الأول من شعبان أول رمضان
المكان: مدينة النبي صلى الله عليه وسلم.
الزمان: اليوم الأول من شهر شعبان يوم الأحد السنة الثانية للهجرة.
الحدث: جمع سكان المدينة لإعلان نبوي خطير وهام.
المشهد: رسول الله صلى الله عليه وسلم يصعد على المنبر بعد أن ينادي في الناس الصلاة جامعة ويعلن في الناس إن الله تعالى قد افترض عليهم صيام شهر رمضان.
بهذه الكلمات أعلن النبي صلى الله عليه وسلم استقبال الضيف العزيز المبارك إلى الأرض، وهو إعلان جليل يدعونا للوقوف معه وقفات للتأمل والاعتبار.
أولا: الغالب في الأوامر الشرعية والنواهي كذلك إنها إنما نزلت للتنفيذ مباشرة، فالأمر بفرض الصلاة مثلًا تم في حادثة الإسراء والمعراج، ونزل النبي صلى الله عليه وسلم يعلم الناس الصلاة، ويأمرهم بأداء الصلوات الخمس.
وكذا النهي عن شرب الخمر نزل من الله تعالى، فكان الإجراء المقابل من الصحابة رضوان الله عليهم الذين كانوا يشربون الخمر أن من رفعها إلى فيه لم يشربها.
وحتى الأوامر الشرعية التي تأخر تنفيذها عن وقت طلبها مثل الحج، فإن الوقت الذي نزل في الأمر بالفريضة كان متعينًا قبل قدوم وقتها الفعلي؛ لتوفير مجال للاستعداد للسفر والتجهز للارتحال، وهذا هو المقصد والمناط ها هنا، ودعوني أشرح ذلك:
الوقفة الأولى: نستطيع أن نفهم أنه ينزل الأمر بوجوب الحج قبل موعد الحج في الأشهر الحرم بشهر أو أكثر؛ لأنه يلزم للحج الاستعداد للسفر والمشقة الشديدة الناشئة عن ذلك، ولا بد من وجود المال والصحة وخلافه من شروط تحتاج إلى وقت للتجهيز، ولكن الصيام لا يحتاج إلى استعداد قبله بالمال أو السفر، بل على النقيض هو امتناع عن الطعام والشراب، فلا يحتاج قبله لوقت للتجهيز، إذًَا لا بد من حكمة ربانية لهذا السبق، وما لها أن تكون إلا الاستعداد لقدوم هذا الضيف الكريم.
الوقفة الثانية: يحار المرء من بلاغة النبي صلى الله عليه وسلم ويعجب، ولكن لا يترك له النبي صلى الله عليه وسلم الفرصة لينال منه هذا العجب، بل يسارع فيقول: [[ أعطيت جوامع الكلم]] [1]، سادًا الطريق على كل من أراد المرور بغير تأمل ولا تدبر على درر حديث النبي صلى الله عليه وسلم, فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: [[ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل رجب, قال: اللهم بارك لنا في رجب وشعبان, وبلغنا رمضان]] [2].
ويقف المتأمل تأخذه التساؤلات بعيدًا: لماذا قال صلى الله عليه وسلم: بارك لنا في رجب وشعبان ولكنه لما تكلم عن رمضان طلب مجرد بلوغه؟؟؟
المستمع للحديث يقفز إلى عقله للوهلة الأولى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى اعتبارًا خاصًا وخصوصية لكل من رجب وشعبان، وفي المقابل اعتبر مجرد بلوغ رمضان على قيد الحياة مبررًا لتحصيل الفوز به والفلاح، وإلا فلم يطلب مجرد البلوغ إن لم يكن مقصوده كذلك، وفيه ملمحان:
الأول: أن رجب وشعبان فيهما من العمل والاستعداد بالصيام والقرآن والقيام والذكر وغيرها من أبواب الخير، ما يليق أن يكثر معه الدعاء بطلب البركة.
الثاني: أن بلوغ رمضان نعمة عظيمة يمنُّ الله تعالى بها على من يشاء من عباد، هو أن من أحسن الاستعداد في رجب وشعبان؛ كان مجرد بلوغه لرمضان داعيًا إلى اليقين أنه سينال ولا بد من الفوز بهذا الشهر الكريم وأجره، وفي ذلك إشارة موحية ولا شك بمدلولها.
فيا لبشرى المدركين لشهر الغفران.
ويا لبشرى المدركين لشهر الرحمات.
ويا لبشرى المدركين لشهر القرآن.
ويا لبشرى المدركين لموسم الطاعات.
ويا لبشرى المدركين لأيام كساها رب العباد تعالى مهابةً وبهاءً وجمالًا.
كان الصالحون يدعون الله ليبلغهم أيام شهر رمضان، فعن معلى بن الفضل رحمه الله قال: كانوا يدعون الله ستة أشهر أن يبلغهم رمضان! ثم يدعون الله ستة أشهر أن يتقبل منهم.
وقال يحيى بن أبي كثير رحمه الله: كان من دعائهم: اللهم سلمني إلى رمضان، وسلم لي رمضان، وتسلمه مني متقبلًا.
وأنت فادع كدعائهم وافرح كفرحتهم، عسى الله أن يشملك بنفحات رمضان فيغفر الله لك ذنبك، وتخرج من رمضان وقد أعتقت من النار، أما خطر ببالك يومًا فضل من أدرك رمضان؟! أما تفكرت يومًا في عظم ثواب من قدر الله له إدراك هذا الشهر المبارك؟!
ولتكتمل فرحتك إن كنت من المدركين أتركك مع هذه القصة ..
عن أبي هريرة [رضي الله عنه] قال: كان رجلان من بلي من قضاعة أسلما مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتوفى أحدهما وتأخر الآخر سنة، فقال طلحة بن عبيد الله : فرأيت المؤخر منهما أُدخل الجنة قبل الشهيد، فتعجبت لذلك!
فأصبحت فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : [[ أليس قد صام بعده رمضان ؟! وصلى ستة آلاف ركعة؟! وكذا وكذا ركعة صلاة سنة ؟! ]][3].
فاللهم بارك لنا في شعبان وبلغنا رمضان
وإلى لقاء قريب لكم مني خالص التحية، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته