اثناء بحثي عن قصيده لجدي طويش رحمه الله كان والدي حفظه الله يردد ابياتها دائماً
وجدة هذا الموضوع القيم واحببت ان تشاركوني الفائده
الأستاذ: سعيد بن صالح الغامدي
أكثر الشعراء من استخدام كلمة ( الــــزفر ) في أشعارهم, حتى أننا لانكاد نجد شـــاعراً منهم لم يزفر, ولم يقل قصيدة أو أكثر تصور لنا مدى ألمه ومعاناته التي تخرج زفراته كالنار الملتهبة من جوفه, ولكل منهم أسبابه كما وضحها علي دغسان- رحمه الله - حين هتف قائلاً :
الزفر هذا يطلعه قلبي له أسباب
وقبل أن تكوينا زفرات شعراءنا وتصطلي مشاعرنا بأنفاسهم المتقدة، فلا نحتمل مثلهم ولا نصبر صبرهم.
دعونا نرحل عبر قواميس اللغة وعبر قصائدهم وأشعارهم لنقف على معنى الزفـر وأبعاده، نستجلي كنهه ونقتفي أثره لعلنا نعرف بعض أسبابه.
في المنجد والوسيط والمحيط والعين
زفر الزفر الزفير والفعل يزفر وهو أن يملأ صدره غما ثم يزفر.
زَفَرَ زفراً وزفيراً : صــوت توقد النــار ، والرجــل أخرج نَفَسه الممــدود ، وجــور الحِـمل.
الزفرة : التنفس مع مـدّ النفس الحــار تشبيهاً له بزفير النــار.
الزافرة :القوس لزفيرها
زافرة الرجل : عشيرته وأنصــاره لأنهم يزفرون عنه
وجمع الزافرة زوافر وتعني : الكــاهل ، السيد الكبير ، خشب توضع عليه الأسقف وكروم العنب ، الضــلوع ، وزوافر المجــد أعمدته.
ويقال للجمل الضخم زفر والأسد زفر والرجل الشجاع زفر والرجل الجواد زفر.
وهناك فروق بين الزفر والأنين والآه
فالأنين: أنّ الرجل يئن أنينا، أنن أنن، أن الرجل من الوجع يئن أنينا وقيل الأننة الكثير الكلام والبث والشكوى
أمــــا الآه
آه: كلمة تقال عند التوجع وقد تقال عند الإشفاق وكل كلام يدل على حزن تأوه
ولقد سبق الشـنفرى شعراءنا إذ قال وهو يصف أحد أصحابه :
ثلاثة أصحاب فؤاد مشيع *** وأبيض إصليت وصفـراء عيطـل
هتوف من الملس المتون يزينها *** رصائع قد نيطت إليها ومحمل
إذا زلّ عنها السهم حنّت كأنها *** مرزأة ثكلـى تـرن وتعـول
فهــو يشـبِّـه زفير القوس إذا خرج عنها السهم بالثكلى التي فقدت وليدها.
أمَّــا أحمد بن جبران فقد كان زفره كـأن السيوف والجنابى تقطعه إربـــا، وكانت حالته أشبه بحال عنترة والرماح تتهاوى عليه والسيوف تقطر من دمه حين قال:
ولقد ذكرتك والرماح نواهل *** مني وبيض الهند تقطر من دمي
ازفر وكنّ الروح بسيـوف تّلهمـا
وإلا مـصـقـول الـثـنـابـا
والدمع من بين الرماش أخفى كحالي
يـا محـمـد ليتـنـي أموت
لكنّ مالي بالقدر حتى أبصر آخي
إنه العشـق القاتل بسيوفه أو جنابيه، وقد تمنى الموت، ولكن بعــد لقاء مودة ومحبة يكون ثمناً مجزياً لوقع تلك السيوف التي قطعت روحه إلى أجزاء، ولكنه وجد من يشاركه رغبة الموت بمرارته ونتيجته الحتمية
