الرازي: الطبيب الإنسان والعالم والموسوعي
الرازي والقراءة
ولد أبو بكر الرازي في الري نحو سنة 250هـ = 864م، وعُرِفَ منذ نعومة أظفاره بحب العلم؛ فاتجه منذ وقت مبكر إلى تعلم الموسيقى والرياضيات والفلسفة، ولكنه حصل خلاف بين الدارسين والباحثين حول دراسته للطب وممارسته له، فتذكر المصادر القديمة كوفيات الأعيان وفوات الوفيات وغيرهما، أنه اتجه إلى ممارسة الطب بعد سن الأربعين، بينما يرى أحد الباحثين المحدثين، وهو ألبير زكي، أن الرازي بدأ اشتغاله بالطب في حداثته.
والمهم أن الرازي كان حريصًا على القراءة، مواظبًا عليها خاصة في المساء، فكان يضع سراجه في مشكاة على حائط يواجهه، وينام في فراشه على ظهره ممسكًا بالكتاب، حتى إذا ما غلبه النعاس وهو يقرأ سقط الكتاب على وجهه فأيقظه ليواصل القراءة من جديد.
ولعل الفقرة المقتطفة من كتاب سيرة الفيلسوف تسلّط الضوء على كثرة مطالعاته، حيث يقول: "حتى إني متى اتفق لي كتاب لم أقرأه أو رجل لم ألقه، لم ألتفت إلى شغل البتة، ولو كان في ذلك عليَّ ضرر عظيم دون أن آتي على الكتاب، أو أعرف ما عند الرجل، وأنه بلغ من صبري واجتهادي أني كتبت بمثل خط التعاويذ في عام واحد أكثر من عشرين ألف ورقة".
بعد إتمام دراساته الطبية في بغداد، عاد الرازي إلى مدينة الريّ بدعوة من حاكمها، منصور بن إسحاق، ليتولى إدارة بيمارستان الري. وقد ألّف الرازي لهذا الحاكم كتابه "المنصوري في الطب"، ثم "الطبّ الروحاني"، وكلاهما متمّم للآخر، وخصّ الأول بأمراض الجسم، والثاني بأمراض النفس. وفيها نال الرازي شهرته، ثم انتقل منها ثانية إلى بغداد ليتولى رئاسة البيمارستان المعتضدي الجديد، الذي أنشأه الخليفة المعتضد بالله (279- 289 م /892- 902 م). ويقول ابن أبي أصيبعة: "والذي صح عندي أن الرازي كان أقدم زماناً من عضد الدولة"، ولم يذكر ابن أبي أصيبعة البيمارستان المعتضدي إطلاقاً في مقاله المطوَّل في الرازي.
وتنقّل الرازي عدة مرات بين الري وبغداد تارة لأسباب سياسية وأخرى ليشغل مناصب مرموقة في كل من هذين البلدين، ولكنه أمضى الشطر الأخير من حياته في مدينة الري، وكان قد أصابه الماء الأزرق في عينيه، ثم فقد بصره وتوفي في مسقط رأسه، وتأرجحت الأقوال في سنة وفاته بين سنة 313هـ /925 م، وسنة 320 هـ/ 932 م.
ممارسته الطب:
مارس الطب لمدة طويلة في المشافي، وينعته ابن جلجل بأنه "طبيب مارستاني". واحتل الرازي مناصب هامة في المشافي التي عمل فيها، فتولى إدارة بيمارستان الري، وعندما قصد بغداد وأقام فيها، أدار أحد مستشفياتها الذي اختلف في اسمه؛ هل هو البيمارستان العضدي أو المقتدري أو الصاعدي أو التوانسي أو المعتضدي، وما إلى ذلك، والمهم أن الرازي قد تولى إدارة هذا المستشفى لفترة طويلة.
ولما كان الرازي عالماً وطبيباً، وقد كان له عدد كبير من المريدين والتلاميذ يجلسون حوله في حلقات متصلة، يصغون إليه بكل شغف وإعجاب.
العالـم الإنسان
وعرف الرازي بذكائه الشديد وذاكرته العجيبة، فكان يحفظ كل ما يقرأ أو يسمع، حتى اشتهر بذلك بين أقرانه وتلاميذه.
