صلاةِ الليل : ـ

صلاةِ الليل : ـ

العبادات منها فرَائض لا يجوزُ النَّقصُ فيها ولا الإِخْلاَل . ومنها نَوَافل يحْصُلُ بها زيادةُ التقربِ إلى اللهِ والإِكمَال . جاء في صحيح البخاري عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلّم ـ أنه قال : يقول تعالى : ( من عادى لي ولياً فقد بارزني بالحرب ، وما تقرب إلي عبدي بشيء أفضل من أداء ما افترضت عليه ، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشي بها ، ولئن سألني لأعطينه ، ولئن دعاني لأجيبنه ، ولئن استعاذ بي لأعيذنه ..) الحديث . وقد فَرضَ الله على عبادِهِ خمسَ صلواتٍ في اليومِ واللَّيْلَةِ خَمْساً في الْفِعلِ وخمسينَ في الميزانِ ، وندَبَ الله إلى زيادةِ التَّطوع من الصلوات تكميلاً لهذَه الفرائِض ، وزيادةَ في القُربى إليه ومِنْ هذه النوافل الرواتبُ التابعةُ للصَّلواتِ المفروضةِ : ومنها صلاةُ الليل التي امْتدَحَ الله في كتابِهِ أهل الإيمان , بجملة من الخصال والأعمال، وكان من أخص هذه الأعمال قيامهم الليل , قال تعالى : ( إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها خروا سجداً وسبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون * تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفاً وطمعاً ومما رزقناهم ينفقون * فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون ) سورة السجدة (15-17) ، ووصف الله عباده بقوله : ( والذين يبيتون لربهم سجداً وقياماً ) سورة الفرقان (64) ، ووصف المتقين بكثرة صلاتهم بالليل ، واستغفارهم بالأسحار ، فقال سبحانه : ( إن المتقين في جنات وعيون * آخذين ما آتاهم ربهم إنهم كانوا قبل ذلك محسنين * كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون * وبالأسحار هم يستغفرون ) سورة الذاريات (15-18 ) ، ولِما لصلاة الليل من شأن عظيم في تثبيت الإيمان , والقيام بالأعمال الجليلة ، وتحمل أعباء الدعوة وتكاليفها ، فقد أمر الله بها نبيه عليه الصلاة والسلام، فقال: ( يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلاً نصفه أو انقص منه قليلاً ) إلى أن قال : ( إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً * إن ناشئة الليل هي أشد وطئاً وأقوم قيلاً ) سورة المزمل (1-6 ) .
ووردت أحاديث كثيرة تبين فضائل قيام الليل ، و أنه عادة الصالحين في جميع الأمم ، قال صلى الله عليه وسلم : " عليكم بقيام الليل , فإنه دأب الصالحين قبلكم , وقربة لكم إلى ربكم , ومكفرة للسيئات , ومنهاة عن الإثم " .
وقد ثبت في " صحيح مسلم " أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : " أفضل الصلاة بعد الصلاة المكتوبة الصلاة في جوف الليل" وقال أيضاً : " أقرب ما يكون الرب من العبد في جوف الليل الآخر , فإن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة فكن " رواه الترمذي .
وصلاة الليل من أعظم أسباب إجابة الدعاء , والفوز بالمطلوب ، ومغفرة الذنوب ، فقد روى أبوداود عن عمرو بن عبسة ـ رضي الله عنه ـ قال : قلت : يا رسول الله أي الليل أسمع ؟ قال : " جوف الليل الآخر، فصلِّ ما شئت , فإن الصلاة مشهودة مكتوبة " ، وقال كما في "صحيح مسلم" : " إن من الليل ساعة لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله خيرا إلا أعطاه إياه " .
و قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " إن في الجنة غرفا , يرى ظاهرها من باطنها , وباطنها من ظاهرها , أعدها الله لمن ألان الكلام , وأطعم الطعام , وتابع الصيام , وصلى بالليل والناس نيام " .
وقال ـ صلى الله عليه وسلّم ـ : "أيُّها الناس أفْشوا السلامَ وأطعِمُوا الطعامَ وصِلوا الأرْحَامَ وصَلُّوا باللَّيل والناسُ نيامٌ تَدخُلُوا الجنّةَ بِسَلام "
