(أنابيش ثقافية)
بين الفن الإنساني تطابق وتشابه إلى حد التماثل والامتزاج، فالفن الإنساني لا نسب له ولا هوية له إلا الإنسانية، والإنسانية متشابهة في همومها وآلامها وأحزانها وإبداعها وان اختلفت جنسياتها، ومذاهبها العقدية، والفلسفية.. فمعين الإنسانية واحد، ومواردها مشتركة..
وسوف أتحدث اليوم عن شخصيتين إنسانيتين، اشتركتا في الإبداع وان اختلف نوعه، فأحدهما شاعر يرسم أحزانه، وهمومه بالكلمة، والآخر فنان عظيم يرسم همومه وآلامه بالريشة، ولكن حياتهما ومصيرهما الإنساني رغم اختلاف اللونين متشابه ربما إلى حد المتماثل، الأول هو علي بن زريق البغدادي، أما الثاني فهو الرسام الفرنسي الهولندي الأصل فان غوخ. أما علي بن زريق فهو شاعر ملهم ضاقت به سبل العيش في بغداد التي اتسعت لغيره فأغدقت وأعطت الى درجة الترف، وضاق صدرها به الى درجة العوز والفقر، وضيق ذات اليد، وخصاصة العيش. وكأن تلك سجية في بغداد وطبع من طباعها القديمة:
بَغدَادُ دار لأهلِ المال طيبةٌ
وللمفاليس دارُ الضنك والضيق
ظللتُ حيرانَ أمشءيِ في أزقّتَها
كأنّني مصحفٌ في بيتِ زنديق
فقرر الرحيل إلى بلد أخرى لعلها تقدر فنه وتجزل له في العطاء. وكان محباً لزوجته، مفتوناً بها الى درجة الهيام، وكانت تحاول منعه عن الرحيل نحو المجهول، وكان في صراع بين حبه لزوجته وطموحه نحو الغنى، وترف العيش، والقطيعة مع الفقر. وكانت الأندلس آنذاك قبلة الشعراء والفنانين والمبدعين.. فيمم وجهه شطرها بعد لحظات الوداع المؤلم الرهيب، مع زوجته. وبعد ثلاثة أشهر من الرحيل وصل الى هناك، وكان قد أعد قصيدة مدح للخليفة الأندلسي... وظن ان الوصول اليه سهلاً، وأن المرتقى الى درج بلاطه يسيرا، ولكنه حيل بينه وبين الممدوح.. فهناك حراس، وحجاب، ووزراء. وبذل المستحيل في الوصول الى الخليفة ليلقي القصيدة بين يديه فلم يفلح، فتكالبت عليه الهموم من كل صوب: الحاجة والغربة، وعدم الوصول الى الممدوح، والخوف من المجهول فألح عليه الهم والمرض، والفقر، حتى قيل انه لم يجد شيئاً يأكله، فأخذ قصيدته تلك وحولها الى مدح خباز هناك عله يمن عليه برغيف يسدّ به غائلة الجوع!! غير أن الخباز رمى القصيدة في وجهه وطرده..! فذهب الى المسجد أو الخان الذي كان يسكن فيه وكتب قصيدته المشهورة التي يحن فيها الى زوجته ويعتذر اليها عن عدم إصغائه الى نصيحتها. والقصيدة مشحونة بالأسى والحزن وآلام الفراق.. وفي الصباح وجدوه ميتاً وقد توسد قصيدته الشهيرة والتي يقول فيها مخاطباً زوجته:
لاَ تعذليهِ فإنّ العَذلَ يولعهُ
قَدء قُلت حقاً ولَكنء لَيسَ يسمَعهُ
واستَعملي الرفّقِ في تأَنيبِه بدلاً
مِنء عذله فَهَو مضُنَى القَلبِ موجعهُ
إلى أن يقول
استَودعُ الله في بغدادَ لي قمراً
بالكرخِ من فَلكِ الأزرار مَطلعهُ
ودعته وبودِي لو يوَدعني
صفوُ الحياة وانّي لاَ أُودعهُ
وكم تشفّع بي عند الفراق ضحى
وأدمعي مُستهلاّتٌ وأدمعهُ
والقصيدة طويلة كلها شجن وشجى وشكوى الاغتراب، والرحيل، وتقسيم الأرزاق، وما يلاقيه الإنسان في الدنيا من ضيق ومن عنت، ومن سوء طالع، ومن غدر الزمان وأهله وتقلباته..