ولم يكن الرازي منصرفًا إلى العلم كليةً زاهدًا في الدنيا، كما لم تجعله شهرته متهافتًا عليها مقبلاً على لذاتها، وإنما كان يتسم بقدر كبير من الاعتدال، ويروى أنه قد اشتغل بالصيرفة زمناً قصيراً.
كان الرازي غنياً واسع الثراء، وقد امتلك بعض الجواري وأمهر الطاهيات.وقد اشتهر بالكرم والسخاء، وكان باراً بأصدقائه ومعارفه، عطوفاً على الفقراء والمحتاجين، وخصوصاً المرضى، فكان ينفق عليهم من ماله، ويجري لهم الرواتب والجرايات.
كانت شهرة الرازي نقمةً عليه؛ فقد أثارت عليه غيرة حسّاده، وسخط أعدائه، فاتّهموه في دينه، ورموه بالكفر ووصفوه بالزندقة، ونسبوا إليه آراءً خبيثةً، وأقوالاً سخيفة، ولكنه فنّد في بعض مصنّفاته تلك الدعاوى، وأبطل تلك الأباطيل، ومن كتبه في هذا المجال كتاب في أن للعالم خالقاً حكيماً، وكتاب أن للإنسان خالقاً متقناً حكيماً، وغيرهما من المؤلفات.
كان الرازي مؤمناً باستمرار التقدم في البحوث الطبية، ولا يتم ذلك، على حد قوله، إلا بدراسة كتب الأوائل، فيذكر في كتابه "المنصوري في الطب" ما نصه: "هذه صناعة لا تمكّن الإنسان الواحد إذا لم يحتذ فيها على مثال من تقدمه، أن يلحق فيها كثير شيء ولو أفنى جميع عمره فيها، لأن مقدارها أطول من مقدار عمر الإنسان بكثير. وليست هذه الصناعة فقط، بل جل الصناعات كذلك. وإنما أدرك من أدرك من هذه الصناعة إلى هذه الغاية في ألوف من السنين ألوف من الرجال. فإذا اقتدى المقتدي أثرهم صار أدركهم كلهم له في زمان قصير، وصار كمن عمر تلك السنين وعنى بتلك العنايات. وإن هو لم ينظر في إدراكهم، فكم عساه يمكنه أن يشاهد في عمره. وكم مقدار ما تبلغ تجربته واستخراجه ولو كان أذكى الناس وأشدهم عنايةً بهذا الباب. على أن من لم ينظر في الكتب ولم يفهم صورة العلل في نفسه قبل مشاهدتها، فهو وإن شاهدها مرات كثيرة، أغفلها ومر بها صفحاً ولم يعرفها البتة". ويقول في كتابه " في محنة الطبيب وتعيينه "، نقلاً عن جالينوس: "وليس يمنع من عني في أي زمان كان أن يصير أفضل من أبقراط".
الرازي طبيب العرب الأول
يعدُّ الرازي من الروَّاد الأوائل للطّب، ليس بين العلماء المسلمين فحسب، وإنما في التراث العالمي والإنساني بصفة عامة، ومن أبرز جوانب ريادة الرازي وأستاذيته وتفرده في الكثير من الجوانب أنه:
* يعدّ مبتكر خيوط الجراحة المعروفة بالقصاب.
* أول من صنع مراهم الزئبق.
* قدم شرحاً مفصلاً لأمراض الأطفال والنساء والولادة والأمراض التناسلية وجراحة العيون وأمراضها.
* كان من روّاد البحث التجريبـي في العلوم الطبية، وقد قام بنفسه ببعض التجارب على الحيوانات كالقرود، فكان يعطيها الدواء، ويلاحظ تأثيره فيها، فإذا نجح طبقه على الإنسان.
* عني بتاريخ المريض وتسجيل تطورات المرض؛ حتى يتمكن من ملاحظة الحالة، وتقديم العلاج الصحيح له.
* كان من دعاة العلاج بالدواء المفرد (طب الأعشاب والغذاء)، وعدم اللجوء إلى الدواء المركَّب إلا في الضرورة، وفي ذلك يقول: "مهما قدرت أن تعالج بدواء مفرد، فلا تعالج بدواء مركَّب".
* كان يستفيد من دلالات تحليل الدم والبول والنبض لتشخيص المرض.
* استخدم طرقًا مختلفة في علاج أنواع الأمراض.
