2/2- المنجيات:
القصد في الفقر والغنى وخشية الله في السر والعلانية
تحدثنا في الحلقة الماضية عن أولى المنجيات: العدل في الغضب والرضا, وفي هذه نواصل الحديث مستعينين بالله عن: القصد في الفقر والغنى, وخشية الله في السر والعلانية :
• القصد في الفقر والغنى
القصد يعني: استقامة الطريق والاعتدال،و يعني التوسط بين آفتين عظيمتين هما التقتير والتبذير.
من طبيعة البشر. الإسراف والتقتير .الغني يتصف أحياننا بالإسراف فيبالغ في النفقة إذا وُسِّع عليه في الرزق. والفقير يخشى الفقر فيقتر على نفسه حرصا على المال وربما زيد في رزقه وبقى على تقتيره, وقد أتت الشريعة الإسلامية بكل ما يصلح العبد ويضمن له السعادة في الدارين, فلا يكون ممسكًا بخيلاً على نفسه وأهله مانعًا الإحسان عمَّن يحتاج إليه، ولا يكون مبذرًا مسرفًا مضيعًا ما أنعم الله به عليه من نعمة المال في غير حقه، قال تعالى: (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوماً محسوراً) الإسراء:(29).
قال ابن كثير ـ رحمه الله ـ في تفسيره: وقوله ( ولا تبسطها كل البسط ) أي: ولا تسرف في الإنفاق فتعطي فوق طاقتك، وتخرج أكثر من دخلك، فتقعد ملومًا محسورًا. وهذا من باب اللف والنشر أي: فتقعد إن بخلت ملومًا، يلومك الناس ويذمونك ويستغنون عنك كما قال زهير بن أبي سلمى في المعلقة:
ومن كان ذا مال ويبخل بماله على قومه يُستغن عنه ويذمم
ومتى بسطت يدك فوق طاقتك، قعدت بلا شيء تنفقه، فتكون كالحسير، وهو: الدابة التي قد عجزت عن السير، فوقفت ضعفًا وعجزًا فإنها تسمى الحسير"
قال أبو بكر رضي الله عنه: إني لأبغض أهل بيتٍ ينفقون رزق أيام في يوم واحد".
رأى أبو الدرداء حَبًّا منثورًا في غرفة له، فالتقطه وقال: "إن من فقه الرجل رفقه بمعيشته"
وقد أتى قومٌ – عليهم الدية ـ قيس بن عباية ,وهو من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم – يسألونه أن يعينهم، فوجدوه في بستان له يتتبع ما يسقط من الثمار فيعزل الجيد والردئ ، حتى إذا فرغ كلموه في حاجتهم، فبذل لهم ما أرادوا، فقال بعضهم: صنيعك هذا ( يقصدون الصدقة ) منافٍ لترقيع عيشك. فقال: "بما رأيتم من فعلي أمكنني أن أقضي حاجتكم".وقيل: "من ربَّى ولده على الاقتصاد أفاده أكثر ممن يخلف له ثروة وفيرة .
إن القصد المنافي للإسراف يجعل العبد مقتصدا في حالتي الفقر والغنى يعطي الحقوق لأصحابها و ينفق فيما يرضي الله , ولا يكون ذلك سببا في تقصيره في الإنفاق على أولاده وأهله, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "دينار أنفقته في سبيل الله، ودينار أنفقته في رقبة، ودينار تصدقت به على مسكين، ودينار أنفقته على أهلك، أعظمها أجراً الذي أنفقته على أهلك :
أنفق بقدر ما استفدت ولا تسرف وعش فيه عيش مقتصد
من كان فيما استفاد مقتصدًا لم يفتقـر بعـدها إلى أحد
• خشية الله في السر والعلانية
الجمع بين السر والعلانية له حكمة بالغة فإن البعض قد يُظهر خشية الله في العلانية رياء أو خوفا ، أو يفعل ذلك حتى ينال مدح الناس وثناءهم فإذا ما خلى سارع في ارتكاب الموبقات والتورط في الذنوب والمعاصي في أوقات الخلوات.
قال تعالى: ( يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون مالا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطا) سورة النساء:(108) ، وقال سبحانه:( أولا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون ) سورة البقرة:(77) .و قال تعالى: (إن الله كان عليكم رقيبا )سورة النساء: (1).
وفي الحديث: قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: " لأعلمن أقواماً من أمتي يأتون يوم القيامة بحسنات أمثال جبال تهامة بيضاء فيجعلها الله هباءً منثوراً "، قيل: يا رسول الله صفهم لنا ، جلهم لنا، أن لا نكون منهم ونحن لا نعلم؟ قال: " أما إنهم إخوانكم ومن جلدتكم ويأخذون من الليل كما تأخذون ولكنهم قوم إذا خلو بمحارم الله انتهكوها ".