وهذه القصيدة كانت سبباً في شهرة ابن زريق، التي غطت الآفاق بعد موته، حيث كثرت الدراسات حوله وحول حياته وشعره الى يومنا هذا... وهذا هو ما حدث تقريباً للفنان فان غوخ. فقد ولد هذا الفنان البائس العظيم في هولندا ورحل الى فرنسا بعد ان ضاقت به سبل العيش في وطنه وبالذات في مدينة (لاهاي)، وبعد أن تقلب في عدة أعمال فاشلة جذبته موهبته الفنية الى الرسم، رغم بؤسه وفاقته، وحالة الضياع التي كان يعيشها، وراح يرسم أعظم اللوحات التي لم يقدرها أحد في زمنه إلى درجة انه قايض أحد أصحاب المطاعم بأعظم لوحاته مقابل طبق حساء فرفضها وطرده..! وظل هذا الفنان العظيم يطارده الجوع وسوء الحظ ولم تنفعه عبقريته الفنية وزاد على شقائه وبؤسه وعذاباته انه وقع في شرك الحب. عشق فتاة بادلته حباً بحب، وهياماً بهيام.. فلم يجد شيئاً يقدمه لمعشوقته أو خطيبته سوى اذنه التي قطعها وقدمها لها كأغرب مهر عرفه التاريخ..!! مما جعل الكثيرين يتهمونه بالجنون واللوثة العقلية، وحينما ضاقت به الدنيا والناس والحياة ذرعاً اطلق النار على رأسه، ولفظ أنفاسه في غرفة من غرف الاغتراب والجحود.
اليوم تعتبر أعمال (فان غوخ) ولوحاته أثمن الأعمال واللوحات التي عرفها التاريخ فقد بيعت لوحته التي رفضها صاحب المطعم بمائة مليون دولار قبل عدة سنوات..!!
واليوم وفي (امستردام) هناك متحف ضخم للفنان العظيم.. أما القرية التي سخرت منه واتهمته بالجنون (أوفير سيرواز) وهي من ضواحي باريس والتي بها قبره هناك فإنها تعتبر من أهم قرى فرنسا جميعها وأغناها لكثرة الزوار الذين يتزاحمون ليلقوا نظرة على قبره، وعند الشجرة التي أطلق النار على رأسه تحتها.. ليصبح هذا الفنان المعدم في حياته أغنى فنان عرفه التاريخ بعد مماته..!!
ألم أقل لكم إن العمل الإنساني والإبداع الإنساني لا جنسية لهما ولا مذهب لهما إلا مذهب الفن والعبقرية... فما أشبه إبن زريق الذي مات حزناً وجوعاً ولم تساو قصيدته ثمن قرص عيش، فمات وقد توسدها تحت رأسه، بالفنان العبقري فان غوخ الذي لم تطعمه لوحته العظيمة صحن حساء، ليطلق النار أخيراً على رأسه..!!
ابن زريق البغدادي
420 هـ / 1029 م
أبو الحسن علي (أبو عبد الله) بن زريق الكاتب البغدادي.
انتقل إلى الأندلس وقيل إنه توفي فيها.
وقد عرف ابن زريق بقصيدته المشهورة ( لا تعذليه فإن العذل يولعه )
يخاطب فيها زوجته
لا تَعذَلِيه فَإِنَّ العَذلَ يُولِعُهُ .... قَد قَلتِ حَقاً وَلَكِن لَيسَ يَسمَعُهُ
جاوَزتِ فِي لَومهُ حَداً أَضَرَّبِهِ .... مِن حَيثَ قَدرتِ أَنَّ اللَومَ يَنفَعُهُ
فَاستَعمِلِي الرِفق فِي تَأِنِيبِهِ بَدَلاً مِن.... مِن عَذلِهِ فَهُوَ مُضنى القَلبِ مُوجعُهُ
قَد كانَ مُضطَلَعاً بِالخَطبِ يَحمِلُهُ ..... فَضُيَّقَت بِخُطُوبِ المَهرِ أَضلُعُهُ
يَكفِيهِ مِن لَوعَةِ التَشتِيتِ أَنَّ لَهُ .... مِنَ النَوى كُلَّ يَومٍ ما يُروعُهُ
ما آبَ مِن سَفَرٍ إِلّا وَأَزعَجَهُ .... رَأيُ إِلى سَفَرٍ بِالعَزمِ يَزمَعُهُ