* اهتم بالنواحي النفسية للمريض، ورفع معنوياته ومحاولة إزالة مخاوفه من خلال استخدام الأساليب النفسية المعروفة حتى يشفى، فيقول في ذلك: "ينبغي للطبيب أن يوهم المريض أبداً بالصحة ويرجيه بها، وإن كان غير واثق بذلك، فمزاج الجسم تابع لأخلاق النفس".
كما اشتهر الرازي في مجال الطب الإكلينيكي، وكان واسع الأفق في هذا المجال، فقد فرّق بشكل واضح بين الجدري والحصبة، وكان أول من وصف هذين المرضين وصفاً دقيقاً مميزاً بالعلاجات الصحيحة.
قالت عنه المستشرقة الألمانية (زيغريد هونكه) في كتابها "شمس العرب تسطع على الغرب": "في شخصية الرازي تتجسد كل ما امتاز به الطب العربي وما حققه من فتوحات علمية باهرة. فهو الطبيب الذي عرف واجبه حق المعرفة، وقدَّس رسالته كل التقديس، فملأت عليه نفسه وجوانب قلبه، وهو ينقذ المعوزين ويساعد الفقراء. إنه الموسوعي الشمولي الذي استوعب كل معارف سالفيه في الطب وهضمها وقدمها للإنسانية أحسن تقديم، وهو الطبيب العملي الذي يعطي للمراقبة السريرية أهميتها وحقها، وهو البحّاثة الكيميائي المجِّرب الناجح، وهو أخيراً المنهجي في علمه الذي أضفى على الطب في عصره نظاماً رائعاً ووضوحاً يثير الإعجاب".
الرازي والطبّ الروحاني:
في كتابه "السيرة الفلسفية"، دافع الرازي عن سيرته الشخصية وعن أسلوب حياة الفيلسوف، ورسم أسلوباً لحياة الإنسان على أساس أن له بعد الموت حياةً فيها سعادة أو شقاء، فعليه أن لا يتبع الهوى الذي يدعوه إلى إيثار اللذات الحاضرة، بل يتبع العقل ويقتني العلم ويستعمل العدل، وهذا هو، كما يقول الرازي، " ما يريده خالقنا الرحيم الذي منه نرجو الثواب ونخاف العقاب". وخلاصة السيرة الفلسفية، هي أن يكون الإنسان في أفعاله مقتدياً بخالقه، عادلاً رحيماً رؤوفاً. أما عن تفصيل هذه السيرة، فإنه يحيلنا إلى كتاب "الطب الروحاني" الذي اقترح عليه الأمير منصور بن نوح الساماني أمير خراسان أن يكتبه ويسميه بهذا الاسم، "ليكون قريناً لكتاب "المنصوري" الذي غرضه في الطب الجسماني وعديلاً له، لما قدَّر الأمير، في ضمه إليه، من عموم النفع وشموله للنفس والجسد"، وأساس ذلك ما كان يؤمن به الرازي من علاقة وثيقة بين سلامة النفس وسلامة الجسد وتأثير الأحوال النفسية في البدن، كما سنرى في بعض معالجاته النفسية.
وهو يؤسِّس طبَّه النفسي ـ الأخلاقي على ضرورة استعمال العقل الذي فضَّل الله به الإنسان على سائر المخلوقات، وبه توصَّل الإنسان إلى العلوم والصناعات، وهذا يقتضي أن يكون هو الحاكم في تدبر حياة الإنسان والداعي إلى السيطرة على الهوى في متابعته للشهوات والتحكم فيها بالفكر والروية والرياضة، لأن متابعة الشهوات والتفنن في تحصيلها ينـزل بالإنسان إلى مستوى البهائم.
وللرازي رأي في اللذة، وهو أنها ليست شيئاً إيجابياً، بل مجرد راحة من ألم طرأ فكدَّر الحالة الطبيعية، فلا يصح أن يطلب الإنسان من اللذات إلا بمقدار الحاجة، لكي يمارس حياة الفكر والمعرفة.
ويهتم الرازي بضرورة أن يتعرف المرء عيوب نفسه، وهذا لا يسهل عليه، بسبب الهوى ومحبّته لنفسه واستحسانه لما يفعل، فلذلك عليه أن يلجأ إلى مربٍّ مجرّب ويبقى تحت إشرافه ليبصّره بإزالة الصفات الذميمة التي تعرض للنفس.
