حماطة المسيد
كان قلبه معلق بالمساجد.. فعند كل صلاة وعند كل فرض.. تعود العم محسن أن يحمل الرّكْوة ويتجه نحو ساحة مسجد القرية ليتوضأ تحت حماطة المسيد (تينة المسجد).. تلك الشجرة التي تبوأت منتصف فناء المسجد من قبل أن يولد فتطاولت أغصانها حتى غطت كامل الفناء.. كان يحضر مبكرا ويستمتع بالجلوس على حجر أملس تحتها.. وإلى جواره ركوته البنية اللون والمصنوعة من الجلد والمليئة بالماء البارد الزلال..
كان يتوضأ تحت الحماطة عدة مرات كل يوم.. وأصبحت هذه العادة أشبه بالطقوس التي ليس لها تفسير سوى تعلقه بالمسيد والصلاة فيه والجلوس تحت الحماطة قبل وربما بعد الصلاة.. كان العم محسن أحد المناظر المألوفة للقرية بجسمه المديد وخصره النحيل الذي تعود أن يحزمه بالقديمية الفضية التي لم تكن تفارقه.. ووجهه المستطيل ذو اللحية الكثة البيضاء..
كان ميقاتيّ القرية الذي تعرفه مساريبها وأهلها مع حلول ميعاد كل صلاة وهو يسلكها متجها نحو المسيد أو عائداً منه.. وكان صوته يشنف آذانهم وهو يرفعه داعياً للصلاة.. كان العم محسن يغار كثيراً على الحماطة.. ويغار أكثر على المسيد.. فكان المسجد والحماطة على موعد يومي دقيق معه.. كان يسقي الحماطة بماء وضوءه وكان يحرسها من عبث الطفولة وشقاوة الشباب الذين كانت تغريهم ثمراتها السوداء الناضجة فيحاولون أن يجدوا مغرة من العم محسن لتسلقها والحصول على بعض جناها.. لم يكن العم محسن سيئاً أو شرساً أو حاسداً لهم.. لكنه لا يحب الاعتداء على الحماطة.. فهو يبيع ثمارها في كل صيف بدراهم معدودة على أحد أثرياء القرية ليصرف ثمنها على حاجات المسيد.. كانت تلك الدراهم المعدودة تسد احتياجات المسيد البسيطة كزيت المصباح وفرش المسجد المكون من هُدُمٍٍ مصنوعةٍ من سعف النخيل أو حنبل من الكتان.. ويضيف إليها من عنده مانقص من ذلك.. وكان يحرص بين الحين والأخر وكلما أتيحت له فرصة الهبوط إلى السوق لشراء مقشة أو محوقة.. وإن لم يتمكن عمد إلى عرفجة فاقتلعها وربطها من وسطها وحوّقَ بها جنبات المسيد..
كانت حماطة المسيد تنتصب بقامتها المديدة وسط ساحة المسيد وتغطيها بظلالها الوارفة.. وعندما يقترب المساء يتجمع أهل القرية فيها قبيل الغروب يجلسون على أرائك من الأحجار المبنية بإحكام لتحيط بكل جنبات الساحة وتدور أحاديث الجماعة المسائية عن شؤون وشجون القرية وعن الأهلة والمطر والاستسقاء والزراعة ومواعيد الحرث والصرام ومشاريب الماء والبغرة والوسمية والشركة ومواعيد الزواج والختان ومواسم الحجّ والأفراح وكل أحوال القرية..
لم يكن العم محسن يعرف القراءة ولا الكتابة.. كان أميّ لكنه كان من أعرفهم بالنجوم وأوقات الزراعة.. وكان من أعرف أهل القرية بأمور الزرع وشِرْب الماء والنيبة ويعرف حتى الخرص وهو أنصبة الزكاة.. وكان ذكر الله لا ينقطع عن لسانه حتى وهو يناقش مع الجماعة شؤون حياتهم.. وحتى وهو يخترق مساريب القرية في غدوه ورواحه في ظلمة الليل أو في وضح النهار تسمع تهاليله وتسابيحه وأنت في داخل بيتك.. كان بركة الدار والوادي وكان بيته مسيده ومسيده بيته..
وحتى إذا أختلف بعض أفراد القرية على حدّ من الحدود وحضر العم محسن قبل الطرفان قوله وارتضيا حكمه وانتهت المشكلة..
