الصدق:ـ
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونتوب إليه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ـ صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا ـ أما بعد:
فقد حثَّ الإسلام على الصدق وبيَّن فضائله ، والصدق : معناه مطابقة الخبر للواقع ، وهو مطلوب من الإنسان في قوله وعمله واعتقاده ، وفي تحقيق مقامات الدين كلها . وقد عرّفه الإمام ابن القيم ( رحمه الله ) بقوله : " هو منزلة القوم الأعظم ، الذي فيه تنشأ جميع منازل السالكين ، والطريق الأقوم الذي من لم يسر عليه فهو من المنقطعين الهالكين ، وبه تميز أهل النفاق من أهل الإيمان ، وسكان الجنان من أهل النيران ، وهو سيف الله في أرضه الذي ما وضع على شيء إلا قطعه ، ولا واجه باطلاً إلا أرداه وصرعه ، من صال به لم تُرد صولته ، ومن نطق به علت على الخصوم كلمته ، فهو روح الأعمال ومحك الأحوال والحامل على اقتحام الأهوال والباب الذي دخل منه الواصلون إلى حضرة ذي الجلال ، وهو أساس بناء الدين وعمود فسطاط اليقين ودرجة تالية لدرجة النبوة التي هي أرفع درجات العالمين " .
والصدق من صفات الله عز وجل قال تعالى : ( ومن اصدق من الله قيلا ) سورة النساء ( 122) وقال سبحانه : ( ومن أصدق من الله حديثا ) سورة النساء (87) ، فصدق الله العظيم الذي بلغ قوله وحديثه في الصدق أعلى ما يكون .. وقد أكد جلّ شأنه أن الصدق من صفات النبوة يقول الله تعالى : ﴿ واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا ﴾ سورة مريم (41) ، ويقول تعالى : ﴿ و اذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد و كان رسولا نبيا ) مريم (54) ، وكان رسول الله يلقب بالصادق قبل النبوة وبعدها فقد كان صادقا منذ نعومة أظفاره ولم يكذب قط طيلة حياته وقد أثنى الله تعالى عليه بقوله ( وإنك لعلى خلق عظيم ) سورة القلم : (4) وحين سأل هرقل ( عاهل الروم ) أبا سفيان ـ وكان يومها على شركه ـ عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقال له هل جربتم عليه كذبا ؟ فقال أبو سفيان :لا فقال هرقل :ما كان ليدع الكذب على الناس ويكذب على الله . وقد أمر الله تعالى المؤمنين باتقائه وان يكونوا مع الصادقين ومنهم قال الله تعالى: ﴿ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين ﴾ سورة التوبة ( 119) . قال السعدي ـ رحمه الله ـ في تفسيره : " أي ( يا أيها الذين آمنوا ) بالله ، وبما أمر الله بالإيمان به ، قوموا بما يقتضيه الإيمان ، وهو القيام بتقوى الله ، باجتناب ما نهى الله عنه ، والبعد عنه . وكونوا مع الصادقين" في أقوالهم ، وأفعالهم وأحوالهم ، الذين أقوالهم صدق ، وأعمالهم ، وأحوالهم لا تكون إلا صدقاً خالية من الكسل والفتور ، سالمة من المقاصد السيئة ، مشتملة على الإخلاص والنية الصالحة ، فإن الصدق يهدي إلى البر ، وإن البر يهدي إلى الجنّة " إن الصدق إيمان وبر وإحسان، وأهله في أعلى درجات الجنة بعد النبوة كما قرر القرآن ذلك.
والمسلم يكون صادقًا مع الله ، وصادقًا مع الناس فلا يكذب في حديثه مع الآخرين ، وصادقًا مع نفسه. فالمسلم الصادق لا يخدع نفسه ، ويعترف بعيوبه وأخطائه ويصححها ، فهو يعلم أن الصدق طريق النجاة و أنه الصفة الفارقة بين المؤمن والمنافق , قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " ثلاث من كن فيه كان منافقا إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان " وقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ " دع ما يُرِيبُك إلى ما لا يُرِيبُك ، فإن الكذب ريبة والصدق طمأنينة " . و الصدق في القول يؤدي إلى الصدق في العمل والصلاح في الأحوال يقول تعالى : ﴿ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا * يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما ﴾ سورة الأحزاب( 70- 71 ) ، أي مستقيماً لا اعوجاج فيه ولا انحراف , وقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم : " عليكم بالصّدق فإن الصّدق يَهْدِي إلى البر وإن البِر يهدِي إلى الجنة وما يزال الرجل يصْدُق ويتحرّى الصدق حتى يكتب عند الله صدّيقاً " والصديق في المرتبة الثانية من مراتب الخلق من الذين أنعم الله عليهم كما قال الله سبحانه : ( ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين انعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا ) سورة النساء (69) ، ومعلوم أن الصد يقية درجة عظيمة لا ينالها إلا أفذاذ من الناس ، قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ : "فحمل الصدق كحمل الجبال الرواسي لا يطيقه إلا أصحاب العزائم فهم يتقلبون تحته تقلب الحامل بحمله الثقيل " . وقال ـ رحمه الله ـ " الصدق أساس بناء الدين وروح الأعمال ومحك الأحوال به تميز أهل النفاق من أهل الإيمان وسكان الجنان من أهل النيران قال تعالى: ( ليجزي الله الصادقين بصدقهم ويعذب المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم إن الله كان غفوراً رحيماً ) سورة الأحزاب (24) ، أي بسبب صدقهم ، في أقوالهم ، وأحوالهم ، ومعاملتهم مع الله ، واستواء ظاهرهم وباطنهم ".