ثم يدخل في ذكر أنواع هذه الصفات ويحمل حملة شديدة على ما يسميه "العشق" وهو "بلية" عظيمة لما فيه من ذلّة النفس، والخضوع والاستكانة واحتمال التجني والاستطالة. ويضم الرازي إلى "العشق" ما يسميه "الإلف"، وهو ما ينشأ عن طول الصحبة من كراهة مفارقة المحبوب، وهو "بلية" أيضاً، فإذا انضم إلى العشق تعسر النـزوع عنه، والإلف يزداد مع مرور الأيام ولا يحسَّ به الإنسان، حتى إذا جاء الفراق ظهر على صورة ألم شديد وأذى يلحق النفس.
ويوجِّه الرازي نقده اللاذع إلى من يعتبرهم "الموسومين بالظرف والأدب" الذين يعارضون الفلاسفة في سيرتهم، ويزعمون "أن العشق إنما تعتاده الطبائع الرقيقة والأذهان اللطيفة، وأنه يدعو إلى النظافة واللباقة والزينة والهيئة، ويتبعون هذا ونحوه من كلامهم بالغزل من الشاعر البليغ في هذا المعنى، ويحتجون بمن عشق من الأدباء والشعراء والسراة ويتخطونهم إلى الأنبياء"، فيردُّ الرازي عليهم "بأن رقَّة الطبع ولطافة الذهن وصفاءه يعرفان ويعتبران بإشراف أصحابهما على الأمور الغامضة البعيدة والعلوم اللطيفة الدقيقة..."، وهذا لا يوجد إلا عند الفلاسفة، وهو يذكر هنا اليونان، ويلاحظ أن العشق في جملتهم أقلّ مما في جملة سائر الأمم"، فأما الأنبياء، فلا يستجيز أحد أن يكون العشق من مناقبهم وفضائلهم.
فإذا سألنا الرازي عن العلاج، فإنَّه يوجّهنا إلى ضرورة الوقاية من المرض قبل وقوعه، "الواجب في حكم العقل... المبادرة في منع النفس وزمها عن العشق قبل وقوعها فيه وفطمها منه إذا وقدت فيه قبل استحكامه فيها، وكذلك في الإلف: الاحتراس منه يكون بالتعرض لمفارقة المصحوب حالاً بعد حال، وبأن يدرج الإنسان نفسه إلى ذلك ويمر بها عليه.
ويتحدث الرازي في علاج كثير من الأمراض النفسية ـ الخلقية، مما لا يتسع المقام الدخول فيه، ولكن يحسن أن نشير إلى طريقته في العلاج وأن نذكر بعض الأمثلة:
فهو يعمد إلى تحليل الرذائل ويعتبرها "عوارض نفسية رديئة"، كالعجب والحسد والبغض، ويشرح أسبابها ثم يصف العلاج، كما يعالج بعد ذلك كثيراً من "العوارض النفسية السيئة": الغضب، الكذب، البخل، الغم، والشره، وغير ذلك، ويذكر بلايا السكر والجماع... وهو في ذلك يهيب بالإنسان أن يستعمل عقله وأن يستعين بالقوى الرفيعة الشريفة في نفسه على القوى الدنيئة، خصوصاً الشهوانية، وأن يتذرَّع بهمة أولى العزم الذي يتأكد في النفس وتستجيب له كلُّ الميول والرغبات.
ولا ينسى هذا الطبيب الفيلسوف أن يحاول دفع الغمّ بسبب الموت، ويقول إن هذا العارض لا يمكن دفعه عن النفس تماماً إلا بأن تقتنع بأنها تصير بعد الموت إلى ما هو أصلح لها مما كانت فيه، وهذا، كما يقول، موضوع يطول فيه الكلام، وهو يحوج إلى دراسة المذاهب والديانات، ويهتم بالكلام مع من يعتقد أن النفس تفنى بفناء الجسد، وأنه إذا كان يخاف الموت فإن خوفه لا أساس له من العقل.
وإذا كان الموت لابد منه، فإن الإنسان الذي يفكر فيه لا يزال يلحقه الغم، وهو أنه لكثرة تصوره للموت كأنه يموت موتاً بعد موت كلَّما فكر فيه، فالأجدر به أن يتنـاساه ويتلطف في الاحتيال لدفع الغم عن نفسه. والمهم أنه، بحساب الاعتقاد بمصير وعاقبة بعد الموت، يجب " أن لا يخاف منه الإنسان الخيِّر الفاضل المكمِّل لأداء ما فرضت عليه الشريعة المحقة، لأنها قد وعدته الفوز والراحة والوصول إلى النعيم الدائم".
