بسم الله الرحمن الرحيم
لم أستحل الغناء وكنت أسمعه !
توطئة :
في البدء أثمن وأقدر وأحترم جميع وجهات النظر المختلفة , وبخاصة تلك التي تقوم على الدليل الشرعي من الكتاب الكريم والسنة المطهرة الصحيحة , كما قامت عليه آراء وحجج الكثير من العلماء وطلبة العلم على مر العصور في حكم الغناء .
أما بعد :
فممّا استقر في عقلي وقلبي حول هذا الأمر – بفضل من الحق جل في علاه - أنني لم استحله , إلا أنه ممّا ألم بي زمناً – والحمد لله تعالى - لم يكن زمناً طويلاً – ولذلك تداعيات يمكن تساعدكم في فهم وتفهم من يعن عليه هذا الأمر من الأهل والأصدقاء والمجتمع :
كنت أعيش في بيئة محافظه قروية قبلية يتداخل فيها ما هو من العادة والعرف وبين ما هو من الدين والمذهب لمدة 19عاماً , وبعد أن تخرجت في المعهد العلمي , انتقلت إلى بيئة أخرى أصابتني بهزة عنيفة رجع صداها لازال يحرك أوجاعي , ووحده ربي منّ عليّ بالثبات , إضافة إلى إقامتي مع بعض أبناء قريتي الذين ولله الحمد والفضل ولا أزكيهم على الله سبحانه وتعالى كانوا إلى جانب الصلاة والتحلي بالأخلاق الفاضلة ممّا ساعدني لتجاوز الكثير من المواقف الغير ( معلنه ) , ومع ذلك شعرت بأن سداً بدأ يتعالى بنيانه بيني وبين أهل المدينة لفارق السن وللزاد التربوي والأخلاقي الذي تربيت عليه , فمازلت في ذلك الوقت دون العشرين من العمر , ولحياة المدينة الكبيرة التي تعج بنمط حياتي آخر يصبح فيه أمثالي في اختبار شبه يومي لا يكتفي باستفزازهم بل بدعوتهم لتلك الأشكال الحياتية المختلفة والمغرية للغرائز الكامنة , وربما لهذا بدأت بالانسحاب تدريجياً من ذلك المجتمع إلى أن تشكل لديّ عالمي الخاص , داخله صراع لا يرحم , وظاهره حتمية معاشرة مجتمع المدينة حتى خشيت أن تصل للعبادة , إضافة إلى انتقالي للإقامة مع زميلين آخرين أسلمني للفراغ دون رحمه , حيث لا نلتقي إلا في نهاية الأسبوع بحكم دخولهما إحدى الكليات العسكرية .
هنا ، ألم بي داعي سماع الغناء , وكأي شاب بدأ يتشكل لديه ذائقه غنائية وصلت إلى الدندنة بتلك الأغاني السائدة – بيني وبين نفسي طبعاً لأن صوتي وخجلي وإن افتعلت غير ذلك لا يسمحان لي بذلك - والتي لا زالت عندي – أي تلك الفترة - بمثابة مغامرة خرجت منها بأجمل الخسائر ولله الحمد .
كنت أميل لفنان أدعو له بالرحمة والمغفرة والله حسيبنا وحسيبه , كان مدرسة في مجاله حتى وفاته أتت مختلفة , وفنانه من خارج البلاد أغرتني بغنائها للقدس ومكة وحياة أهل القرى والبساطة في الحياة , ولغيرهما كنت أجمع في شريط واحد من كل بستان زهرة كما يقال , حيث لا تشدني إلا الأغاني الحزينة المفعمة بالشوق والحرمان والألم , ومع ذلك ظل في النفس غربة وحزن يصل إلى البكاء , ووالله ليست غربة الأهل والدار بقدر ما هي الغربة والحنين لذلك الصفاء الذي ينشده كل مسلم سوي .
ربما من محاسن الصدف أنه إبان تلك الفترة لم يكن العزاب محاربون على هذا النحو الموغل في الشك والريبة , وإن كنت أجد من البعض منهم ما يوجب الحذر والاحتراز منهم .
وفي أقل من عامين , كانت هي مدة تلك المعاناة , خرجت ذات صباح للتوجه للعمل , وقبل أن أضع يدي على مقبض باب السيارة أبصرت ورقة كانت موضوعه بعناية تحت المقبض , أخرجتها وقرأت محتواها , لا أعلم من كتبها أو كتبتها , إلا أن ما فيها من الكلمات البعيدة عن التكلف حتى إنه لم يكن فيها إي إشارة لدليل أو فتوى شرعية وما أكثرها ، دفعني لأن أشد أمتعتي استعداداً للخروج من متاهة الغناء على عجل , جعل الله تعالى لكاتب أو كاتبة تلك الكلمات بكل حرف منها نهراً في الجنة .
ودار الزمان , وأتى الأبناء , وعادت تلك القصة ببطل جديد , وعلى نحو مختلف , فالأغنية اليوم لا تكتفي بشدك من أذنك فقط , ولا حول ولاقوة إلا بالله العلي العظيم .
خاتمة :
عندما تطرقت لهذا الأمر , فلكي نتفهم ما نعانيه كمجتمع مسلم ممّا يلم بأحدنا وأن مثل هذا لا يأتي هكذا دونما سبب , وقد يتشكل ليصبح نمطاً عاماً يتقبله الجميع – كواقع – وإن لم يؤمن به أكثرنا , ولكي أفتح باباً لكم لسرد أمور مشابهة , يمكن من خلال تجاربكم نفيد بعضنا بعضاً , لا لجلد ذواتنا ففيها ما يكفيها , وليعلم الجيل القادم أن الآباء عنّ عليهم ما يكابدونه هم اليوم , ولنرسم لهم طرق النجاة بطرق غير مباشرة . والله الهادي إلى سواء السبيل .