الأسهم المختلطة في ميزان الشريعة
ملخص بحث
الأسهم المختلطة في ميزان الشريعة
الدكتور: صالح بن مقبل العصيمي
الفصل الأول
المال وخطورته
التحذير من فتنة المال:
حذَّر النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - من فتنة المال والإقبال على الدنيا؛ فممَّا قاله في ذلك - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((فوالله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تُبسَط عليكم الدنيا كما بُسِطت على مَن كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتلهيكم كما ألهتهم))[1].
التحذير من الكسب الحرام:
حذَّر النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أشدَّ التحذير من كسب الحرام، وبيَّن سوء عاقبته، وشبَّه المتهافتين على الحرام بالأنعام؛ وممَّا قاله - صلَّى الله عليه وسلَّم - في ذلك: ((وإن هذا المال خضرة حلوة، فنعم صاحب المسلم ما أعطى منه المسكين واليتيم وابن السبيل))، أو كما قال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم – ((وإنه مَن يأخذه بغير حقِّه كالذي يأكل ولا يشبع، ويكون شهيدًا عليه يوم القيامة))[2].
ويقول الحافظ ابن حجر عن آكل المال الحرام: "فهذا هو المتخوِّض في مال الله فيما شاءت نفسه، وليس له إلا النار يوم القيامة".
تحريم الربا:
الربا محرَّم شرعًا وقد تواترت الأدلة من الكتاب والسنَّة على تحريمه؛ فمن الكتاب قوله - تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [آل عمران: 130- 131]، وهنا إنذار خطير وتحذير شديد من أكل الربا، فتوعَّد - سبحانه - فاعله بالنار التي أعدَّها للكافرين.
أمَّا الأدلة من السنَّة على تحريم الربا فكثيرة، منها: "لعن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - آكل الربا ومؤكله"[3].
وممَّا يؤكِّد على جرم التعامل بالربا: أن الوعيد الذي هدَّد به المولى المتعاملين بالربا لم يُستَخدم لأي جريمة أو معصية أخرى حتى الكبائر؛ ولهذا يقول الإمام ابن حزم: "الربا من أكبر الكبائر"، وقال مالك: "لم أرَ شرًّا من الربا".
الله طيب لا يقبل إلا طيبًا:
أمر النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - بتحرِّي الحلال ونهى عن أكل الحرم؛ فقال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أيها الناس، إن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا...))، ثم ذكر الرجل يطيل السفر، أشعث أغبر، يمدُّ يديه إلى السماء: يا رب، يا رب، ومطعمة حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنَّى يُستَجاب لذلك؟![4].
فالذين يكسبون المال الحرام ثم ينفقون جزءًا منه في أوجه الخير لا نصيب لهم من الثواب والأجر، بل إن إرادة الخير بالشر حرام أيضًا، إلا إذا كانت توبة.
الأمر بالورع واجتناب الشبهات:
قال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((الحلال بيِّن والحرام بيِّن، وبينهما أمور مشتبهة، فمَن ترك ما شبه عليه من الإثم كان لما استبان أترك، ومَن اجترأ على ما يشكُّ فيه من الإثم أوشك أن يواقع ما استبان، والمعاصي حمى الله، مَن يرتع حول الحمى يُوشِك أن يواقعه))[5].
وقال عمر - رضي الله عنه -: "دعوا الربا والريبة"[6]؛ ومعناه: ما ارتبتم فيه ولم تتحققوا أنه ربا، وقال ابن مسعود - رضي الله عنه -: "ما تريد إلى ما يريبك وحولك أربعة آلاف لا تريبك"[7].
وفي هذا تنبيه إلى الابتعاد عن المحرَّمات وما يشتبه في حرمته، فالمباح كثير، فلمَ نفعل الحرام؟!
الأرزاق مقسومة:
ممَّا لا جدال فيه أن الأرزاق والأقدار مقسومة ومقدَّرة ولا مجال لتغييرها ولا تبديلها، فلمَ يتورَّط المسلم في أكل الحرام؟! قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمِّه أربعين يومًا، ثم يكون في ذلك علقة مثل ذلك، ثم يكون في ذلك مضغة مثل ذلك، ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح، ويُؤمَر بأربع كلمات: بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد))[8]، ويقول الله - سبحانه وتعالى -: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} [الذاريات: 22- 23].