أما الذي يشك في صحة الشريعة، فليس له إلا البحث والنظر، "فإن أفرغ وسعه وجهده غير مقصر ولا وان، فإنه لا يكاد يعدم الصواب، فإن عدمه- ولا يكاد يكون ذلك- فالله تعالى أولى بالصفح عنه والغفران له، إذ كان غير مطالب بما ليس في الوسع، بل تكليفه وتحميله لعباده دون ذلك كثيراً.
كتب الرازي الطبية:
يذكر كلُّ من ابن النديم والقفطي أن الرازي كان قد دوَّن أسماء مؤلفاته في " فهرست" وضعه لذلك الغرض. ومن المعروف أن النسخ المخطوطة لهذه المقالة قد ضاعت مع مؤلفات الرازي المفقودة، ويزيد عدد كتب الرازي على المائتي كتاب في الطب والفلسفة والكيمياء وفروع المعرفة الأخرى، ويتراوح حجمها بين الموسوعات الضخمة والمقالات القصيرة ويجدر بنا أن نوضح هنا الإبهام الشديد الذي يشوب كلاً من "الحاوي في الطب" و "الجامع الكبير". وقد أخطأ مؤرخو الطب القدامى والمحدثون في اعتبار ذينك العنوانين كأنهما لكتاب واحد فقط، وذلك لترادف معنى كلمتي الحاوي والجامع.
التعريف بمادة "الحاوي في الطب"
يعتبر كتاب "الحاوي في الطبّ" من أكثر كتب الرازي أهميةً، وهو موسوعة عظيمة في الطب تحتوي على ملفات كثيرة من مؤلفين إغريقيين وهنود، إضافة إلى ملاحظاته الدقيقة وتجاربه الخاصة. وقد كان الرازي دقيقاً إلى درجة أنه أشار إلى مصادره التي استقى منها المعلومات الطبيعية من إغريقية وهندية في هذا الكتاب.
واستعان الرازي بمذكراته الخاصة في تأليف كتبه الطبية التي تمتاز بجمال الأسلوب وأصالة المادة، مثل كتاب "القولنج"، وكتاب "المنصوري في الطب"، وكتاب "الجدري والحصبة"، وكتاب "الأدوية المفردة"، وقد وجدت أصولها جميعاً في مذكرات "الحاوي في الطب". ونظن أن بعض الأطباء جمعوا مذكرات الرازي الخاصة معا ـ بعد وفاته ـ وأطلقوا عليها اسم "الحاوي في الطب"، وذلك لما تحتوي عليه من دراسات وافية في كتب الأوائل. كما اهتدى علماء الغرب بنور العلم العربي، فتمت ترجمة هذه الموسوعة الطبية إلى اللغة اللاتينية سنة 1279 م، وعرفت باسم Continens .
تُرجِم الحاوي في أوروبا وطبع في إيطاليا عام 1486م، ويعدُّ أضخم كتاب طبع بعد اختراع المطبعة مباشرةً، وقد قسِّم إلى خمسة وعشرين مجلداً بعد أن أعيد طبعه في البندقيّة في القرن السادس عشر الميلادي، وقد ظلَّ كتاب الحاوي للرازي حجة الطب بلا مدافع حتى القرن السابع عشر.
وما يدل على أن "الحاوي في الطبّ" لم يكن إلاّ مجموعةً من المذكرات الخاصة، أن القارىء يجد ملاحظات إكلينيكية عن أمراض ووعكات أصابت الرازي نفسه، كما دوَّن الرازي فيها بياناتٍ مفصَّلة عن حالات مرضاه. ومن المعروف أنه كان يؤمن بسرية المهنة، كما ذكر ذلك في كتابه "في محنة الطبيب وتعيينه"، فليس من المعقول إذاً أن يثبت هذه الأسرار في كتاب يعده للنشر ويضمنه أسماء مرضاه من ذكور وأناث، وفيه وصف دقيق لما يشكوه كل مريض، مع بيانات اجتماع مميزة كالمهنة ومكان السكن وسن المريض.