كان شباب القرية يتحلقون تحت حماطة المسيد بعد صلاة العشاء في ليالي الصيف المقمرة.. وكانت أشعة القمر تخترق أغصان الحماطة وتسقط على رؤوس السمار وهم يتسامرون في ساحة المسيد ويتذاكرون أخبار المدارس والسفر والغربة وبعضاً من أمور القرية.. كان العم محسن بلحيته التي تشبه ضوء القمر يشاركهم بعض سمرهم فقد كان رغم تقدم العمر يحب الشباب ويحب مجالستهم وأحاديثهم وحتى أقاصيصهم.. وربما تولد ذلك عنده لأنه رزق بثلاث بنات وولد واحد توفي وهو في عمر الزهور.. فكان يلمح في كل واحد من شباب القرية صورة ابنه "سالم"..
كانت أحاديث الشباب مع العم محسن شيقة ومثيرة وصاخبة في بعض الأحيان.. سأله ذات ليلة أحد الشباب قائلاً: لماذا زُرعت شجرة التين هذه دون غيرها في ساحة المسجد ياعم محسن؟ ولم لم تكن شجرة لوز أو حبلة أو خوط عرعر؟
تبسم الرجل ونظر إلى أكبرهم وقال له :
ما علموك يا ولدي في المدرسة سورة التين والزيتون؟!
أجابه الشاب نعم ورتل:
بسم الله الرحمن الرحيم*والتين والزيتون*وطور سينين*وهذا البلد الأمين*لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم*
التقط الحديث شاب أخر وكان أكثرهم ثقافة فقال:
إن إقسام الله جل وعلا بهذه الشجرة هو نوع من تكريمه للإنسان بخلقه في أحسن تقويم وتبيان لأهمية هذه الشجرة التي لو لم تكن مهمة لما أقسم بها الله عز وجل..
ضحك العم محسن من تلك الإجابة ودعا لهم بالتوفيق في دراستهم وقال ليتني في سنكم وأتعلم مثلكم..!
على غير العادة.. افتقدت مساريب القرية وقع خطى ذلك الشيخ الذي كان يذرعها ذهابا وإيابا بنحنحته المعروفة وتهليله الذي ألفته حتى الحجارة والنباتات..
لقد ألزم المرض العم محسن الفراش.. وحال بينه وبين غدوه ورواحه في جنبات القرية نحو مسجدها أو مزارعها.. وبات منزله يمتلئ كل مساء بالزوار الذين كانوا يتحلقون بكل أطيافهم حول قعادة العم محسن يعسونه ويسامرونه ويسلونه ويرمقونه بنظرات من الإشفاق والقلق لما يلمحونه على وجهه من أثار المرض وشدة سطوته.. كانت تعابير وجهه تنبئ بأمر خطير ومرض عضال رغم صبره وتحمله وتبسمه المستمر في وجوه زواره.. حاول بعض كبار القرية في حوارهم معه البحث عن وسيلة تساعده على التخلص من المرض غير أنه كان يردد دائماًً : الله هو الشافي.. لقد كان العم محسن يشعر في أعماقه بقرب دنو أجله وأن أيامه في هذه الحياة الدنيا باتت معدودة.. وأنه من العبث اللجوء إلى البشر والأمر بيد خالق البشر.. فكان يرفض وبشدة كل عرض بإحضار من يداويه أو يصف له دواء.. كان أكثر ما يفعله هو تناول القليل من العسل أو قليل من اللبن البارد أو تناول شيء من القهوة عندما تدار مساءً على زواره..
لم يطل عهد المرض بالعم محسن فبينما كان الكثيرون يتحلقون حوله ذات مساء وافاه الأجل المحتوم وهم جلوس حوله.. رفع العم محسن بصره إلى السماء.. ثم رفع سبابته وحرك لسانه ونطق بالشهادتين.. قفز أحد المسنين إلى جواره وهو يردد معه الشهادة.. ولما تأكد من موافاة الأجل أغمض عينيه.. ثم أغلق فمه وغطا وجهه.. وأعقبها بدمعة صامتة شاردة من عينيه سالت على خده شاهدها الجميع رغم محاولته إخفاءها..
التفت إلى الحاضرين وسألهم الدعاء له بالرحمة والغفران وطلب منهم مسامحته والعفو عنه...
في ضحى اليوم التالي وُوُرِي جثمان الفقيد الثرى في مقبرة القرية الملاصقة لِدُورِها وعاد الجميع والحزن يخيم على كل شيء.. وظهرت علامات الحزن على الكبير والصغير..
حتى الحماطة التي كانت تأنس به كلما استظل بظلها ورواها من ماء وضوءه بدأت تذبل أغصانها وتتساقط أواراقها في غير أوانها.. تنبه بعض الشباب لحالها فظنوا أن نقص الماء هو السبب فتعهدوها يومياً بالسقيا غير أن الذبول كان يزيد يوما بعد يوم.. ولم يطل بها الأمد حتى جفت أغصانها وتساقطت أفرعها ويبس عودها ولحقت بصاحبها..
بقلم/ صالح بن سعيد المرضي ( بتصرف)
{ منقول}