صمت العصافير
--------------------------------------------------------------------------------
خالد المرضي ألغامدي
القرية هجرها أهلها إلى سجون الجدران الإسمنتية , هي.. كانت آخر المهاجرين , تشبثت بالأرض بالتاريخ . ثمانون عاما توحدت فيها بأرواح غير بشرية , عصافير وأزهار , شجيرات وأشجار , نسائم تهب فتحمل عبق الأرض المعشبة المزهرة . هم.. جاءوا من هناك , انتزعوها انتزاعاً , أركبوها مطيتهم ثم غادروا غيرا بهين ببقايا روحها المتوحدة مع عوالمها غير البشريه .
في الفجر :
نشر النور لونه الفضي , غسل سواد الليل فخرجت عصافير , خرجت من شقوق المنازل , من عمق الليل و سكونه , من أعشاش ساكنة جدران الآبار . تركت أفواه جائعة مزقزقة , وتركت بيض دفيء متلاصق .
سرحت فامتلأت القرية بلحنها الصباحي , غدت خماصا تبحث عن أقواتها و أقوات صغارها , انهمكت تغرس مناقيرها , تملأ حواصلها الخاوية .
هناك فوق سلك كهرباء يمتد بين عمودين استقر عصفوران اثنان , الذكر بني اللون يميزه عن أنثاه سواد فاتن يلف عنقه . قفز قفزتين مقتربا و ملتصقا بالأنثى , عبث بمنقاره مداعبا أسفل عنقها , حرك ذيله وخفق بجناحيه مزقزقا و متوترا , يحلق ويحلق ويزقزق ثم يحط بجوارها , يلتصق بريشها ثم يقفز ويخفق بجناحيه يطير ويحط في جانبها الأخر .
هي صامتة ساكنة , تتشبث بصمتها , لم تبد اهتماما بمحاولاته اليائسة ليخرجها عن سكونها و صمتها .
تسمرت في مكانها , أرخت عودي ساقيها ليلتصق ريش بطنها بسلك الكهرباء , والذكر يئس من استثارتها فسكن جوارها ملتصقا حزينا.
أخذا يرقبان المكان من علوهما , عينا الأنثى كانت شبه مغمضتين , والذكر تمنى لو يقرأ شرودها , وجعها , تمنى رؤيتها خافقة الجناح , افتقدت مسامعه عذب شدوها , تخيل أن يداعب سحر منقارها سواد ذكورته المطوق عنقه , تمنى و تمنى ..
والشمس شعاعها الذهبي يصادر ندى الزهور ,يوقظ ما تبقى من كسل الأوراق الندية , والنسائم الباردة تلتجئ إلى الظلال وأعالي التلال المعشبة .
الذكر شعر بوهج الشمس , اتقد ريشه بعد هروب النسائم , وخَزَ الجوع دقائق أمعائه وصغر معدته , ها هو الآن يخفق بجناحيه ....يتذكر .
بعينيه الصغيرتين الحزينتين يتأمل شجرة التين , يزقزق ويرفرف , ينفض جناحيه , على علو من الأنثى يقف في الهواء مرفرفاً . ربما عرف الآن سر شرودها , صمتها ووجعها .
هناك تحت شجرة التين حيث تسمر أنثاه عينيها الذابلتين , هناك كانت المهاجرة المُنتزعة قسراً من جذورها تنثر كل صباح قبضه من حبوب , تنثرها بقبضة منتفضة يابسة ثم تعود متقوسة بخطى وئيدة , تجلس على عتبة دارها في حذر , ثم بعينيها الغائرتين ترقب عصفورين ناعمين احدهما تكتحل رقبته بسواد فاتن , تعرفهما جيدا منذ أن توحدت روحها بروحيهما , يأتيان منتشيان مزقزقان , ينقران قوتهما ملء الحواصل ثم يغادران فتغادر روحها سابحة معهما محلقة منتشية .
اليوم :
هاهو الذكر ينثني وحيدا طائرا نحو شجرة التين , يحط على أحد غصونها ثم يهبط أسفلها , وبعينيه يتأمل قفر المكان ووحشته مبعث آلام أنثاه وشرودها , وها هو يعود من حيث أتى وقد أصابه بعض آلام روحه , ينشد لحن الصمت , صمت عصفور يخشى فقد جزء من روحه ,الجزء الغالي الذي يحط هناك صامتا موجوعا ً.
يرتقي صاعدا تجاه وهج الشمس , يسابقه خفقان قلبه , وبين عمودين يمتد بينهما سلك يحط منفردا مذهولا .ساقاه بالكاد تحملانه , يتصاعد خفان قلبه حد التواصل ...
يقلب ناظريه المشدوهين في جنون , يبحث عن بقية روحه !