يذكر كل من ابي النديم وابن أيى أصيبعة عنوان كتاب "الجامع الكبير" ضمن مؤلَّفات الرازي، ويضيف كلٌّ منهما أن هذه الموسوعة العلمية تتكوَّن من اثني عشر جزءاً، إلا أنهما لا يتّفقان في بيانهما لعناوين هذه الأجزاء، ثم يخطئان فى تعريفهما "الجامع الكبير" بأنه كتاب "الحاوي".
وأما الرازي، فإنه يذكر عنوان كتابه "الجامع الكبير" عدة مرات، بل يحدد السنين الطويلة التي قضاها في تأليف هذه الموسوعة الضخمة، فيقول في كتابه "السيرة الفلسفية": "وإنه بلغ من صبري واجتهادي أني كتبت بمثل خطِّ التعاويذ في عام واحد أكثر من عشرين ألف ورقة، وبقيت في عمل "الجامع الكبير" خمس عشرة سنة أعمله الليل والنهار، حتى في ضعف بصري وحدث لي فسخ في عضل يدي يمنعاني في وقتي هذا عن القراءة والكتابة. وأنا على حالي لا أدعها بمقدار جهدي وأستعين دائماً بمن يقرأ ويكتب لي". وفي موضع آخر من كتاب "السيرة الفلسفية"، يذكر الرازي عناوين بعض مؤلفاته الطبية كنموذج لكتبه التي يفتخر بها ويعتز، قائلاً:"وكتابنا في "الأدوية الموجودة" والموسوم "بالطب الملوكي " والكتاب الموسوم "بالجامع " الذي لم يسبقني إليه أحد من أهل المملكة، ولا أحتذي فيه أحداً بعد احتذائي وحذوي، وكتبنا في صناعة الحكمة التي هي عند العامة الكيمياء، وبالجملة، فقرابة مائتي كتاب ومقالة ورسالة خرجت عني إلى وقت عملي على هذه المقالة في فنون الفلسفة من العلم الطبيعي والإلهي".
كما يذكر الرازي مؤلفه "الجامع الكبير" في كتابه "المرشد أو الفصول" ثم في كتابه "الأقراباذين المختصر"، وكذلك يذكر الرازي اسم "الجامع الكبير" ست مرات في كتابه (الشكوك على جالينوس)، مؤكدا أن مادة كتابه "الجامع الكبير" أحسن وأوضح وأوفى مما كتبه جالينوس نفسه في كتبه التي ينقدها الرازي.
"المنصوري": يعد أصغر حجماً من كتابه الأول "الحاوي"، وقد أخذه بنفسه إلى صديقه أمير الريّ المنصور بن الحق. ولكن كتاب "المنصوري" نال شهرة واسعة في الشرق والغرب. طبع المنصوري في إيطاليا لأول مرة في عام 1481م، وأعيد طبعه عدة مرات، وترجمت أجزاء منه إلى اللغات الفرنسية والألمانية، ويقع في عشرة مجلدات، ويعد مدخلاً إلى الطب، وقد قسمت أجزاؤه العشرة كما يلي:
1ـ مدخل في الطب، شكل الأعضاء، تعريف مزاج البدن، في قوى الأغذية والأدوية، في حفظ الصحة، في الزينة، في تدبير المسافرين، في صناعة الجبر والجراحات والقروح، وفي السموم، في الأمراض الحادثة من القرن إلى القدم، وفي الحميات.
ومن الكتب التي كتبها الرازي:
أ ـ الحصبة والجدري، فعلى الرغم من صغر حجمه، فإنه يعدُّ أقدم وصف في الجدري والحصبة وأفضل ما كتب في الطب الإسلامي.
ب ـ كتاب منافع الأغذية: وهو من كتب الرازي الشهيرة، ويتحدث عن الغذاء والشراب، كالحنطة وأنواع الخبز ومنافع الماء البارد منه والساخن، ومتى يجب تجنب شربه بارداً وساخناً، ومن منافع الشرب المسكر ومضارّه، والأشربة غير المسكرة، ومنافع اللحوم ومضارها، ومنافع السمك ومضاره، وأيضاً المخلّلات والزيتون والتوابل والفواكه الرطبة منها والجافة.
ومما يؤثر عن الرازي أنه كان يؤمن بأن الفصد مفيد لعلاج بعض الأمراض.
