مواسم المغفرة لا تنقطع : ـ
بسم الله الرحمن الرحيم
تمر الأيام وتنقضي الشهور تتبعها السنون وكل أيام العمر مراحل تقطع يوماً بعد يوم ، في طريق سريع إلى ذلك اليوم العظيم ( يوم يفر المرء من أخيه * وأمه وأبيه * وصاحبته وبنيه * لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه ) سورة عبسى (34-37 ) . والكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني .
بالأمس القريب كان المسلمون يتنافسون في شهر رمضان المبارك شهر الرحمة والمغفرة والعتق من النار ، يصومون نهاره ، ويقومون ليله ، ويتقربون إلى ربهم بأنواع القربات ، طمعاً في ثوابه ، وخوفاً من عقابه ، ولئن انقضت تلك الأيام الفاضلة ، والليالي المباركة ، ولم يبقى إلاّ ما أودع فيها من خيرٍ أو شر فإن عمل المسلم بطاعة ربه واستقامته على شريعة الإسلام ليس له نهايةٌ إلا عند الموت ، ومن فضل الله على عباده تنوع سبل الخيرات طيلة أيام السنة ، فبعد شهر رمضان المبارك دخلت أشهر الحج إلى بيت الله الحرام ، فكما أن من صام رمضان وقامه غفر له ما تقدم من ذنبه ، فكذلك من حج البيت ولم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه وفي اليوم والليلة عبادة تكرر خمس مرات وهي الصلوات الخمس في جماعة للرجال ففي الحديث ( أن الرجل إذا توضأ فأحسن الوضوء ، ثم خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا الصلاة لم يخط خطوة إلا حطت عنه بها خطيئة، فإذا صلى لم تزل الملائكة تصلي عليه ما دام في مصلاه ما لم يحدث ، تقول : اللهم ارحمه ، اللهم ارحمه ، ولا يزال في صلاته ما انتظر الصلاة ).. كما أن الله يعد له في الجنة نزلاً ففي الحديث : ( من غدا إلى المسجد أو راح أعد الله له نزلاً في الجنة كلما غدا أو راح ) وقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (من توضأ فأحسن الوضوء ثم خرج عامدا إلى الصلاة فإنه في صلاة ما كان يعمد إلى الصلاة وإنه يكتب له بإحدى خطوتيه حسنة ويمحى عنه بالأخرى سيئة فإذا سمع أحدكم الإقامة فلا يسع فإن أعظمكم أجرا أبعدكم دارا قالوا لم يا أبا هريرة قال من أجل كثرة الخطا ويرفع به الدرجات ) قال ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ : " من سره أن يلقى الله غداً مسلماً فليحافظ على هؤلاء الصلوات حيث ينادى بهن فإن الله شرع لنبيكم ـ صلي الله عليه وسلم ـ سنن الهدى وإنهن من سنن الهدى ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم وما من رجل يتطهر فيحسن الطهور ثم يعمد إلى مسجد من هذه المساجد إلا كتب الله له بكل خطوة يخطوها حسنة ويرفعه بها درجة ويحط عنه بها سيئة ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق ولقد كان الرجل يؤتى به يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف " . وهناك أيضًا مواسم أخرى : موسم وعيد يتكرر كل أسبوع وهو يوم الجمعة قال عنه رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها، ولا تقوم الساعة إلا في يوم الجمعة ( وقال ـ صلي الله عليه وسلم ـ : من اغتسل يوم الجمعة ، وتطهر بما استطاع من طهر ، ثم ادهن أو مس من طيب ، ثم راح فلم يفرق بين اثنين ، فصلى ما كتب له ، ثم إذا خرج الإمام أنصت ، غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى وقال : ـ صلي الله عليه وسلم : " في يوم الجمعة ساعة ، لا يوافقها مسلم ، وهو قائم يصلي يسأل الله خيرا إلا أعطاه . وقال بيده قلنا : يقللها ، يزهدها .و موسم جوف الليل وفي وقت الأسحار قال ـ رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ : " إن في الليل ساعة لا يوافقها عبدٌ مسلمٌ يسأل الله تعالى خيرا من أمر الدنيا والآخرة إلا أعطاه الله ، وذلك في كل ليله " ، وأفضل القيام الثلث الأخير من الليل فهو وقت الغفلة لأن الناس كلهم هجع ، وهذا الثلث فيه نزول الرحمة ، واستجابة الدعاء ، والأنس بالقرب من الله تبارك وتعالى ., وقد جعل الله تعالى النوافل سببا لبلوغ مرتبة المحبوبية ففي الحديث القدسي الذي رواه البخاري عن أبي هريرة عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال : “ يقول تعالى : من عادى لي وليا فقد بارزني بالحرب ، وما تقرب إلى عبدي بشيء أفضل من أداء ما افترضت عليه ، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه “ ومن أنواع النوافل صيام ست من شوال : و صيام أيام البيض وصيام يوم عرفه لغير الحاج وكذلك صيام أيام الاثنين والخميس .والمداومة على الرواتب التابعة للفرائض اثنتا عشرة ركعة : أربع قبل الظهر وركعتان بعده وركعتان بعد المغرب وركعتان بعد العشاء وركعتان قبل الفجر. و قراءة القرآن يوميا ولو جزءا واحدا على الأقل .
