت فكلي، وإن شئت فلا تأكلي؛ فلما رأت ذلك أكلت، ونزلت: "ووصينا الإنسان بوالديه حسناً وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما إليَّ مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون"97).98
وكذلك نزلت فيه آية لقمان99: "ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمُّه وهناً على وهن وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك إليَّ المصير. وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفاً واتبع سبيل من أناب إليَّ ثم إليَّ مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون".
قال القرطبي: (وجملة هذا الباب أن طاعة الأبوين لا تراعى في ركوب كبيرة ولا في ترك فريضة على الأعيان، وتلزم طاعتهما في المباحات، ويستحسن في ترك الطاعات الندب، ومنه أمر الجهاد الكفاية، والإجابة للأم في الصلاة مع إمكان الإعادة، على أن هذا أقوى من الندب، لكن يعلل بخوف هلكة عليها، ونحوه مما يبيح قطع الصلاة100 فلا يكون أقوى من الندب، وخالف الحسن في هذا التفصيل فقال: إن منعته أمه من شهود العشاء شفقة فلا يطعها).101
3. حارثة بن النعمان رضي الله عنه
ممن اشتهروا ببر الأبوين الصحابي البدري الجليل، فقد نال ببره لأمه الدرجات العلا، وشهد له بذلك رسول الهدى محمد صلى الله عليه وسلم، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "دخلت الجنة فسمعتُ فيها قراءة، فقلت: من هذا؟ قالوا: حارثة بن النعمان، كذلكم البر، كذلكم البر"، قالت عائشة: وكان باراً بأمه.102
4. عبد الله بن عبد الله بن أبيّ الصحابي الجليل رضي الله عنه
كان عبد الله بن عبد الله بن أبي باراً بأبيه عبد الله رأس النفاق قبل الإسلام، وعندما تظاهر أبوه بالإسلام كان عبد الله حريصاً على هداية أبيه، ولكن أبى الله ذلك.
من بره بأبيه بجانب ما سبق ذكره كما قال ابن عمر: جاء عبد الله بن عبد الله بن أبيّ إلى النبي صلى الله عليه وسلم حين مات أبوه، فقال: أعطني قميصك أكفنه فيه، وصلِّ عليه، واستغفر له؛ فأعطاه قميصه، وقال: "إذا فرغتم فآذنوني"، فلما أراد أن يصلي عليه جذبه عمر، وقال: أليس قد نهى الله أن تصلي على المنافقين؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا بين خيرتين، استغفر لهم أولا تستغفر لهم"، فصلى عليه، فأنزل الله عز وجل: "ولا تصلِّ على أحد منهم مات أبداً"، فترك الصلاة عليهم.
قـال أبو عمـر: (كان رسـول الله صلى الله عليه وسلم يثني على عبد الله بن عبد الله بن أبيّ هذا، واستشهد عبدالله بن عبدالله بن أبيّ يوم اليمامة في خلافة أبي بكر الصديق سنة12ﻫ، وروت عنه عائشة).103
5. أبو هريرة رضي الله عنه
كان من البارين بأمهاتهم المحسنين إليهن.
عن أبي مُرَّوة مولى عقيل: "أن أبا هريرة كان يستخلفه - مروان على المدينة - وكان يكون بذي الحليفة، وكانت أمه في بيت وهو في آخر، قال: فإذا أراد أن يخرج وقف على بابها، فقال: السلام عليك يا أمتها ورحمة الله وبركاته؛ فتقول: وعليك يا بني ورحمة الله وبركاته؛ فيقول: رحمك الله كما ربيتني صغيراً؛ فتقول: رحمك الله كما بررتني كبيراً؛ ثم إذا أراد أن يدخل صنع مثله".104
6. عبد الله بن عمر رضي الله عنهما
كان عبد الله بن عمر من عباد الله المتقين، ومن الصحابة المتميزين، ومن الأبناء البارين بآبائهم في الحياة وبعد الممات، ومن ذلك بره وإحسانه لبدوي كان أبوه من أصحاب عمر رضي الله عنه.
عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن أبر البر أن يصل الرجلُ وُدَّ أبيه".
وعن عبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رجلاً من الأعراب لقيه بطريق مكة، فسلم عليه عبد الله بن عمر، وحمله على حمار كان يركبه، وأعطاه عمامة كانت على رأسه، قال ابن دينار: فقلنا له: أصلحك الله إنهم الأعراب، وهم يرضون باليسير، فقال عبد الله بن عمر: إن أبا هذا كان وُداً لعمر بن الخطاب رضي الله عنه، وإني سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن أبر البر صلة الرجل أهل ودّ أبيه".
وفي رواية عن ابن دينار عن ابن عمر أنه كان إذا خرج إلى مكة كان له حمار يتروَّح عليه105 إذا مل ركوب الراحلة، وعمامة يشد بها رأسه، فبينما هو يوماً على ذلك الحمار، فقال: اركب هذا، وأعطاه العمامة، وقال اشدد بها رأسك؛ فقال له بعض أصحابه: غفر الله لك، أعطيتَ هذا الأعرابي حماراً كنت تروَّح عليه، وعمامة كنت تشد بها رأسك؟ فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن من أبر البر أن يصل الرجل أهل وُدِّ أبيه بعد أن يولى"، وإن أباه كان صديقاً لعمر رضي الله عنه.106
7. أويس القرني رحمه الله
أويس القرني سيد التابعين منعه من الهجرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بره بأمه، فعوضه الله عما فقده من الهجرة أن كان مجاب الدعاء والاستغفار.
عن أسير بن جابر قال: "كان عمر بن الخطاب إذا أتى عليه أمداد أهل اليمن سألهم: أفيكم أويس بن عامر؟ حتى أتى على أويس، فقال: أنت أويس بن عامر؟ قال: نعم؛ قال: من مراد ثم من قَرَن؟ قال: نعم؛ قال: فكان بك برص، فبرأت منه إلا موضع درهم؟ قال: نعم؛ قال: ألك والدة؟ قال: نعم؛ قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد اليمن، من مراد ثم من قَرَن، كان به برص فبرأ منه إلا موضع درهم، له والدة هو بها بار، لو أقسم على الله لأبره، فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل"، فاستغفر لي؛ قال: فاستغفر له؛ فقال له عمر: أين تريد؟ قال: الكوفة؛ قال: ألا أكتب لك إلى عاملها؛ قال: أكون في غُبُرَّات107 الناس أحب إلي؛ قال: فلما كان من العام المقبل حج رجل من أشرافهم، فوافق عمر، فسأله عن أويس، قال: تركته رث الهيئة، قليل المتاع.
فأخبره عمر بحاله، فعندما رجع إلى الكوفة قال لأويس: استغفر لي؛ قال: لقيتَ عمر؟ قال: نعم؛ فاستغفر له، قال: ففطن له الناس، فانطلق على وجهه، قال أسير: وكسوته بردة، وكان كل من رآه قال: من أين لأويس هذه البردة".108
8. محمد بن سيرين رحمه الله
من الأبناء البررة كذلك الإمام محمد بن سيرين التابعي الجليل، والمعبِّر القدير.
روى الذهبي في ترجمته عن هشام بن حسان قال: (حدثتني حفصة بنت سيرين قالت: كانت والدة محمد حجازية، وكان يعجبها الصبغ، وكان محمد إذا اشترى لها ثوباً اشترى ألين ما يجد، فإذا كان عيد، صبغ لها ثياباً، وما رأيته رافعاً صوته عليها، كان إذا كلمها كالمصغي إليها).109
9. عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز رحمه الله
كان من أبر أهل زمانه ومن أتقاهم رحمه الله.
قال ابن قتيبة رحمه الله: (كان لعمر بن عبد العزيز أربعة عشر ابناً، منهم عبد الملك الولد الصالح ابن الصالح، كان من أعبد الناس، توفي في خلافة أبيه وهو ابن سبعة عشرة سنة وستة أشهر، وكان أحد المشيرين على عمر بمصالح رعيته، والمعينين له على الاهتمام بمصالح الناس، وكان وزيراً صالحاً وبطانة خير رحمه الله، وكان أبر أهل عصره بوالده، أومن أبرهم، وله مناقب مشهورة).110
10. محمد بن المنكدر رحمه الله
قال: "بتُّ أغمز رجلي أمي، وبات عمي يصلي ليلته، فما سرني ليلته بليلتي".