قال قتادة ـ رحمه الله ـ: " ابن آدم، والله إن عليك لشهوداً غير متهمة في بدنك، فراقبهم، واتق الله في سرك وعلانيتك، فإنه لا يخفى عليه خافية، الظلمة عنده ضوء، والسر عنده علانية، فمن استطاع أن يموت وهو بالله حسن الظن فليفعل، ولا قوة إلا بالله "
وقال أبو الدرداء : ليتق أحدكم أن تلعنه قلوب المؤمنين وهو لا يشعر يخلو بمعاصي الله فيلقى الله له البغض في قلوب المؤمنين .وقال سليمان التيمي : إن الرجل ليصيب الذنب في السر فيصبح وعليه مذلته .
ومهما يكن عند امرئ من خليقة .......... وإن خالها تَخفى على الناس تُعْلَم
سُئل الفضيل بن عياض ـ رحمه الله ـ عن قوله تعالى : ( ليبلوكم أيكم أحسن عملا) فقال : هو أخلص العمل وأصوبه . قالوا : يا أبا علي ما أخلصه وأصوبه ؟ قال : إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل ، وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل حتى يكون خالصا وصوابا ، فالخالص أن يكون لله ، والصواب أن يكون على السنة"
ومن أعجب ما روي عن أبي جعفر السائح قال: ( كان حبيب أبو محمد تاجراً يكري الدراهم، فمر ذات يوم بصبيان فإذا هم يلعبون، فقال بعضهم لبعض: قد جاء آكل الربا. فنكس رأسه، وقال: يا رب، أفشيت سري إلى الصبيان. فرجع فجمع ماله كله، وقال: يا رب، إني أسير، وإني قد اشتريت نفسي منك بهذا المال فاعتقني، فلما أصبح تصدق بالمال كله، وأخذ في العبادة، ثم مرّ ذات يوم بأولئك الصبيان، فلما رأوه قال بعضهم لبعض: اسكتوا فقد جاء حبيب العابد. فبكى، وقال: يا رب، أنت تذم مرة وتحمد مرة، وكله من عندك )ذكر إبراهيم بن الجنيد : أن رجلا راود امرأة عن نفسها فقالت له أنت قد سمعت القرآن والحديث فأنت أعلم قال فأغلقي الأبواب فأغلقتها فلما دنا منها قالت بقي باب لم أغلقه قال أي باب قالت الباب الذي بينك وبين الله فلم يتعرض لها ـ روضة المحبين(395).
وكان الإمام أحمد كثيراً ما ينشد قول الشاعر:
إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقـل خلــوت ولكن قل علي رقيب
ولا تحسبن الله يغفـــل ساعة ولا أن مـا يخفـى علـيه يغيب
وجاء إليه ـ رحمه الله ـ شخص و قال له ما رأيك في الشعر ؟ قال الإمام وأي شعر هذا؟ قال الرجل :
إذا ما قال لي ربي أما استحييت تعصيني وتخفي الذنب عن خلقي وبالعصيان تأتيني
فأخذ الإمام يردد الأبيات ويبكي حتى قال تلامذته: كاد يهلك الإمام من كثرة البكاء.
ولئن كان إخفاء العمل الصالح مستحبا كما جاء في الحديث الشريف :( من سمّع سمع الله به، ومن يرائي يرائي الله به), فإنه قد يستحب إظهاره ممن يُقتدى به. قال ابن عبد السلام : يستثنى من استحباب إخفاء العمل من يظهره ليقتدى به أو لينتفع به ككتابة العلم، قال الطبري كان ابن عمر وابن مسعود وجماعة من السلف يتهجدون في مساجدهم ويتظاهرون بمحاسن أعمالهم ليقتدى بهم , وعلى ذلك جرى عمل السلف. ولا يزال العبد يجتهد في المراقبة حتى يعبد الله كأنه يراه،وهو الإحسان، قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ "الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك" وهذا من أعلى مقامات الدين وكمال الإيمان وبه ينال العبد ما أعده الله من أجر عظيم لمن راقبه وخشيه في السر والعلانية.قال جلّ شأنه:( إن الذين يخشون ربهم بالغيب لهم مغفرة وأجر كبير) سورة الملك:(12) ، و قال:( ولمن خاف مقام ربه جنتان ) سورة الرحمن :(46)وقال:)وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد ، هذا ما توعدون لكل أوّب حفيظ ، من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب سليم، ادخلوها بسلام ذلك يوم الخلود ، لهم ما يشاءون فيها ولدينا مزيد) سورة ق:(31-35)وقد بين النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: "رجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه" وقد كان من دعائه ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "أسألك خشيتك في الغيب والشهادة"
إذا السر والإعلان في المؤمن استوى فقد عزّ في الدارين واستوجب الثنا
فإن خالف الإعلان سراً فما له على سعيه فضل سوى الكدّ والعنا
اللهم إنا نسألك, خشيتك في السر والعلانية والقصد في الفقر والغنى, وأن تجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم ولا تجعلنا ممن ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا .وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين. كتبه عبد الهادي بن عبد الوهاب المنصوري
جدة19/3/1431هـ
03-05-2010, 07:24 AM
2/2- المنجيات:
العرض العادي
