الاعتكاف : ـ
الاعتكاف سنة مؤكدة في رمضان وغيره من أيام السنة ، والأصل في ذلك قوله تعالى : ( وأنتم عاكفون في المساجد ) ، مع توارد الأحاديث الصحيحة في اعتكافه - صلى الله عليه وسلم ، وأفضله في العشر الأواخر من رمضان لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله عز وجل ، قالت عائشة – رضي الله عنها (كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله ، ثم اعتكف أزواجه من بعده) ، وكان - صلى الله عليه وسلم ـ يعتكف في كل رمضان عشرة أيام ، فلما كان العام الذي قبض فيه ، اعتكف عشرين يوما ) ، و كان اعتكافه ـ صلى الله عليه وسلم ـ يتسم باليسر وعدم التشدد ، وكان وقته كله ذكراً لله تعالى وإقبالاً على طاعته التماساً لليلة القدر وبذلك فإن الاعتكاف سنة فاضلة ، عبر عنه ابن رجب ـ رحمه الله ـ بقوله " الخلوة المشروعة لهذه الأمة وهي الاعتكاف ، خصوصاً في شهر رمضان ، خصوصاً في العشر الأواخر منه كما كان النبي – صلى الله عليه وسلم – يفعله فالمعتكف قد حبس نفسه على طاعة الله وذكره ، وقطع عن نفسه كل شاغل يشغله ، وعكف بقلبه وقالبه على ربه وما يقربه منه، فما بقي له همٌ سوى الله وما يرضيه عنه... فمعنى الاعتكاف وحقيقته : " قطع العلائق عن الخلائق للاتصال بخدمة الخالق " .
وقال عنه ابن القيم – رحمه الله -: " لما كان صلاح القلب واستقامته على طريق سيره إلى الله ـ تعالى ـ متوقفاً على جمعيته على الله ـ تعالى ـ وكان فضول الطعام والشراب وفضول المخالطة ، وفضول الكلام ، وفضول المنام مما يزيده شعثاً ، ويشتته في كل وادٍ ، ويقطعه عن سيره إلى الله - تعالى - أو يضعفه أو يعوّقه ويوقفه : اقتضت رحمة العزيز الرحيم بعباده أن شرع لهم من الصوم ما يذهب فضول الطعام والشراب.. وشرع لهم الاعتكاف الذي مقصوده وروحه عكوف القلب على الله ـ تعالى ـ فيصير أنسه بالله بدلاً عن أنسه بالخلق ، فيُعِدُّه بذلك لأنسه به يوم الوحشة في القبور، حين لا أنيس له ولا ما يفرح به سواه ، فهذا مقصود الاعتكاف الأعظم . ولما كان هذا المقصود إنما يتم مع الصوم ، شرع لهم الاعتكاف في أفضل أيام الصوم ، وهو العشر الأخير من رمضان .
والاعتكاف لغة: الحبس والعكوف واللزوم ويسمى أيضا الجوار.
واصطلاحا : لزوم المسجد لطاعة الله على صفة مخصوصة من مسلم طاهر مما يوجب غسلا.
فكل إقامة في مسجد لله تعالى بنية التقرب إليه اعتكاف .. مما قل من الأزمان أو كثر ، إذ لم يخص القرآن والسنة عدداً من عدد ، ووقتاً من وقت قال الشيخ ابن باز ـ رحمه الله ـ " الاعتكاف هو المكث في المسجد لطاعة الله ـ تعالى ـ سواء كانت المدة كثيرة أو قليلة ، لأنه لم يرد في ذلك فيما أعلم ما يدل على التحديد لا بيوم ولا بيومين ولا بما هو أكثر من ذلك ، وهو عبادة مشروعة إلا إذا نذره صار واجبا بالنذر وهو في المرأة والرجل سواء " .
وقال الشيخ ابن عثيمين : " والمقصود بالاعتكاف : انقطاع الإنسان عن الناس ، ليتفرع لطاعة الله في مسجد من المساجد، طلبا لفضله وثوابه ، وإدراك ليلة القدر, ولذلك ينبغي للمعتكف أن يشتغل بالذكر والقراءة والصلاة والعبادة ، وأن يتجنب ما لا يعنيه من حديث الدنيا.. ويحرم على المعتكف الجماع ومقدماته من التقبيل واللمس لشهوة ، لقوله تعالى : ( ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد ) سورة البقرة ( 187) .
