بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدلله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجميعن.
إن الخوف من الله عز وجل هو من أعلى مراتب التقوى إذ لا يصل الإنسان إلى منازل التقوى العالية إلا بخوفه من الله سبحانه وتعالى.
قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال: 2]
وقال تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون: 60]
قالت عائشة ا: "يا رسول الله هو الذي يسرق ويزني، ويشرب الخمر، وهو يخاف الله عز وجل قال: «لا يا بنت الصديق، ولكنه الذي يصلي، ويصوم ويتصدق وهو يخاف الله عز وجل»
وفي رواية الترمذي: «لا يا بنت الصديق، ولكنهم الذين يصلون ويصومون ويتصدقون وهم يخافون ألا يتقبل منهم».
وسوف نستهل هذه الرسالة بالحديث عن خوف رسولنا عليه الصلاة والسلام الذي كان أتقى الناس، وأخوف الناس من ربه عز وجل.
فعن عائشة ا قالت: قال رسول الله : «إني لأعلمهم بالله، وأشدهم له خشية».
فقد كان عليه الصلاة والسلام يظهر عليه آثار الخوف إذا تغيرت عليه الأحوال، فعن عائشة ا قالت: ما رأيت رسول الله مستجمعاً ضاحكاً حتى أرى لهواته، إنما كان يبتسم، وكان إذا رأى غيماً أو ريحاً، عرف ذلك في وجهه، فقالت: يا رسول الله، أرى الناس إذا رأوا الغيم فرحوا رجاء أن يكون فيها مطر، وأراك إذا رأيته عرفت في وجهك الكراهية!
فقال: «يا عائشة ما يؤمنني أن يكون فيها العذاب؟ فلقد عذب الله قوماً بالريح، ولقد رأى قوم العذاب فقالوا: هذا عارضٌ ممطرنا».
وكان من شدة خوفه عليه الصلاة والسلام ووقوفه بين يدي ربه يبكي حتى يسمع لصدره أزيز.
فعن عبدالله بن الشخير قال: "رأيت النبي وهو يصلي فسمعت لصدره أزيزاً كأزيز المرجل من خوف الله عز وجل".
فهذا بعض من صور خوف نبينا محمد ، فلنقف الآن على أحوال الملائكة عليهم السلام وخوفهم من ربهم عز وجل، يقول الله تعالى في مدح الملائكة:
{وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء: 26-28]
وقال تعالى: {وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِن دَآبَّةٍ وَالْمَلآئِكَةُ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النحل: 49-50]
وعن أنس بن مالك أن النبي قال: «يا جبريل مالي لا أرى ميكائيل ضاحكاً قط
قال جبريل: إن ميكائيل لم يضحك قط منذ أن خلق الله النار»
وعن جابر قال عليه الصلاة والسلام: «مررت ليلة أُسري بي إلى الملأ الأعلى، وإذا بجبريل عليه السلام كالحلس البالي من خشية الله فعرفت مكانه».
فهذا نبينا عليه الصلاة والسلام وهؤلاء الملائكة عليهم السلام كانوا مع شدة طاعتهم لربهم عز وجل يخافونه، ثم نأتي بعد ذلك إلى خوف الصحابة م من ربهم، وكيف كانت مراقبتهم لربهم وخوفهم منه م وأرضاهم.
فهذا الصديق عندما دخل بستاناً فرأى طائراً على غصن شجرة فبكى وقال: "يا ليتني مثل هذا الطائر لا لي ولا علي".
وكان الفاروق عمر يبكي ويخاطب نفسه ويقول: "ويلك يا ابن الخطاب إن لم يغفر الله لك".
وأما علي فقد صلى يوم صلاة الفجر بالكوفة، ثم بعد أن صلى جلس مطرقاً وعليه آثار الكآبة، ثم قام وقال كلاماً ما أدركته الجمعة التي بعدها حتى لقي الله قال:
"لقد رأيت أصحاب رسول الله فما رأيت شيئاً يشبههم، كانوا يصبحون شعثاً غبراً صفراً بين أعينهم كأمثال ركب المعزى من البكاء قد باتوا لله سجداً وقياماً يتلون كتاب الله ويرواحون بين أقدامهم وجباههم، فإذا طلع الفجر ذكروا الله فمادوا كما تميد الشجر في يوم الريح، والله لكأن القوم باتوا غافلين". فما رؤي ضاحكاً ولا مبتسماً.