يحكى أن رجلا كان يعصي الله ـ سبحانه ـ وكان فيه كثير من العيوب ، فحاول أن يصلحها ، فلم يستطع ، فذهب إلى عالم ، وطلب منه وصية يعالج بها عيوبه ، فأمره العالم أن يعالج عيبًا واحدًا وهو الكذب ، وأوصاه بالصدق في كل حال ، وأخذ من الرجل عهدًا على ذلك ، وبعد فترة أراد الرجل أن يشرب خمرًا فاشتراها وملأ كأسًا منها ، وعندما رفعها إلى فمه قال: ماذا أقول للعالم إن سألني: هل شربتَ خمرًا ؟ فهل أكذب عليه ؟ لا ، لن أشرب الخمر أبدًا .وفي اليوم التالي ، أراد الرجل أن يفعل ذنبًا آخر ، لكنه تذكر عهده مع العالم بالصدق . فلم يفعل ذلك الذنب ، وكلما أراد الرجل أن يفعل ذنبًا امتنع عن فعله حتى لا يكذب على العالم ، وبمرور الأيام تخلى الرجل عن كل عيوبه بفضل تمسكه بخلق الصدق . "، فإذا كان هذا وفاء بعهد مع مخلوق ! فما ذا يجب أن يكون عليه حال العبد مع الخالق جل وعلا القائل ( ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد ) سورة ق ( 18) ،
وللصدق مراتب عديدة ذكرها الإمام أبو حامد الغزالي ـ رحمه الله ـ ملخصها ما يلي :
1- صدق اللسان.. وذلك لا يكون إلا في الأخبار أو فيما يتضمن الأخبار ، ماضيًا أو مستقبلا ً، ويندرج تحته الوفاء بالوعد والخلف فيه ، وحق على كل عبد أن يحفظ ألفاظه ، فلا يتكلم إلا بالصدق ، وهذا هو أشهر أنواع الصدق .
2- الصدق في النية والإرادة.. ويرجع ذلك إلى الإخلاص ، وهو ألا يكون له باعث في الحركات والسكنات إلا الله تعالى ، فإنْ مازَجه شوبٌ من حظوظ النفس ، بطل صدق النية، ويجوز أن يسمى صاحبه كذّابًا .
3- صدق العزم.. فإن الإنسان قد يقدم العزم على العمل ، فيقول في نفسه : إن أعطاني الله تعالى ولاية عَدَلْت فيها ، فهذه عزيمة تحتاج إلى صدق ، لأنه بمنزلة التمام والقوة لها ، كيلا يضعف أو يتغير وقت التنفيذ ، ولذلك روى الإمام مسلم عن سهل بن حنيف ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من سأل الله تعالى الشهادة بصدق بلَّغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه ".
4- الوفاء بالعزم.. ذلك أن النفس قد تسخو بالعزم في الحال ، إذ لا مشقة في الوعد والعزم ، لكن إذا حقت الحقائق وحصل التمكن ، وهاجت الشهوات ، انحلَّت العزيمة ، ولم يتفق الوفاء ، ولهذا مدح الله تعالى هؤلاء المؤمنين الذي وفَّوا بعزائمهم فقال سبحانه : ( رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه ) سورة الأحزاب ( 23) .
5- الصدق في الأعمال.. وهو أن يجتهد حتى لا تدل أعماله الظاهرة على أمر في باطنه لا يتصف هو به ، وعلى المسلم هنا أن يستجر الباطن إلى تصديق الظاهر.
6- الصدق في مقامات الدين.. وهو أعلى الدرجات وأعزها ، ومن أمثلته : الصدق في الخوف ، والرجاء ، والتعظيم ، والزهد ، والرضا ، والتوكل ، وحب الله تعالى ، ورسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
قال بن القيم ـ رحمه الله ـ : " أخبر سبحانه أنه في يوم القيامة لا ينفع العبد وينجيه من عذابه إلا صدقه قال تعالى : ( هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك الفوز العظيم ) سورة المائدة ( 119) ، وقال تعالى : ( والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون ) سورة الزمر (33) ، فالذي جاء بالصدق : هو من شأنه الصدق فى قوله وعمله وحاله " .
إذا السرّ والإعلان في المؤمن استوى
فقد عزّ في الدارين واستوجب الثنا
فإن خالف الإعلان سراً فما له
على سعيه فضلٌ سوى الكدّ والعنا
فما خالص الدينار في السوق نافقٌ
ومغشوشه المردود لا يقتضي المنا
نسال الله تعالى أن يرزقنا الصدق في القول والعمل والاعتقاد وان يثبتنا على ذلك ، إنه ولي ذلك والقادر عليه وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين،،،،،
كتبه وجمعه الراجي رحمة ربه ومغفرته
عبدالهادي بن عبدالوهاب المنصوري
جدة 4/8/1431هـ