ولا يجوز للمعتكف الخروج من المسجد إلا لحاجة ضرورية كالوضوء والغسل ، والأكل والشرب ، فإن تيسر له ذلك في المسجد ، لم يجز له الخروج .
ولا يخرج لعبادة لا تجب عليه ، كإتباع جنازة أو عيادة مريض ونحو ذلك ، ولا يخرج لبيع أو شراء ، أو زيارة أقارب أو غير ذلك .
وقال ابن القيم – رحمه الله - : " تحصيلاً لمقصود الاعتكاف وروحه ، عكس ما يفعله الجهال من اتخاذ المعتكف موضع عٍشرة ، ومجلبة للزائرين ، وأخذهم بأطراف الأحاديث بينهم ، فهذا لون ، والاعتكاف النبوي لون ! "
ومتى دخل المعتكف المسجد ينوي التقرب إلى الله بالمكث فيه وإنما يكون في المساجد حتى لا ينقطع عن صلاة الجماعة ،
و هو الخلوة المشروعة لهذه الأمة، خلافا للخلوة المبتدعة التي تفوت على صاحبها حضور الجمع والجماعات, وهو وسيلة لإدراك ليلة القدر، والفوز بما فيها من الثواب والأجر,
فإن نوى اعتكاف العشر الأواخر من رمضان فإنه يدخل معتكفه قبل غروب الشمس : وأما خروجه فإنه يخرج إذا غربت الشمس من آخر يوم من أيام رمضان .
ومن العلماء من يرى أنه يستحب أن يبقى بالمسجد حتى يخرج إلى صلاة العيد
والسنة ألا يزور المعتكف مريضاً أثناء اعتكافه ، ولا يجيب الدعوة ، ولا يقضي حوائج أهله ، ولا يشهد جنازة ، ولا يذهب إلى عمله خارج المسجد ، لما ثبت عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أنها قالت : " السنة على المعتكف ألا يعود مريضاً ، ولا يشهد جنازة ولا يمس امرأة ، ولا يباشرها ، ولا يخرج لحاجة إلا لما لابد منه " . ويستحب للمعتكف أن يكثر من نوافل العبادات ويشغل نفسه بالصلاة وتلاوة القرآن والتسبيح والتحميد والتهليل والتكبير والاستغفار والصلاة والسلام على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ والدعاء ونحو ذلك من الطاعات التي تقرب إلى الله وتصل المرء بخالقه جل ذكره ، ويدخل فى ذلك قراءة كتب التفسير والحديث ويكره له أن يشغل نفسه بما لا يعنيه .
ونختم بما ذكره أهل العلم عن أخطاء تحصل من بعض المعتكفين خاصة في رمضان:
1ـ جعل الاعتكاف فرصة للقاء الأصدقاء ، والاجتماع بهم ، والتحدث إليهم ، والمسامرة معهم ، فترى مجموعة من الأصحاب يحرصون على الاعتكاف في مسجد واحد ، أو في مكان معين من المسجد لهذا الغرض ، وكل ذلك مناف لمقصود الاعتكاف ، الذي هو الانقطاع عن الناس ، والابتعاد عن مشاغل الحياة الدنيا ومفاتنها ، والتفرغ لعبادة الله سبحانه ، والخلوة به ، والأنس بذكره .
2ـ التوسع في المباحات والإكثار من المآكل والمشارب ، والذي ينبغي للمعتكف أن يحرص على التقليل من الطعام والشراب ما أمكن ، وأن يقتصر منه على ما يعينه على العبادة ، فإن قلة الطعام توجب رقة القلب وانكسار النفس ، وتطرد الكسل والخمول ، ومن كثر أكله لم يجد لذكر الله لذة .
