لا تخسر: ـ
حديثنا اليوم حول قول الله تعالى: ( أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار له فيها من كل الثمرات وأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون) سورة البقرة (266) ، هذه الآية تضرب مثلا لإنسان عمل حسنات ثم يفاجأ يوم القيامة بأن هذه الحسنات قد خسرها ولم يبق منها شيئ . قال عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ يوماً لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : فيمن ترون هذه الآية نزلت قالوا : الله أعلم . فغضب عمر فقال : قولوا : نعلم أو لا نعلم . فقال ابن عباس : في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين. فقال عمر يا ابن أخي ، قل ولا تحقر نفسك . فقال ابن عباس : ضربت مثلا لعمل . قال عمر: أيُّ عملٍ ؟ قال ابن عباس: لعمل . قال عمر: لرجل غني يعمل بطاعة الله . ثم بعث الله له الشيطان فعمِل بالمعاصي " وقال مـجاهد " كمثل الـمفرّط فـي طاعة الله حتـى يـموت ، قال يقول : أيودّ أحدكم أن يكون له دنـيا لا يعمل فـيها بطاعة الله ، كمثل هذا الذي له جنات تـجري من تـحتها الأنهار ، له فـيها من كل الثمرات ، وأصابه الكبر ، وله ذرية ضعفـاء ، فأصابها إعصار فـيه نار فـاحترقت ، فمثله بعد موته كمثل هذا حين أحرقت جنته وهو كبـير ، لا يغنـي عنها شيئا ، وولده صغار لا يغنون عنها شيئا ، وكذلك الـمفرّط بعد الـموت كل شيء علـيه حسرة .
فما هي الأعمال التي تكون سببا في خسارة الحسنات ؟ روى أبو هريرة رضي الله عنه عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال : أتدرون من المفلس ؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع ، فقال صلى الله عليه وسلم: إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة ، ويأتي وقد شتم هذا وسب هذا ، وقذف هذا ، وأكل مال هذا ، وسفك دم هذا ، وضرب هذا ، فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار ـ الصيام والقيام والصدقات وأعمال البر المتنوعة تذهب للذين شتمهم وسبهم وقذفهم وسفك دمائهم واكل حقوقهم ـ قال تعالى ) ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين ( سورة الأنبياء ( 47) و قال تعالى: ( يوم يفر المرء من أخيه* وأمه وأبيه* وصاحبته وبنيه *لكل إ مريء منهم يومئذ شأن يغنيه ) سورة عبسى (34ـ37) .
قال عكرمة:" يلقى الرجل زوجته فيقول لها: يا هذه ، أيّ بعل كنتُ لك ؟ فتقول : نعم البعل كنتَ ! وتثنى بخير ما استطاعت ، فيقول لها : فإني أطلبُ إليك اليومَ حسنًة واحدًة تهبينها لي لعلي أنجو مما ترين . فتقول له : ما أيسر ما طلبتَ، ولكني لا أطيق أن أعطيك شيئا أتخوف مثل الذي تخاف . قال : وإن الرجل ليلقي ابنه فيتعلق به فيقول : يا بني ، أيّ والد كنتُ لك ؟ فيثني بخير . فيقولُ له : يا بني، إني احتجت إلى مثقال ذرة من حسناتك لعلي أنجو بها مما ترى. فيقول ولده : يا أبت ، ما أيسر ما طلبت ، ولكني أتخوف مثل الذي تتخوف ، فلا أستطيع أن أعطيك شيئا "
قال أبو حامد الغزالي ـ رحمه الله ـ " فانظر إلى مصيبتك في مثل هذا اليوم إذ ليس يسلم لك حسنة من آفات الرياء ومكايد الشيطان ، فإن سلمت حسنة واحدة في مدة طويلة ابتدرها خصماؤك وأخذوها ، ولعلك لو حاسبت نفسك وأنت مواظب على صيام النهار وقيام الليل ، لعلمت أنه لا ينقضي عنك يوم إلا ويجري على لسانك من غيبة المسلمين ما يستوفي جميع حسناتك فكيف ببقية السيئات من أكل الحرام والشبهات والتقصير في الطاعات؟ وكيف ترجو الخلاص من المظالم في يوم يقتص فيه للجماء من القرناء ؟ فقد روى أبو ذرّ : أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلّم ـ رأى شاتين ينتطحان فقال : « يا أبا ذر أتري فيم ينتطحانيا ؟ " قلت: لا أدري قال: « ولكن الله يدري وسيقضي بينهما يوم القيامة » . وقال ـ رحمه الله ـ فكنت أنت يا مسكين في يوم ترى صحيفتك خالية عن حسنات طال فيها تعبك فتقول: أين حسناتي؟ فيقال: نقلت إلى صحيفة خصمائك. وترى صحيفتك مشحونة بسيئات طال في الصبر عنها نصبك واشتدّ بسبب الكف عنها عناؤك فتقول: يا رب هذه سيئات ما قارفتها قط فيقال هذه سيئات القوم الذين اغتبتهم وشتمتهم وقصدتهم بالسوء وظلمتهم في المبايعة والمجاورة والمخاطبة والمناظرة والمذاكرة والمدارسة وسائر أصناف المعاملة" قال عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ " إن الشيطان قد يئس أن تعبد الأصنام في أرض العرب ولكنه سيرضى منكم بدون ذلك بالمحقرات وهي الموبقات يوم القيامة اتقوا الظلم ما استطعتم فإن العبد يجيء بالحسنات يوم القيامة يرى أنها ستنجيه فما زال عبد يقول يا رب ظلمني عبدك مظلمة فيقول امحوا من حسناته وما يزال كذلك حتى ما يبقى له حسنة من الذنوب وإن مثل ذلك كسفر نزلوا بفلاة من الأرض ليس معهم حطب فتفرق القوم ليحتطبوا فلم يلبثوا أن حطبوا فأعظموا النار وطبخوا ما أرادوا وكذلك الذنوب" ولما نزل قوله تعالى: (إنك ميت وإنهم ميتون ثم إنكم عند ربكم يوم القيامة تختصمون ) قال الزبـير : يا رسول الله أيكرّر علينا ما كان بـيننا في الدنيا مع خواص الذنوب قال « نعم ليكررن عليكم حتى تؤدوا إلى كل ذي حق حقه » . قال الزبـير : والله إن الأمر لشديد . فأعظم بشدّة يوم لا يسامح فيه بخطوة ولا يتجاوز فيه عن لطمة ولا عن كلمة حتى ينتقم للمظلوم من الظالم " .
ونختم بذكر بعض الأعمال التي تثقل الميزان وترفع الدرجات ليكون الخوف مقرونا بالرجاء: قال الله تعالى: (إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤتي من لدنه أجرا عظيما ) سورة النساء (40) ، و قال تعالى ( من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى ألا مثلها وهم لا يظلمون) سورة الأنعام (160) ، قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيما يروي عن ربه " إن ربكم ـ عز وجل ـ رحيم ، من هَمَّ بحسنة فلم يعملها كُتبت له حسنة ، فإن عملها كتبت له عشرا إلى سبعمائة ، إلى أضعاف كثيرة . ومن هم بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنة ، فإن عملها كتبت له واحدة ، أو يمحوها الله، عَزَّ وجل ، ولا يهلك على الله إلا هالك "و قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ الطهور شطر الإيمان والحمد لله تملأ الميزان وسبحان الله والحمد لله تملآن ما بين السماء والأرض والصلاة نور والصدقة برهان والصبر ضياء والقرآن حجة لك أو عليك كل الناس يغدوا فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها وقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ. كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم ) وقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ ( ما من شيء يوضع في الميزان أثقل من حسن الخلق وإن صاحب حسن الخلق ليبلغ به درجة صاحب الصوم والصلاة ) . عن أم المؤمنين عائشة ـ رضى الله عنها ـ أن رجلا قعد بين يدي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال يا رسول الله إن لي مملوكين يكذبونني ويخونونني ويعصونني وأشتمهم وأضربهم فكيف أنا منهم قال بحسب ما خانوك وعصوك وكذبوك وعقابك إياهم فإن كان عقابك إياهم بقدر ذنوبهم كان كفافا لا لك ولا عليك وإن كان عقابك إياهم دون ذنوبهم كان فضلا لك وإن كان عقابك إياهم فوق ذنوبهم أقتص لهم منك الفضل قال فتنحى الرجل فجعل يبكي ويهتف فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أما تقرأ كتاب الله ( ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين ) سورة الأنبياء (47) .فقال الرجل والله يا رسول الله ما أجد لي ولهؤلاء شيئا خيرا من مفارقتهم أشهدكم أنهم أحرار كلهم . , وعن أبي سلمى رضي الله عنه راعي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول " بخ بخ وأشار بيده لخمس ما أثقلهن في الميزان سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر والولد الصالح يتوفى للمرء المسلم فيحتسبه "
وأخيراً أوصي نفسي وكل مؤمن ومؤمنه بتدارك ما بقي من الأعمار قبل فوات الأوان , وذلك بالإكثار من فعل الخيرات وترك المنكرات , والالتزام الصادق بشروط التوبة التي ذكرها العلماء ، سائلين الله العون والثبات على ما يرضيه إنه ولي ذلك والقادر عليه وصلى الله على سيدنا محمد و آله وصحبه أجمعين .
جمعه وكتبه الراجي مغفرة ربه
عبدالهادي بن عبدالوهاب المنصوري
جدة28/6/1431هـ