التحذير من هوى النفس:
وقد حذر النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - من اتِّباع الهوى وشدَّد على أن يكون هوى المسلم موافقًا لما جاء به النبي؛ فقال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به))[9].
أهمية معرفة الأحكام الشرعية قبل دخول السوق:
على المسلم أن يكون على معرفة تامَّة بالأحكام الشرعية قبل دخول السوق؛ لكي يعرف الحلال فيفعله والحرام فيتجنبه؛ ولذا قال عمر بن الخطاب - رضِي الله عنه -: "لا يبع في سوقنا إلا مَن قد تفقَّه في الدين"[10].
الفصل الثاني
تعريف السهم
السهم لغة: هو النصيب، والنصيب هو أن يفوز كلٌّ منهما بما يصيبه.
السهم اصطلاحًا: هو حصة مشاعة من صافي موجودات الشركة.
تعريف الأسهم المختلطة:
هي أسهم الشركات ذات الأعمال المشروعة في الأصل، إلاَّ أنها تتعامل أحيانًا بالحرام؛ كالتعامل بالفوائد الربوية وغيرها.
والشركات المساهمة من حيث إنشاؤها تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
أولاً: شركات ذات أعمال مباحة ولا تتعامل بالحرام، ولا تستثمر في محرم وهذه الأصل فيها الجواز.
ثانيًا:شركات ذات أعمال محرَّمة؛ كالبنوك الربوية وصناعة الخمور، وهذه الأصل فيها التحريم.
ثالثًا: شركات أُنشِئت من أجل التعامل في الأنشطة المباحة إلاَّ أنها تتعامَل بالحرام أحيانًا؛ كالتعامل بالفوائد الربوية وغيرها، وهذه يدور حولها الخلاف.
حكم المساهمة في الشركات المختلطة:
هناك قولان لأهل العلم في تلك النقطة:
1- حرمة هذه المساهمة جملةً وتفصيلاً، وهو قول أغلب العلماء.
2- جواز المساهمة مع حرمة الأموال المحرمة وعدم جواز الاستفادة منها.
القول الأول: القول بالتحريم:
تحريم المساهمة في الشركات المختلطة هو قول عدد من العلماء، هم:
1- اللجنة الدائمة بالمملكة العربية السعودية برئاسة العلامة الشيخ عبدالعزيز بن باز - رحمه الله - فقد ورد سؤال عن "حكم المساهمة في شركات تعمل بأنشطة مباحة، ولكنها تضع فوائض أموالها في بنوك، وتأخذ عليها فائدة تدخلها على الأرباح"، فأجابوا قائلين: "وضع الأموال في بنوك بربحٍ حرام، والشركات التي تضع فائض أموالها في البنوك بربح لا يجوز الاشتراك فيها لِمَن علم ذلك"[12].
2- المجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإسلامي، وكان من قرار المجلس ما يلي[13]:
- لا يجوز لمسلم شراء أسهم الشركات والمصارف إذا كان في بعض معاملاتها ربا، وكان المشتري عالمًا بذلك.
- إذا اشترى شخص وهو لا يعلم أن الشركة تتعامل بالربا ثم علم، فالواجب عليه الخروج منها.
3- المجمع الفقهي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي؛ حيث أصدر قراره أن الأصل هو حرمة الإسهام في شركات تتعامل أحيانًا بالمحرمات كالربا ونحوه.
4- وممَّن قال بالتحريم أيضًا أعضاء اللقاء العلمي المشترك بين المجمع الفقهي الإسلامي، والمعهد الإسلامي للبحوث والتدريب التابع للبنك الإسلامي للتنمية، ولكن يقترحون استثناء ما يلي[14]:
- الإسهام في حالة القدرة على إخراج الشركة من التعامل بالحرام عند انعقاد الجمعية العمومية الأولى وإلا فليخرج.