المرشد أو الفصول:
ويقول الرازي في كتاب "المرشد أو الفصول": "ليس يكفي في أحكام صناعة الطب قراءة كتبها، بل يحتاج مع ذلك إلى مزاولة المرضى، إلا أن من قرأ الكتب ثم زاول المرضى، يستفيد من قبل التجربة كثيراً، ومن زاول المرضى من غير أن يقرأ الكتب، يفوته ويذهب عنه دلائل كثيرة، ولا يشعر بها البتة، ولا يمكن أن يلحق بها في مقدار عمره، ولو كان أكثر الناس مزاولةً للمرضى ما يلحقه قارىء الكتب مع أدنى مزاولة، فيكون كما قال الله عز وجل: {وكأين من آية في السموات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون}[يوسف/105].
كتاب في "الشكوك على جالينوس":
هذا كتابٌ غزير المادَّة، ولم يطبع حتى الآن. وينقد الرازي إلى هذا الكتاب ثمانية وعشرين كتاباً من كتب جالينوس، أولها كتاب "البرهان"، وآخرها كتاب "النبض الكبير"، وإن مقتطفات الرازي من كتاب "البرهان" لجديرة بالدراسة المتعمقة، فقد كان الجزء الأكبر من هذا الكتاب الفلسفي مفقوداً في زمان حنين بن إسحاق (192- 260 هـ 808 ــ 873 م) الذي ترجم ما عثر عليه من النصوص اليونانية لبعض مقالات هذا الكتاب، ويقول حنين بن إسحاق إنه سافر إلى مدينة الإسكندرية باحثاً عن المخطوطات النادرة الوجود لهذا الكتاب القيِّم.
إن نقد الرازي لكتب جالينوس لدليلٌ قويّ على اتجاه جديد محمود بين أطباء العالم العربي، فكم من أجيال توارثت النظريات والآراء العلمية الخاطئة دون أن يجرؤ أحد على نقدها أو تعديلها خشية الخروج على العرف السائد. يقول الرازي في مقدمة كتاب "الشكوك على جالينوس": "إني لأعلم أن كثيراً من الناس يستجهلونني في تأليف هذا الكتاب، وكثيراً منهم يلومونني ويعنفونني أو كان يجزي إلى تحليتي تحلية من يقصد باستغنام واستلذاذ منه كذلك، إلى مناقضة رجل مثل جالينوس في جلالته ومعرفته وتقدمه في جميع أجزاء الفلسفة، ومكانه منها؟ وأجد أنا لذلك ـ يعلم الله ـ مضضاً في نفسي، إذ كنت قد بليت بمقابلة من هو أعظم الخلق عليَّ منّةً، وأكثرهم لي منفعة، وبه اهتديت، وأثره اقتفيت، ومن بحره استقيت".
كيميائي بارع:
كان الرازي من ابرع رجال الكيمياء والطب والفيزياء في الإسلام في العصور الوسطى. وقد ذكر ابن أبي "أصيبعة" في عيون الأنباء، أن الرازي قدم في كتاب "كيفية الإبصار" قلب نظرية الإبصار، وقد قال في هذا الكتاب: "لأول مرة في التاريخ بأن الإبصار لا يكون شعاعاً يخرج من العين إلى الجسم، بل على النقيض من ذلك، إن الشعاع أو الضوء يخرج عن الجسم المرئي، وقد نقض في هذا الكتاب نظرية إقليدوس في المناظر، ومن الجدير ذكره أن الرازي كان أقدم عهداً من ابن الهيثم وبما يتعلق بهذه النظرية بسبعة قرون.
ويثبت مؤرخو العصور الوسطى المؤلفات الآتية للرازي في الإبصار، وكلها في حكم المفقودة: "كتاب في فصل العين على سائر الحواس" "مقالة في المنفعة في أطراف الأجفان دائماً"، "مقالة في العلة التي من أجله تضيق النواظر في الضوء وتتسع في الظلمة"، "كتاب في شروط النظر"، ومقالة في "علاج العين بالحديد".
مخترع في الفيزياء:
اخترع الرازي المكثاف الذي يستعمل لقياس الأوزان النوعية للسوائل ومعرفة كثافتها، وقد سماه الرازي "الميزان الطبيعي". بدأ حب الكيمياء عند الرازي قبل الطب بدافع السعي وراء تحويل المعادن الرديئة القليلة الثمن إلى معادن نفيسة كالذهب والفضة.