إن استقامة المسلم بعد رمضان وصلاح أقواله وأفعاله لأكبر دليل على استفادته من رمضان . ورغبته في الطاعة ، وهو عنوان القبول وعلامة الفلاح . فمن علامة قبول الحسنة فعل الحسنة بعدها ، ولما كان الإنسان لا يدري متى يأتيه الموت ، وجب عليه أن يستمر على الطاعة طوال عمره ، حتى يكون مستعداً للقاء الله في أي لحظة قال الحسن البصري ـ رحمه الله ـ : " لا يكون لعمل المؤمن أجلٌ دون الموت ، ثم قرأ قوله تعالى : ( واعبد ربك حتى يأتيك اليقين ) سورة الحجر(99) " ، و قيل للإمام أحمد ـ رحمه الله ـ : متى الراحة ؟ قال : عند وضع أول قدم في الجنة . فقد كان السلف يخافون من سوء الخاتمة ، حتى قال أحدهم : أخاف أن يسلب مني الإيمان وأنا على فراش الموت : وكان مالك بن دينار يقوم في الليل البهيم الأسود ، ويقبض على لحيته ويبكي ، ثم ينظر إلى السماء ويقول : يا رب ! لقد علمت ساكن الجنة من ساكن النار ، ففي أي الدارين منزل مالك بن دينار .
فعلى من أنعم الله عليه بصيام رمضان و أحسن أن يحمد الله ويواصل الإحسان بالاستمرار على الطاعة ، والبعد عن المحرمات ، والتأسي بـالسلف الصالح ـ رحمهم الله ـ الذين كانوا يجتهدون في إتقان العمل وإتمامه ، ثم يهتمون بعد ذلك بقبوله ويخافون من رده ، فقد كانوا يدعون الله ستة أشهر أن يبلغهم رمضان ، ثم يدعونه ستة أشهرٍ أخرى أن يتقبله منهم ، فكل أوقاتهم عبادة . قال علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ (كونوا لقبول العمل أشد اهتمامًا منكم بالعمل ، ألم تسمعوا إلى قول الله عز وجل: ( إ نما يتقبل الله من المتقين ( سورة المائدة (27) ، ويقول مالك بن دينار ـ رحمه الله ـ : " الخوف على العمل ألا يُتقبل أشد من العمل " وقال فضالة بن عبيد ـ رحمه الله ـ : " لو أني أعلم أن الله تقبل مني حسنة واحدة لكان أحب إلي من الدنيا وما فيها " .
ختاما أسأل الله جل وعلا أن يغفر لنا ولوالدينا وأن يتقبل منا جميعا صيامنا وقيامنا وصالح أعمالنا ، وأن يجعل لنا من شهرنا أوفر الحظ والنصيب ، ويعيده علينا أعواماً عديدة وأزمنة مديدة . وهو راض عنا إنه على كل شيئ قدير وصلَّى الله وسلَّم على نبيِّنا محمدٍ وعلى آلِهِ وصحبِه أجمعين .
جمعه وكتبه
الراجي رحمة ربه ومغفرته
عبدالهادي بن عبدالوهاب المنصوري
جدة في 8/10/1431هـ