لليوم الثاني على التوالي والمطر يهطل بشدة على القرى الحالمة ، بدأت الغيوم تخاتل الفلاحين بردائها الرمادي اللون ، وأخذت شمس النهار من بين ثنايا السحب القطنية تداعب أوجان وملامح لونها قمحي .
كان يخوض في ( القصاب ) وقد غرز طرف ثوبه تحت ( الكمر ) يعمل بجد كحارس أمين على كل قطرة مطر علها تروي (حبلتهم) .. وبين فترة وأخرى يرفع رأسه ماسحاً جبينه بطرف كمه ، يرمق طيفاً لا يُرى ، أو هكذا اعتاد أن ينظر ملامح تسبح في فضائيه العفيف .. ثم يعود يتتبع كل قطره ماء هاربه ، وكم أنشدها قصائد يرجوها البقاء كي يلحق بها .. عادت الطيور إلى أعشاشها كعادتها كل يوم تسابق الفلاحين إلى بيوتهم العتيقة .. أصوات مواشي أهل القرية تتعالى بين (المسارب) المسكونة بهمهمات منسيه .. حاول أن يستذكر يومه المطير ما إن ألقى بجسده النحيل على (القعادة).. لم يفلح في استجداء ذاكرته فرائحة ( السفل ) النتنة أطبقت على صدر ه بحرص شديد ، ونوبات الكحة بدأت للتو في عملية كشط جاده لهمومه المتراكمة على صدره .. هي تزوجت وسكنت قرية أخرى منذ زمن بعيد جداً .. وهو ظل حبيس (الحبلة) والوفاء لمشاعر كانت تختلج في قلبه دون أن تدري .
محبكم أبو الطيب
الجادة 07 المصنعة
10/10/1427هـ
( القصاب ) مفردها قصبه وهي أحواض الماء المضروبة لسقيا الزرع وأشجار الفاكهة .
( الكمر ) الحزام يشد به الفلاح وسطه حال العمل ويأخذ أشكال متعددة .
(حبلتهم - الحبلة) لفظ يطلق على مزرعة العنب وما تضمه من أشجار الفاكهة المختلفة .
(القعادة) سرير مصنوع من الخشب ومغزول بالخصف وإن كنت أجدها (أي القعادة) إلى السرير المائي هذه الأيام أقرب .
(السفل) جزء من الدار يعد لإيواء المواشي الأليفة .