كانت صنعة الكيمياء في عصره مجلبةً للثراء، لذلك ألف فيها عشرات الكتب.
توصل الرازي إلى تحضير بعض السبائك التي تشبه الذهب، وكذلك توصل إلى عمليات كيمائية ما زالت مستعملة حتى يومنا هذا، مثل: التقطير، التكليس، التبلور، التشميع، الصهر، الترشيح، التنقية، التصعيد، التصدية.
نال كتابه الكيماوي "سر الأسرار" شهرةً عظيمةً في أوروبا، فترجم إلى الألمانية، ولذلك اعتبر الرازي فريد عصره وزمانه. ويتضح من ذكر الرازي للأجهزة التي استخدمها في المواد ا لكيماوية مدى جودة مختبره، وقد ذكر من أدواته: "الأدوات الزجاجية، المعدنية، والخزفية، والكؤوس الزجاجية والدوارق وأواني البلور الزجاجية الأحواض، والأفران وملاعق الحرق والملاقط، والحمام المائي والحمام الرملي، وعمليات الترشيح، والأقماع الزجاجية، ومصابيح التسخين، وتوصل إلى معرفة معدن الصدا والكاوية والغلسرين وغيرها".
ولعلَّ ممارسة الرازي العملية للكيمياء كانت في المرحلة الأولى من عمره، كما ذكرت المصادر القديمة، وتأليفه في مجالها كان في المرحلة الثانية، وفي سن متقدمة نسبياً.
اختلفت الأقوال في إصابته بعينه، حيث يرد في تاريخ حكماء الإسلام أنه أصيب بالرمد لاشتغاله بالموادّ الكيماوية، ثم اشتغل بعلم الإكسير، فرمدت عينه بسبب أبخرة العقاقير المستعملة في الإكسير، بينما يعتقد البيروني، وهو الراجح، أنه نجم عن كثرة القراءة والمطالعة والدرس، ويؤكد الرازي ذلك بقوله: "وبقيت في عمل الجامع الكبير خمس عشرة سنة، أعمل في الليل والنهار، حتى ضعف بصري، وحدث لي فسخ في عضل يدي، يمنعاني في وقتي هذا من القراءة والكتابة، وأنا على حالي لا أدعهما بمقدار جهدي، وأستعين دائماً بمن يقرأ ويكتب لي".
ويبدو لنا أن الرازي كان مطّلعاً على اللغة اليونانية، بعكس ما ذكر في هوامش تحقيق رسالة في الجدري والحصبة. والنص التالي المنقول عن عيون الأنباء يدل على معرفة الرازي باللغة اليونانية:" وقال أبو بكر ابن زكريا في كتاب الحاوي: يصح في اللغة اليونانية أن ينطق بالجيم غيناً وكافاً، فيقال مثلاً جالينوس وغالينوس وكالينوس، وكل ذلك جائز، وقد نجعل الألف واللام لاماً شديدة فيكون ذلك أصحّ في اليونانية... ويدلنا هذا النص على أن الرازي عرف اللغة اليونانية، كما يؤكد هذه المقولة ما نراه من سعة اطلاعه على الكتب اليونانية، سواء الطبية أو الفلسفيّة ونقله عنها، ويؤيده ما ورد في الفهرست وتاريخ الحكماء من أنه ألف كتاباً يذكر فيه كتب جالينوس التي لم ترد في فهارسه: "كتاب في استدراك ما بقي من كتب جالينوس ممّالم يذكره حنين ولا جالينوس في فهرسته".
وفي المحصلة، يمكننا القول إن "أبا بكر محمد بن زكريا الرازي" كان عالماً موسوعياً من طراز فريد، وقد برز في جميع فروع العلوم؛ فكتب في الطب والفلسفة والكيمياء والرياضيات وعلم الأخلاق والميتافيزيقا والموسيقى وغيرها، وهو في الحقيقة علاّمة عصره؛ حيث كانت مؤلّفاته العديدة مرجعاً للعلماء والدارسين خاصةً في الطب، وظلت تلك المؤلفات تدرَّس في جامعات أوروبا على مدى قرون طويلة، ولذا أجمع المؤرّخون على أن الرازي كان من أشهر الأطباء ولقب بـ"جالينوس العرب"، ونعته الزركلي بأنه من الأئمة في صناعة الطب.