ومع إن قيام الليل سنة في سائر أوقات العام ، فإنه يتأكد في رمضان فقد كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يجتهد فيه ما لا يجتهد في غيره ، وقرن ـ صلى الله عليه وسلم ـ بين صيام رمضان وقيامه في كونهما سببا للمغفرة في قيام ليالي رمضان قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه . ومن قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه . ومن قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه " .
قال ابن رجب : يجتمع في شهر رمضان جهادان :ـ
1ـ جهاد بالنهار على الصيام .
2ـ جهاد بالليل على القيام .
وكان النبيّ صلى الله عليه وسلّم أوَّل من سَنَّ الْجَمَاعَةَ في صلاةِ التَّراويحِ في الَمسْجِدِ ، ثم تركها خوفاً من أنْ تُفْرضَ على أمَّتِهِ ، ففي الصحيحين عَنْ عائشةَ ـ رضي الله عنها ـ أنَّ النبيَّ ـ صلى الله عليه وسلّم ـ صلَّى في المسجدِ ذات لْيلةٍ وصلَّى بصلاتِهِ ناسٌ ثُمَّ صلَّى من الْقَابلةِ وكثر الناسُ ثم اجْتمعوا من اللَّيْلة الثالثةِ أو الرابعةِ فلَمْ يخرجْ إِلَيْهم رسولُ الله ـ صلى الله عليه وسلّم ـ فَلَمَّا أصبَحَ قال " قد رأيتُ الَّذِي صَنَعْتُم فلم يَمْنعني من الخُروجِ إليكم إلاَّ إِنِي خَشيتُ أنْ تُفْرضَ عَلَيْكُمْ . قال : وَذَلِكَ فِي رمضانَ " .
وقد توفي ـ صلى الله عليه وسلّم ـ والأمر على ذلك أي عدم الاجتماع على قيام رمضان إلى أن كان زمان عمر بن الخطاب ـرضي الله عنه ـ , فقد روى الإمام مالك عن عبد الرحمن بن عبدا لقاري قال : " خرجت مع عمر بن الخطاب ليلة إلى المسجد فإذا الناس أوزاع متفرقون يصلي الرجل لنفسه ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط ، فقال عمر : إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان امثل . ثم عزم فجمعهم على أبي بن كعب و كان يصلي بهم عشرين ركعة , ثم يوتر بثلاث وكان ذلك بمحضر من الصحابة ـ رضي الله عنهم جميعا
وقد امر نا النبيَّ ـ صلى الله عليه وسلّم بإتباع سنته وسنة الخلفاء الراشدين من بعده وهذا لذي توارثته ألأمة في الحرمين إلى يومنا هذا.
ونختم بإيضاح بعض الأخطاء التي قد تحصل في صلاة التراويح :
1ـ التهاون في أداء صلاة التراويح ، بحجة أنها سنة وليست واجبة ، ويفرط في هذه السنة العظيمة مع علمه بما ورد في فضل قيام رمضان إيمانا واحتسابا .. والذي ينبغي على المسلم أن يصلي التراويح كاملة مع الأمام حتى ينصرف ليكتب له أجر قيام ليلة . ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب الله له قيام ليلة ) وفي لفظ : (بقية ليلته) .
2ـ الإسراع من بعض الأئمة في صلاة التراويح إسراعا يخل بالصلاة والمقصود منها ، فيسرع في التلاوة إسراعا شديدا ، ولا يراعي الطمأنينة والخشوع ، وكل همه إنهاء تلك الركيعات لينصرف الناس بعدها لأعمالهم وأشغالهم ، والواجب أن يطمئن الإمام في صلاته , وإذا لم يتيسر له ختم القرآن أو قراءة قدر كبير منه في صلاة القيام تخفيفا على الناس فلا أقل من أن يحسن صلاته فيطمئن فيها ويتم ركوعها وسجودها .
3ـ مسابقة كثير من المأمومين لإمامهم في صلاة التراويح في الركوع والسجود والرفع ، والمشروع في حق المأموم إنما هو متابعة الإمام في أفعال الصلاة فيأتي بها بعده مباشرة لا يسبقه ولا يتخلف عنه ، وقد ورد الوعيد الشديد في مسابقة الإمام ومن ذلك قوله – صلى الله عليه وسلم – كما عند البخاري ( أما يخشى أحدكم إذا رفع رأسه قبل الإمام أن يجعل الله رأسه رأس حمار أو يجعل الله صورته صورة حمار) .
4ـ تطويل دعاء القنوت ، والتكلف فيه والإتيان بأدعية غير مأثورة مما يسبب الملل والسآمة ، وربما حول بعضهم القنوت إلى موعظة يذكر فيها أشياء تتعلق بالقبر وعذابه ، والصراط والبعث والجزاء ،. والذي ينبغي الاقتصار على الأدعية المأثورة الجامعة لخيري الدنيا والآخرة ، وقد كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما تقول أم المؤمنين ـ رضي الله عنها ـ ( يستحب الجوامع من الدعاء ويدع ما سوى ذلك ) .