11. قال ابن عباس رضي الله عنهما: "إنما ردَّ الله عقوبة سليمان عن الهدهد لبره لأمه".
نماذج للأبناء العاقين
سنعرض في مقابل الأبناء البررة نماذج من الأبناء العاقين حتى تكتمل الصورة، ويتضح الفرق بين الصنفين، وكما قيل: وبضدها تتميز الأشياء، فلولا وجود الكفر والشرك لما عُرفت قيمة الإيمان، ولولا وجود الأشرار لما عُرف فضل الأخيار.
1. الذي قال لوالديه أفٍّ لكما
يمثل العقوق أصدق تمثيل ما حكاه لنا القرآن على لسان ذلك الابن الكافر العاق لوالديه: "والذي قال لوالديه أفٍّ لكما أتعدانني أن أخرج وقد خلت القرون من قبلي وهما يستغيثان الله ويلك آمن إن وعد الله حق فيقول ما هذا إلا أساطير الأولين. أولئك الذين حق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس إنهم كانوا خاسرين".111
قال الحسن وقتادة: (هي نعت عبد كافر عاق لوالديه).112
وقيل: نزلت في عبد الله بن أبي بكر رضي الله عنهما، وقد كان أبوه يدعوه إلى الإسلام فلا يجيبه، وقيل نزلت في أخيه عبد الرحمن، ولا يصح ذلك، وقد كذبت ذلك عائشة رضي الله عنها ونفته نفياً قاطعاً.
خرَّج ابن كثير بسنده إلى ابن أبي حاتم قال: (أخبرني عبد الله بن المديني قال: إني لفي المسجد حين خطب113 مروان، فقال: إن الله تعالى قد أرى أمير المؤمنين في يزيد رأياً حسناً، وإن يستخلف فقد استخلف أبوبكر عمر رضي الله عنهما؛ فقال عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما: أهرقلية؟ إن أبا بكر رضي الله عنه ما جعلها في أحد من ولده، ولا أحد من أهل بيته، ولا جعلها معاوية في ولده إلا رحمة وكرامة لولده؛ فقال مروان: ألستَ الذي قال لوالديه أفٍّ لكما؟ فقال عبد الرحمن رضي الله عنه: ألستَ ابن اللعين الذي لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أباك؟ قال: وسمعتهما عائشة رضي الله عنها، فقالت: يا مروان، أنت القائل لعبد الرحمن رضي الله عنه كذا وكذا؟ كذبتَ ما فيه نزلت، ولكن نزلت في فلان بن فلان؛ ثم انتحب مروان، ثم نزل عن المنبر حتى أتى باب حجرتها، فجعل يكلمها حتى انصرف.
وفي رواية للنسائي عن محمد بن زياد قال: لما بايع معاوية رضي الله عنه لابنه، قال مروان: سنة أبي بكروعمر رضي الله عنهما؛ فقال عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما: سنة هرقل وقيصر؛ فقال مروان: هذا الذي أنزل الله تعالى فيه: "والذي قال لوالديه أفٍّ لكما" الآية؛ فبلغ ذلك عائشة رضي الله عنها، فقالت: كذب مروان، والله ما هو به، ولو شئت أن أسمي الذي نزلت فيه لسميته، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن أبا مروان ومروان في صلبه، فمروان فضفض من لعنة الله).114
2. يحكى أن شاباً كان مكباً على اللهو واللعب، لا يفيق عنه، وكان والده صالحاً ذا دين وخلق، كثيراً ما يعظه ويقول له: يا بني احذر هفوات الشباب وعثراته، فإن لله سطوات ونقمات ما هي من الظالمين ببعيد، وكان إذا ألحَّ عليه زاد في العقوق وجار على أبيه، وفي يوم ألحَّ على ابنه بالنصح كعادته، فمدَّ الولد يده على أبيه، فحلف الأب بالله مجتهداً ليأتين بيت الله الحرام فيتعلق بأستار الكعبة، ويدعو على ولده، فخرج إلى البيت الحرام وتعلق بأستار الكعبة، وأنشأ يقول:
يا من إليه الحجاج قد قطعـوا عَرْضَ المهامة من قرب ومن بعد
إني أتيتك يـا من لا يخيِّب من يدعـوه مبتهـلاً بالواحد الصمـد
هذا مُنُـازلُ لا يرتد من عققي فخذ بحقي يا رحمن من ولـدي
وشلَّ منه بحـول منك جـانبه يا من تقدس لم يولــد و لم يلـد
فاستجاب الله دعاءه فشلَّ شق ولده الأيمن في الحال.