- الإسهام في الشركات التي تنتج الضروريات أو تقدم خدمات أساسية في الدول الإسلامية، إذا كانت الشركة لا تقترض بفائدة إلا مضطرة، وذلك في حالة عدم وجود شركات خالية من الشوائب.
5- وكذلك الباحث الاقتصادي الدكتور على السالوس؛ حيث أكَّد أن الكثير والقليل من الربا حرام، واستمرار أخْذ الربا والتخلُّص منه يعارض نص كتاب الله[15].
6- وممَّن قال بالتحريم أيضًا الدكتور درويش جستنيه؛ حيث أكَّد أن الاحتجاج بقاعدة (يجوز تبعًا ما لا يجوز استقلالاً)، وردت في شيء نصَّ على حلِّه في حال وتحريمه في حال، أمَّا الربا فلم يُستَثنَ شيء منه، بل هو محرم على الإطلاق، ويؤكِّد أنه يجب تطهير الشركات والبنوك الإسلامية من أي فوائد ربوية قليلة أو كثيرة[16].
7- قال بالتحريم أيضًا الدكتور صالح المرزوقي، والشيخ على الشيباني، والشيخ عبدالله بن بيه، والدكتور أحمد الحجي الخبير في الموسوعة الفقهية بوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت، والدكتور عجيل النشمي، والهيئة الشرعية لبنك دبي الإسلامي، والهيئة الشرعية للبنك الإسلامي بالسودان، والدكتور عبدالله السعيدي، والدكتور أحمد الخليل، والدكتور يوسف الشبيلي، وهيئة الفتوى في بيت التمويل الكويتي.
أدلة مَن يرون حرمة الأسهم المختلطة:
1- قول الله - تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 130].
2- قول الله - تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة: 278].
3- في الحديث أنه "لعن الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - آكِل الربا، ومؤكله، وكاتبه، وشاهديه"، وقال: ((وهم سواء))[17].
والشاهد في ذلك أن الربا حرام كثيره وقليله، والشركة مبنيَّة على الوكالة، فالمساهم إمَّا أن يعمل بنفسه أو يوكل شريكه، فهو مرابٍ، أو موكل المرابي.
4- قول النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمرٍ فأتوا منه ما استطعتم))[18]، وهذا أمرٌ باجتناب كلِّ محرَّم، فكيف إذا كان من أكبر الكبائر؟! فلا شك في وجوب البعد عنه.
5- درء المفاسد مقدَّم على جلب المصالح، فلو كان في الشركة مصلحة فنحن ندعها خوفًا من وجود مفسدة.
6- النظر إلى المصالح المترتِّبة على القول بالتحريم؛ ومنها التخلُّص من مفاسد الربا، وإجبار الشركة على تجنب الربا، براءة ذمم الناس وتطييب أموالهم، ارتفاع أسهم الشركات التي تخشى الله.
7- إن قيام الشخص بالعمل هو نفس قيام الشريك بالعمل، ولا فرق بينهما.
8- الشركة كالوكالة، والوكالة لا تجوز على محرم.
9- المال قد يؤول إلى ورثة لا يهتمُّون بإخراج المعاملات الربوية بحجَّة أن لهم الغنم وعليه الغرم.
10- وضع المساهم من الناحية الشرعية كوضعه متفردًا؛ فكل ما يحرم القيام به متفردًا يحرم القيام به كشريك.
11- التحريم هنا من باب تحريم المقاصد؛ لأنه ممارسة للربا في شكل بيوع فاسدة، وتحريم الوسائل لأنها تعاون على الإثم.
القول الثاني: جواز المساهمة:
ذهب بعض العلماء إلى جواز الأسهم المختلطة، ولكن بشروط، من أهمها:
1- ألا ينص نظام الشركة على التعامل بالربا.
2- أن يجتهد المساهم في معرفة الجزء الحرام والتخلُّص منه، ولا يجوز الانتفاع به بأي حال.
3- البعض اشترط نسبًا معينة لا يزيد عنها نسبة الحرام في الشركة.