5ـ ومن الأخطاء رفع الصوت بالقنوت أكثر مما ينبغي وهو مناف لآداب الدعاء فقد قال الله تعالى ( ادعوا ربكم تضرعاً وخفية إنه لا يحب المعتدين ) سورة الأعراف (55) . ولما رفع الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ أصواتهم بالتكبير نهاهم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن ذلك وقال )يا أيها الناس أربعوا على أنفسكم ـ أي أخفضوا أصواتكم ـ فأنكم لا تدعون أصم ولا غائبا ً)
6ـ بعض الناس ربما أشتد بكاؤه وتأثره إذا جاء وقت الدعاء والقنوت فيرفع الصوت بالبكاء والصراخ وهذا فعل مخالف للسنة ، و يتسبب في إشغال المصلين وقد يؤدي الى الرياء المحبط للعمل .، والأولى أن يكون البكاء والتأثر عند سماع كلام الله .مع خفض الصوت وإخفاءه ما أمكن حتى يكون أقرب إلى الإخلاص وأبعد عن الرياء.
7ـ رفع البصر أثناء الدعاء ، وهذا منهي عنه فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم ينهي عن رفع البصر إلى السماء في الصلاة وشدد في ذلك فقال :لينتهين أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في الصلاة أو لا ترجع إليهم أبصارهم ، وفي رواية ( أو لتخطف أبصارهم).
8ـ حمل بعض المصلين للمصاحف دون سبب ، والتسابق في رد الإمام إذا اخطأ ، وهذا يؤدي إلى التشويش على الإمام وعلى المصلين .
9ـ تنقل بعض المصلين بين المساجد ، فيصلي في مسجد تسليمة او اثنتين وربما فاته بسبب ذلك بعض الصلاة .
10ـ اختلاط الرجال بالنساء عند الخروج من المسجد بعد الصلاة ، والسنة أن ينصرف النساء من المسجد فور تسليم الإمام ، وان يتأخر الرجال قليلا لكي ينصرف النساء ولا يتأخَّرنَ إلاَّ لِعذر لحديثِ أمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها قالتْ : " كان النبي ـ صلى الله عليه وسلّم ـ إذا سلَّم قامَ النِّساءُ حِينَ يقضِي تسليمَه وهو يمكُثُ في مَقامِهِ يَسْيراً قبل أنْ يقومَ " ، قالتْ : نرى والله أعلم أن ذلك كان لكي ينصرف النساء قبل أن يدركهن الرجال .
11ـ عدم إتمام الصفوف في مصلى النساء ، فتصلي كل امرأة كأنها تصلي بمفردها ، فيفوتها بذلك فضيلة إتمام الصفوف والسنة يبدأنَ بالصَّف المُؤخَّر بالمُؤخَّر عكس الرجال لقول النبي ـ صلى الله عليه وسلّم ـ : " خير صفوف الرجَالِ أوَّلُهَا وشرُّها آخِرُها وخير صفوفِ النساءِ آخِرُها وشُّرها أوَّلُها " .
12ـ اصطحاب الأطفال الصغار ، وركضهم في المسجد وتشويشهم على المصلين .
13ـ ترك التهجد في العشر الأواخر من رمضان ، والانشغال بالتجوال في الأسواق وشراء الأغراض وحاجيات العيد ، فتضيع على العبد ـ رجلاً كان أو امرأة ـ هذه الليالي المباركة وتضيع عليه ليلة القدر التي من حرم خيرها فقد حرم الخير كله ، وهو أمرـ مع الأسف الشديد ـ يقع فيه كثير مون المسلمين في أواخر الشهر المبارك مخالفين بذلك سنة نبيهم ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذي كان أذا دخلت العشر أحيا ليله وأيقظ أهله وجد وشد ألمئزر) .
فلنعمل جاهدين على الإقتداء برسول الهدى ـ صلى الله عليه وسلم ، قال المولى جلّ شأنه: ( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم ) , سور’ آل عمران (31 )
اللَّهُمَّ وفِّقْنا لاتِّبَاعِ الهُدى، وجنِّبنَا أسْبَاب الهلاكِ والشَّقاء، واجعل شَهرنَا هَذَا لَنَا شهرَ خيرٍ وبركةٍ، وأعِنَّا فيهِ على طاعتك، وجنِّبْنا طرقَ معصِيتك، واغْفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتِك يا أرْحَمَ الراحمين، وصلَّى الله وسلَّم على نبينا محمدٍ وعلى آله وأصحابِه والتابعينَ لهم بإِحسانٍ إلى يومِ الدِّين.


جمعه وكتبه الراجي رحمة ربه
عبدالهادي بن عبدالوهاب المنصوري
جدة 10/9/1431هـ

يعطيك العافيه والله يجزاك كل خير

يعطيك العافيه والله يجزاك كل خير / ورحم الله والديك و والدينا اللهم امين