3ـ جعل الاعتكاف فرصة للمباهاة والتفاخر والتطلع إلى ثناء الناس ومدحهم ، كقول بعضهم : اعتكفنا في الحرم ، أو المسجد الفلاني ، أو ما أشبه ذلك طلبًا للمدح والإعجاب ، والواجب على العبد أن يخفي عمله ، ويخلص قلبه لله في كل ما يُقدم عليه من عمل ، ومن ثم يرجو القبول من الله ، فإنما الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرئ ما نوى ، وقد قال الله تعالى : ( والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون ) سورة المؤمنون : (60) ، فمن نوى الاعتكاف لله ، فالأمل من الله أن يقبل منه ذلك ، ومن اعتكف طلبًا لثناء الناس فعمله لمن اعتكف لأجلهم . ومما يعين العبد في هذا الشأن اختيار المسجد الذي لا يعرف فيه أحدًا ، ولا يعرفه فيه أحد ، ويفضل لمن عقد العزم على الاعتكاف أن لا يُعلم أحدًا بما هو عازم عليه ، حتى يكون عمله أقرب إلى الإخلاص ، وأرجى للقبول .
4ـ الإكثار من النوم وعدم استغلال الأوقات في المعتكَف ، فالمعتكف لم يترك بيته وأهله وأولاده لينام في المسجد ، وإنما جاء ليتفرغ لعبادة الله وطاعته ، فينبغي على المعتكف أن يقلل من ساعات نومه قدر استطاعته، وأن يغير برنامجه الذي اعتاد عليه في أيامه العادية
5ـ من أخطاء المعتكفين أيضًا كثرة الخروج من معتكفهم لغير حاجة معتبرة ، كالخروج المتكرر إلى السوق لشراء طعام أو شراب ، بينما كان يكفيه لذلك خروج واحد. وقد ذهب جمهور أهل العلم إلى أن خروج المعتكف من المسجد لغير حاجة يفسد الاعتكاف، فليُتنبه لذلك ، وليقلل المعتكف من الخروج إلا لحاجة لا بد منها .
6ـ عدم محافظة بعض المعتكفين على نظافة المسجد وحرمته ، فربما ترك بعضهم مخلَّفاتهم من الطعام والشراب دون تنظيف ، وقد أخبرنا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن : ( البزاق في المسجد خطيئة وكفارتها دفنها ) متفق عليه ، فالذي ينبغي على المعتكف أن يتعاهد ويتعهد موضع معتكفه بالتنظيف والترتيب .
7ـ بعض المعتكفين ، وخصوصًا بعض المعتكفين في الحرمين ، لا يصلي صلاة التراويح مع المصلين ، وخصوصًا في العشر الأواخر، اكتفاء بصلاة القيام ، ومن ثَمَّ يظل يشوش على المصلين بأحاديث لا طائل من ورائها ، وفي هذا وقوع في خطأين اثنين : ترك صلاة التروايح مع الجماعة ، والتشويش على المصلين .
8 ـ بعض المعتكفين يظهرون الجد والعزم والنشاط في أول أيام اعتكافهم ، ثم لا يلبثون على هذا الحال إلا قليلاً ، وبعدها تفتر همتهم ، ويتراخى عزمهم ، ويخبت نشاطهم ، بسبب المخالطة. والذي ينبغي على المعتكف أن يستمر في نشاطه ، ويدوم على جده واجتهاده في الطاعة إلى آخر لحظة من اعتكافه؛ تحريًا لليلة القدر التي أخفى الله عنا وقتها تحقيقًا لهذا الغرض .
9ـ تفريط وتقصير بعض المعتكفين في حق أهله وأولاده، إذ ربما ترتب على غياب المعتكف عن أهله مفاسد ومشكلات لا تحمد عقباها ، كتسيب الأبناء وانحرافهم وهو في معتكفه . وإذا كان الاعتكاف سنة مستحبة ، فإن المحافظة على الأهل والأبناء من الواجبات التي لا ينبغي التفريط بها بحال ، وليس من المعقول ولا من المقبول أن يضيع الإنسان واجبًا من أجل المحافظة على سُنِّة ، ولا شك فإن الجمع بين الأمرين هو المطلوب إن تيسر ذلك ، وإلا فالقيام بالواجب هو الأولى وهو المقدَّم .
اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عنا ، اللهم اجعلنا ممن أدرك ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا ، وفاز بعظيم الأجر . وصلى الله وسلم نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين ،،،،،
جمعه و كتبه الراجي رحمة ريه
عبدالهادي بن عبدالوهاب المنصوري
جدة 17/9/1431هـ