4- لا يعني الجواز أن الربا اليسير حلال، ولا يعني أيضًا إقرار الشركات على معاملاتها الربوية.
وممَّن يرى الجواز غالب أعضاء الهيئة الشرعية في شركة الراجحي المصرفية، ومنهم الشيخ ابن منيع، والدكتور القرة داغي، وغيرهم.
أدلة من يرون جواز المساهمة:
الدليل الأول: أن من مقاصد الشريعة الإسلامية: رفع الحرج، ودفع المشقَّة، وتحقيق اليسر والمصالح للأمة؛ فقال الله - تعالى -: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]، وبناءً على هذا أُبِيحت المحظورات للضرورة.
والرد على هذا الدليل يكون كالتالي:
1- أن بعض العلماء لا يرون قيام الحاجة مقام الضرورة[19]، وقد يُفهَم من الحاجة أنها:
- الحاجة إلى الشركات الخدمية فيجوز المساهمة فيها.
- حاجة الشركات للاقتراض من أجل تمويل مشروعاتها قد زالتْ؛ بسبب وجود مصارف إسلامية تمول من خلال المرابحة الشرعية.
- الحاجة لحفظ أموال الناس، فهناك الكثير من المجالات غير محرمة.
فعلى مَن يقول بالجواز بيان المقصود بالحاجة حتى ينتهي الناس بانتهائها.
2- ليس هناك حرَج طالما أن هناك وسائل اسثمار غير محرمة ميسرة.
3- فتح باب العمل بهذه القاعدة دون ضوابط من شأنه التهاون بما حرَّم الله؛ بحجَّة الضرورة والتيسير؛ ممَّا يؤدِّي إلى مفاسد.
4- أن استثمار الأموال من المباحات لا الضرورات.
5- أنهم وقعوا في تناقض حينما جعلوا أعضاء مجالس الإدارة يستحقُّون اللعنة، واستثنوا من ذلك أصحاب الأموال، مع أن حجتهم واحدة.
الدليل الثاني: استدلوا بقاعدة: (يجوز تبعًا ما لا يجوز استقلالاً)؛ حيث يمكن اعتبار المساهمة في شركة ذات أغراض مباحة تتعامل بالربا من جزئيات هذه القاعدة.
والرد عليه: أن الربا لا يباح مطلقًا، والقاعدة تطبق على ما يُباح في موضع ويحرم في آخر، كما أن عقد الربا الذي تعقده الشركة هو عقد مستقل وليس تابعًا.
الدليل الثالث: وجود نسبة من الحرام في المال الحلال لا يجعله حرامًا، وإنما يجب نبذ المحرم فقط، وهذا قول أكثر العلماء.
والرد عليه من وجوه:
الوجه الأول: القاعدة تطبق إن وقع الاختلاط عن غير قصد؛ كمَن اشترى سلعة مثلاً فاختلط فيها الحلال والحرام، أمَّا أن يشتري سهمًا ليصبح شريكًا في الشركة فلا تطبق عليه القاعدة.
الوجه الثاني: أن هناك فرقًا بين المساهم في الشركة وبين مَن أراد التوبة فأخرج الحرام ليطيب له الحلال، وهذا ما يُفهَم من أقوال العلماء.
الدليل الرابع: استدلوا بقاعدة: "ما لا يجوز التحرُّز منه فهو عفو"، ويقول الشيخ عبدالله بن منيع: "الحاجة العامة لتداول هذه الأسهم قائمة وملحَّة، وهي تقتضي اغتفار هذا اليسير المحرم في حجم السهم، وعدم تأثيره على جواز تداوله"[20].
والرد عليه:
1- أن القاعدة تكون في المسائل التي يصعب ويشقُّ التحرُّز منها، بينما الممتنعون عن المساهمة لا يجدون مشقة.
2- هناك أوجه استثمار مباحة كثيرة ليس فيها حرام.
3- اليسير المعفوُّ عنه في القاعدة يكون مباحًا، فكيف بهم يوجبون إخراجه؟! وكذلك اليسير المعفو عنه لا يكون عمدًا.