3. وحُكي أن رجلاً كان من المياسير بالبصرة، وكان يتمنى أن يرزق ولداً وينذر عليه النذور، فولد له وسرَّ به، وأحسن تربيته حتى ارتفع عن مبلغ الأطفال إلى حد الرجال، ولم يهمه شيء من أمر الدنيا سوى هذا الولد، وقد أحسن إليه غاية الإحسان، فلم يشعر الأب ذات يوم إلا بخنجر خالط جوفه من وراء ظهره، فاستغاث بابنه مرتين فلم يجبه، فالتفت فإذا هو صاحب الضربة، فقال الشيخ وهو يضطرب من الألم: لا إله إلا الله محمد رسول الله، أستغفر الله، صدق الله؛ أراد بالتهليل أن يلقى الله بالإيمان، وأراد بالاستغفار أن الله حذره فلم يحذر من ابنه بقوله: "إن من أزواجكم وأولادكم عدواً لكم فاحذروهم"115 ، فجمع في هذه الكلمات كل ما يحتاج إليه في هذه الحال.
4. ورد في سبب نزول قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدواً لكم" عن ابن عباس رضي الله عنه أنها نزلت بالمدينة – وبقيتها مكية – في عوف بن مالك الأشجعي، شكا إلى النبي صلى الله عليه وسلم جفاء أهله وولده.
وعن عطاء بن يسار: كان – أي عوف – ذا أهل وولد، وكان إذا أراد الغزو بكوا إليه ورققوه، فقالوا: إلى من تدعنا؛ فيرق فيقيم.
قال القاضي أبو بكر بن العربي: هذا يبين وجه العداوة، فإن العدو لم يكن عدواً لذاته وإنما كان عدواً بفعله، فإذا فعل الزوج والولد فعل العدو كان عدواً، ولا فعل أقبح من الحيلولة بين العبد وبين الطاعة.
قال القرطبي: (كما أن الرجل يكون ولده وزوجه عدواً، كذلك المرأة يكون لها زوجها وولدها عدواً بهذا المعنى بعينه، وعموم قوله: "من أزواجكم" يدخل فيه الذكر والأنثى لدخولهما في كل آية.
ثم قال: قال الحسن في قوله "إن من أزواجكم": أدخل من للتبعيض لأن كلهم ليسوا بأعداء، ولم يذكر "من" في قوله تعالى: "إنما أموالكم وأولادكم فتنة"116 لأنهما لا يخلوان من الفتنة واشتغال القلب بهما).117
5. من العقوق البيِّن الواضح تصرف بعض الأبناء الغلاة الجفاة مع آبائهم وأمهاتهم، ومخاشنتهم لهم، والغلظة عليهم، ثم هجرهم وتكفيرهم في نهاية المطاف.
الواجب على هؤلاء أن يتلطفوا ويرفقوا بآبائهم وأمهاتهم، وذوي أرحامهم، وأن يتأسوا بالأنبياء والرسل في صنيعهم مع آبائهم وذويهم من الكفار، فقد سلكوا معهم شتى السبل، وسألوا الله نجاتهم، فنوح عليه السلام: "ونادى نوح ربه فقال ربِّ إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين. قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألنِِ ما ليس لك به