كَأَنَّما هُوَ فِي حِلِّ وَمُرتحلٍ .... مُوَكَّلٍ بِفَضاءِ اللَهِ يَذرَعُهُ
إِنَّ الزَمانَ أَراهُ في الرَحِيلِ غِنىً .... وَلَو إِلى السَدّ أَضحى وَهُوَ يُزمَعُهُ
تأبى المطامعُ إلا أن تُجَشّمه .... للرزق كداً وكم ممن يودعُهُ
وَما مُجاهَدَةُ الإِنسانِ تَوصِلُهُ .... رزقَاً وَلادَعَةُ الإِنسانِ تَقطَعُهُ
قَد وَزَّع اللَهُ بَينَ الخَلقِ رزقَهُمُ .... لَم يَخلُق اللَهُ مِن خَلقٍ يُضَيِّعُهُ
لَكِنَّهُم كُلِّفُوا حِرصاً فلَستَ تَرى .... مُستَرزِقاً وَسِوى الغاياتِ تُقنُعُهُ
وَالحِرصُ في الرِزاقِ وَالأَرزاقِ قَد قُسِمَت .... بَغِيُ أَلّا إِنَّ بَغيَ المَرءِ يَصرَعُهُ
وَالمَهرُ يُعطِي الفَتى مِن حَيثُ يَمنَعُه .... إِرثاً وَيَمنَعُهُ مِن حَيثِ يُطمِعُهُ
اِستَودِعُ اللَهَ فِي بَغدادَ لِي قَمَراً .... بِالكَرخِ مِن فَلَكِ الأَزرارَ مَطلَعُهُ
وَدَّعتُهُ وَبوُدّي لَو يُوَدِّعُنِي .... صَفوَ الحَياةِ وَأَنّي لا أَودعُهُ
وَكَم تَشبَّثَ بي يَومَ الرَحيلِ ضُحَىً .... وَأَدمُعِي مُستَهِلّاتٍ وَأَدمُعُهُ
لا أَكُذب اللَهَ ثوبُ الصَبرِ مُنخَرقٌ .... عَنّي بِفُرقَتِهِ لَكِن أَرَقِّعُهُ
إِنّي أَوَسِّعُ عُذري فِي جَنايَتِهِ .... بِالبينِ عِنهُ وَجُرمي لا يُوَسِّعُهُ
رُزِقتُ مُلكاً فَلَم أَحسِن سِياسَتَهُ .... وَكُلُّ مَن لا يُسُوسُ المُلكَ يَخلَعُهُ
وَمَن غَدا لابِساً ثَوبَ النَعِيم بِلا .... شَكرٍ عَلَيهِ فَإِنَّ اللَهَ يَنزَعُهُ
اِعتَضتُ مِن وَجهِ خِلّي بَعدَ فُرقَتِهِ .... كَأساً أَجَرَّعُ مِنها ما أَجَرَّعُهُ
كَم قائِلٍ لِي ذُقتُ البَينَ قُلتُ لَهُ .... الذَنبُ وَاللَهِ ذَنبي لَستُ أَدفَعُهُ
أَلا أَقمتَ فَكانَ الرُشدُ أَجمَعُهُ .... لَو أَنَّنِي يَومَ بانَ الرُشدُ اتبَعُهُ
إِنّي لَأَقطَعُ أيّامِي وَأنفِنُها .... بِحَسرَةٍ مِنهُ فِي قَلبِي تُقَطِّعُهُ
بِمَن إِذا هَجَعَ النُوّامُ بِتُّ لَهُ .... بِلَوعَةٍ مِنهُ لَيلى لَستُ أَهجَعُهُ
لا يَطمِئنُّ لِجَنبي مَضجَعُ وَكَذا .... لا يَطمَئِنُّ لَهُ مُذ بِنتُ مَضجَعُهُ
ما كُنتُ أَحسَبُ أَنَّ المَهرَ يَفجَعُنِي ....بِهِ وَلا أَنّض بِي الأَيّامَ تَفجعُهُ
حَتّى جَرى البَينُ فِيما بَينَنا بِيَدٍ .... عَسراءَ تَمنَعُنِي حَظّي وَتَمنَعُهُ
فِي ذِمَّةِ اللَهِ مِن أَصبَحَت مَنزلَهُ .... وَجادَ غَيثٌ عَلى مَغناكَ يُمرِعُهُ
مَن عِندَهُ لِي عَهدُ لا يُضيّعُهُ .... كَما لَهُ عَهدُ صِداقٍ لا أُضَيِّعُهُ
وَمَن يُصَدِّعُ قَلبي ذِكرَهُ وَإِذا .... جَرى عَلى قَلبِهِ ذِكري يُصَدِّعُهُ
لَأَصبِرَنَّ لِمَهرٍ لا يُمَتِّعُنِي .... بِهِ وَلا بِيَ فِي حالٍ يُمَتِّعُهُ
عِلماً بِأَنَّ اِصطِباري مُعقِبُ فَرَجاً .... فَأَضيَقُ الأَمرِ إِن فَكَّرتَ أَوسَعُهُ
عَسى اللَيالي الَّتي أَضنَت بِفُرقَتَنا .... جِسمي سَتَجمَعُنِي يَوماً وَتَجمَعُهُ
وَإِن تُغِلُّ أَحَدَاً مِنّا مَنيَّتَهُ .... فَما الَّذي بِقَضاءِ اللَهِ يَصنَعُهُ
م ن ق و ل