وشريك المشاعر هو علي بن أحمد الزهراني فهناك روح تلهما ، وهنا نفس تقتل، موت هناك وقتل هنا ، والزفر واحد ومع ذلك لم ينسى أحمـد وهو تحت رحمة الموت من الدعاء على من يؤذي صاحبه أن يذوق طعم الطعن حتى يمتنع عن الأذية:
زفرت زفره قلت منها تالمر باقتل
وتـلا زفــري قـلـو تــم
يالجادل اللي مامعي فيه الحَيالـي
وان تعذقـنـا بــه اعـــذاق
عسى الذي يعضاك منا ذاق طعنا
ومازالوا جميعا تحت جور ووطأت ومخاطر الموت فهذا عبد الله بن سعيد الزبير يشتكي لوعته التي جعلته يزفر كأنه المنيمس التي يخرج من فمها الحمم والموت الزؤام المحتوم فينبجس الدم من ضربها ويصاب الجميع بالرهبة والسكون:
ازفر زفير منيمـس تحتـمّ ريـض
والـدم مـن ضربـه مشاغـيـل
في مدة الأخوان يوم الحرب ع الساس
كــل عـاصــي يلمـعـونـه
كل سكن من هيبته ومجـاور لـه
أما محمد بن حسن المالحي فكانت زفرته أقوى وأكبر وأعم وأشمل كان زفره ثورة ممزوجة بالدموع والعويل والغضب الذي تشاركه فيه الطبيعة بالرياح والرعد والضباب والمطر والسيول والسرى والظلام:
ازفر زفير الرعد في منصد رياح
وزفــا سـيـل ورى سـيـل
من ناوياً ناضت بروقه والدّيانـا
يــوم ســرّى الله بغِـيـرِي
ولا مضى من كل وادي هيلم اثله
تنوعت الأسباب والزفر واحد،ولكن كيف يشـابه الزفر صوت الرعد عند المالحي، وصوت المنيمس عند الزبير ،مع أن الزفر عبارة عن خروج الهواء الشديد من الصدر فيما يشبه الهمس .
كيف تحول هذا النفس الهامس إلى أصوات قوية هادرة عنيفة ..؟؟ يسمع بها الكثير وتسمعها الجبال فتردد صداها وتتلقفها الوديان فيغدو الألم أغنية للحزن .
وكيف يصــبح للموت صوت عند الزهرانِـيـَيـَنْ جبـــران وعلي ..؟؟ الموت له حشرجة وله انتزاع وله رهبة وأي رهبه إنها رهبة ورعب الفراق الأخير إنه الحقيقة التي يرفضها الجميع بدون استثناء وعلى رأسهم أهل الحجــا.
غير أن طويش كانت زفرته تهز الجبال العالية وتهدم الأرض وقبل ذلك قد عاث هذا الزفر فساداً في أعماقه حـرّقَ الصدر والقلب والرئتين والكبد حتى أنّ من قال
ولي كبد مقروحة من يبيعني به***ا كبداً ليست بذات قروح:
قد كان في حال أحسن من حال طويش فالكبد المقروحة ربما يفيد فيها العلاج أما الكبد التي تعرضت لنيران الزفر إلى درجة القلي فلا اعتقد أنه تبقى أمل في عودتها إلى حالتها الطبيعية :
زفـرت زفـره زاع منهـا كـل قلـه
واغــــدت ارض الله تـهـديــم
زفرا غليظـا حـرق انعاشـي وقلبـي
وقـلــى أكبادي قــلاهــا
وأصيح من جور الغشيشه واقل :أوه أوه
وهل لي في هذه الحالة أن أنوه بجمال خاتمة القصيدة ، وصوت الألم مازال يطرق مسمعي وطويش يصرخ من شدة الألم أوه أوه.
