جمال مطر
----------
حدث معي فى الصين واقعة جعلتنى أهتم اهتماما خاصا بموضوع مألوفة ممارسته وغير مألوفة الكتابة فيه والتحدث عنه، إنه موضوع البقشيش. منذ ذلك الحين، أى منذ عقود، أتابع هذه العادة فى كل بلد زرته وأقرأ ما يكتب عنه.
أثار اهتمامى مجددا بالبقشيش كتاب صدر حديثا يحكى فيه عامل مطعم «جرسون أو نادل» عن تجربته فى العمل فى خدمة الزبائن، ويصف مشاعره تجاه الزبون الذى لا يترك «بقشيشا»، أو لا يترك للنادل إلا القليل جدا من النقود.
كان واضحا، من سرده ومن روايات عمال مطعم آخرين، أن الأمر بالنسبة لهم جد خطير، إلى درجة أن بعضهم كان لا يفوت فرصة تتاح له إلا وانتقم من الزبون الذى لا يترك بقشيشا معقولا.
يقول النادل، مؤلف الكتاب، إنه كان ينتقم من هذا الزبون بطريقة أو بأخرى مثل أن يعتذر له فور دخوله المطعم عن أن المائدة التى طلب حجزها ذهبت إلى زبون آخر، وإذا أصر على البقاء فى المطعم أعد له مائدة متاخمة لدورة المياه، ومثل أن يزعم عندما تحين ساعة الحساب، وأمام ضيوفه، أن بطاقة الائتمان الخاصة بالزبون لم تعمل. يعترف المؤلف بأنه وغيره من عمال المطاعم والمقاهى وأماكن الترفيه والتسلية يمارسون عمليات الانتقام من الزبون الذى لا يدفع البقشيش «وإلا فقدوا سلامتهم العقلية» إن لم يفعلوا.
ويختلف العلماء على تبرير اتساع ظاهرة منح البقشيش وطلبه وحول دوره الاجتماعى. المعروف أن البقشيش يرتبط أساسا بالسلوكيات الشائعة فى النظم الرأسمالية، وأنه كظاهرة بلغت أوجها خلال الثلاثين عاما الماضية فى ظل التوسع فى نشر أفكار اقتصاد السوق وتشجيع ممارساته.
ويؤكد ثلاثة من كبار علماء الاجتماع Ayres وVarsو Zakaria أنهم وجدوا أدلة كافية أن البقشيش يتسبب فى تعميق التمييز العنصرى والعرقى. لاحظوا مثلا أن الزبون يترك للنادل الملون بقشيشا يقل كثيرا عما يتركه للنادل الأبيض، وهكذا الحال مع سائقى التاكسى وبخاصة مع المهاجرين من أصول أفريقية وعربية وآسيوية، ووجد باحثون آخرون أدلة تثبت أن الشعور بالتعالى والشعور بالدونية يتفاقمان مع كل عملية منح بقشيش واستلامه، الأمر الذى يعزز التوتر الاجتماعى وعلاقات عدم الثقة فى المجتمع.
وفى حالات كثيرة يشعر الزبون أو المستفيد من الخدمة بالغبن حين يجد نفسه مجبرا على دفع بقشيش لم يحصل مقابله على خدمة متميزة، بينما الأساس فى منح البقشيش هو ضمان خدمة جيدة أو تحسين الأداء أو تقديم خدمة عاجلة، لا شىء آخر يحث الفرد على دفع البقشيش.
لذلك فمن حق الزبون، بل وواجبه أيضا، أن يمتنع عن دفع البقشيش، بل وربما الامتناع عن دفع النسبة المقررة للخدمة فى فاتورة الحساب، التى تصل أحيانا إلى 20٪ من قيمة الطعام والشراب.
كتب الكثيرون عن علاقة البقشيش بالرشوة والفساد وأن البقشيش ما هو سوى غطاء للرشوة وبخاصة بعد أن بدأ رجال الشرطة وموظفو الخدمات العامة يطلبونه صراحة وبدون مواراة أو خجل.
ففى المكسيك مثلا جرت العادة أن يطلب شرطى المرور من السائقين والعابرين مساعدته لشراء زجاجة مياه غازية ليروى ظمأه، وفى مصر سادت مؤخرا ظاهرة رجال الشرطة المكلفين بحماية البنوك والمبانى العامة الذين يؤجرون لحسابهم الخاص أماكن الانتظار الممنوع قانونا الانتظار فيها، بعد أن كان المعتاد طلب ما يسدد قيمة كوب شاى وسيجارة.
ومن الأمور المعتادة فى نيجيريا أن يطلب رجل الشرطة مبلغا يساعده على الاستمتاع بعطلة نهاية الأسبوع.
وفى بوليفيا لا تزيد نسبة البقشيش على 5٪ اعترافا للمانح بأنه «مؤدب ومهذب». وفى البرازيل نادرا ما يستخدمون البقشيش، وفى إسبانيا قاد وزير الاقتصاد السنيور بدرو سولبيس حملة لمكافحة البقشيش باعتباره أحد أهم أسباب الزيادة فى التضخم. وفى سويسرا مازال السويسريون يعتقدون أن البقشيش «ممارسة غير محببة»، وينظر إليه الأتراك على أنه إهانة.
كنا نعتقد أن معظم الثقافات والتقليد تحرم على الضيوف دفع بقشيش فى الحفلات أو الولائم التى يدعون إليها خشية الإساءة إلى المضيف والتشكيك فى كرمه وحسن ضيافته.
يعرف أكثرنا أن مصر صارت استثناء، فعمال الفنادق والنادلات والنادلون أصبحوا يستجدون البقشيش من ضيوف الأعراس والحفلات، تحت سمع وبصر رؤسائهم والمسئولين فى الفنادق. الشائع الآن أن النادل يعرض أحيانا طعاما أغلى ومشروبات أكثر يتحمل المضيف أثمانها من دون أن يحصل على الأقل باعتراف الضيف له بهذا الفضل.
تختلف الآراء حول أصل المفهوم وأصل الكلمة. يعود بعض الخبراء إلى الثقافة اليهودية القديمة حيث تقابل كلمة Tip الانجليزية كلمة Cheyuv العبرية ومعناها «ترجيح كفة الميزان»، أما كلمة بقشيش التى يستخدمها بعض شعوب آسيا والعالم العربى فيعود أصلها إلى كلمة «بخشيش» الفارسية، ومعناها هدية.
أما الواقعة التى حدثت معى فى الصين ولم تفارق ذاكرتى فخلاصتها أن سائق التاكسى الذى نقلنى من وسط المدينة إلى مجمع السفارات فى بكين قدم لى إيصالا بالقيمة التى سجلها عداد التاكسى، وكانت 97 «سنتيما»، وحين أعطيته عملة ورقية قيمتها 100 سنتيم، رفض استلامها لأنه لا يحمل معه 3 سنتيمات.
حاولت إقناعه بأنى لا أحمل 97 «سنتيما». استمر النقاش بعض الوقت ولما كنت أجادل فى برد قارس بلغة لا يفهمها السائق ويجادلنى بلغة لا أفهمها، نزلت من السيارة وصعدت إلى مسكنى.
وفى اليوم التالى فوجئت بمذكرة رسمية من وزارة الخارجية الصينية تطلب من سفير مصر تنبيهى إلى أن حكومة الصين تحتج على إصرارى منح سائق التاكسى بقشيشا، فالبقشيش «ليس فقط مهينا لسائق التاكسى ولكن مهين أيضا للشعب الصينى بأسره».