أي أه وأي زفــر أخرجته الغشيشــه وقد فعلت فعائلها ..؟؟
وقد مزجت الصراخ بالزفير وحرّقت الجوف بما يحويه والصدر وما فيه، ومع ذلك تلطفت وأبقت للألم مخرجاً فاختلط فيه حابل الصوت بنابل الزفر والآهات
ولنترك أهات وصرخات وزفرات طويش لا لأننا قساة قلوب ولكن لأنه ليس باليد حيله فالعين بصيرة واليد قصيرة ولنرى حالة أخرى إنها حالة مسفر بن حامد الدوسي، صاحب الزفر المدمر ولننتظر أحد من دوس بعد أن يقرأ الخبر فلربما طمأننا
لأنّ زفر مسفر قد أقتلع جبل دوس اليماني ولعله يقصد الجبل المسمى ظهر الغدا، وزاع أراضي الكناني والعامري والسلمي وكل التهم وهذه الزفرة الزلزال كان سببها هو من جلى الثـمان، ويالها من ثمانٍ ناصعة البياض شديدة الوقع ليس لها مثيل في قوة التأثير جعلت الدوسي يعيد ويكرر بالتأكيد اللفظي كلمة( زاعــت ) ليبين ما وصل إليه حاله من كرب وعناء وشقاء:
يازفرتي زاعت جبـل دوس اليمانـي
عـالــذي جـلــى الـثـمـانـي
وزاعت ارض العامري وارض الكناني
حــب مالـصـاحـب دوا لـــي
وزاعت ارض السلمـي والتهـم كلـه
والـشـجـر عـشــر وهــلــه
وزاعت ارض السلمي وجبال السراحين
مـــن ســبــه قـراحـيــن
وزاعـت ارض المالكـي والحارثيـه
مـاغـربـت شـمــس وفـيــه
للي رعت حالي وراح القلـب بيحـان
أما علي دغسان فهو لا يريد لزفره أن يتوقف بل ويحــث قلبه على الاستمرار في الزفر حتى يحس بلهيب زفره ويسمعه كل العرب ، ليس ذلك فقط وإنما ليصل أثره إلى الشام واليمن فيزوعهما وينقلهما من مكانيهما بقوته وغلظته وشراسته ويبقى مفعوله مستمراً حتى ولو مزق الصدروربما تهدا الأمور عند اللقاء:
ياقلبي ازفر ومن تالزفـر متانـا
حتى ويوحونك العربان وحياتي
ليته يزوع اهل شاما واليمن ليته
زفرا غليظا يفض الصدر نتواجه
ولأني كنت أظن أن أسبابهم كانت حالة مرضية عامه، فقد مررت ببعض شعراء الفصحى، فكان لكل منهم زفره وخبره وأسبابه
فهذا ابن الخياط يلـوّح من بعيد وهو يردد عندي من الزفرات مايكفيني:
أمُعذِبي بالنارِ سَلْ بجوانِحِي *** عنِدِي من الزَّفَراتِ ما يكفيني
لا تَبْغِ إحراقِي فإنَّ مدامِعِـي *** تُغْرِي بنارِكَ ماءَها فيَقَينـ
أما بشار بن برد فقد اقتربت منه وهو يقطع إحدى الطرقات وهو يهتدي بعصاة في يمينه ويحدث نفسه قائلاًَ:
تقطع قلبي زفـرةً بعـد زفـرةٍ *** عليها.... وما صبري على الزفرات؟
وأحجب زواري اغتباطاً بخلـوةٍ *** وما كنت أهوى قبلهـا خلواتـي
وسألت كجاشم محمود بن ياسين عن خبر أهل الزفر فقال :
أَذَابَتْ قلبَـهُ الزّفـرهْوأَدْمَتْ خدّه العَبـرَهْ
وهَلْ يطمعُ في الصّبرِعميدٌ باعَـهُ صبـرَهْ
وكنت أظن الشريف الرضي سيغالط وتأخذه عزة علية القوم بالإثم لكنه ابتدرني:
خضعت لك الاعداءَ يوم لقيتها *** جلداً تجرد للمصـاب عـزاءَ
وتمطت الزفرات حتى قوَّمت *** ضلعاً على اضغانها عوجـاءَ
ثــــم ســألني:
هـل يبلغهـم نضـوب مدامعـي *** و فناء قلبي بعدهم حسـرات ..؟؟
ريح من الزفرات تعصف في الحشى *** وورائهـا مطـر مـن العبـرات
فلما ترددت في إجابته إذ بمحمد بن عبدالله بن سالم المعولي يشير إلي بالإنصــات:
أبيتُ أردّدُ الزفراتِ شوقـاً *** و قلبي من نواهم في التهابِ
إليهم منهمُ و لهـم عليهـم *** فمالي من سواهم من طلابِ
غير أن أبو الطيب أحمــد المتنبي وقد هــدّه الترحال والعيس والبيداء وزجر الحدات وتعاقب الأحداث
لا يلبث أن يمزج الكبرياء بزفرة غالبت وقع خطوات الزمن ووقع طموح قاده إلى ثمار الموت:
يستاق عيسهم أنينـي خلفهـا *** تتوهم الزفراتِ زجرَ حداتهـا
وكأنها شجـر بـدت لكنهـا *** شجر حنيت الموت من ثمراتها