وكانت عائشة ا في سكرات الموت فأتى ابن عباس يزورها ويستأذن عليها في مرضها فقالت: "دعني من ابن عباس، فقيل لها: إن ابن عباس من صالحي نبيك يسلم عليك فقالت: ائذن له فلما جلس
قال: أبشري فما بينك وأن تلقي محمداً والأحبة إلا أن تخرج الروح من الجسد، وكنت أحب نساء رسول الله إليه، ولم يكن رسول الله يحب إلا طيباً، وسقطت قلادتك فأصبح رسول الله بالمنزل وأصبح الناس ليس معهم ماء، فأنزل الله عز وجل {فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً} [النساء: 43]
وكان ذلك بسببك، وما أنزل الله لهذه الأمة من الرخصة، وأنزل الله براءتك من فوق سبع سموات جاء به الروح الأمين، فأصبح ليس مسجد من مساجد الله يذكر فيها الله إلا يتلى فيه آناء الليل وأطراف النهار، فقالت: دعني منك يا ابن عباس، فو الذي نفسي بيده لوددت أني كت نسياً منسياً" ا.
وهذا معاذ قال لأبنائه وهو يجود بنفسه: انظروا أصبحنا حتى أتى فقيل له: "أصبحت فقال: اللهم إني أعوذ بك من ليلة صباحها النار، مرحباً بالموت، حبيب جاء على فاقة، اللهم إني كنت أخافك، وأنا اليوم أرجوك، اللهم إنك تعلم أني لم أكن أحب الدنيا وطول البقاء فيها لكري الأنهار ولا لغرس الأشجار ولكن لظمأ الهواجر ومكابدة الساعات ومزاحمة العلماء بالركب عند حلق الذكر، ثم مات ".
أما سلفنا الصالح فكان لهم مواقف عظيمة في خوفهم من الله نذكر بعض النماذج منها:
فهذا الخليفة الراشد عمر بن عبدالعزيز تقول فاطمة بنت عبدالملك زوج عمر:
"قد يكون في الرجال من هو أكثر صلاة وصياماً من عمر، أما أن يكون فيهم من هو أكثر خوفاً وفرقاً من الله فلا
تقول: كان إذا صلى العشاء الآخرة في المسجد جاء إلى مصلاه في بيته وبدأ يتهجد حتى تغلبه عيناه فإذا صحى بعد ذلك، بدأ يبكي حتى الفجر".
وعندما ذهب هارون الرشيد إلى مكة طلب من وزيره أن يبحث له عن رجل يعظه فذهب هارون الرشيد رحمه الله إلى الفضيل في داره، وعندما دخل عليه أطفأ الفضيل السراج فقال هارون: لماذا أطفأت السراج يا أبا علي؟
قال: هذا الظلام أهون من ظلمة القبر يا هارون
قال: زدني
قال: يا هارون إن الله سوف يحاسب كل إنسان عن نفسه، أما أنت فسوف يحاسبك عن كل إنسان من رعيتك
فبكى وقال: زدني
قال: يا هارون إني أراك جميل وجه صبيح منظر، فالله الله أن تخرب وجههك بنار جهنم، فبكى حتى كادت نياط قلبه أن تتقطع، ثم قال لوزيره: إذا دللتنا على أحد يعظنا فدلنا على مثل هذا.
وبكى محمد بن المنكدر بكاءً شديداً حتى خاف أهله عليه، فذهبوا إلى أبي حازم لينظر ماذا أصابه فجاءه أبو حازم وقال: ما الذي يبكيك يرحمك الله
قال محمد: آية في كتاب الله عندما أقرأها لا يرقى لي دمع
قال: وما هي؟
قال: قال عز وجل: {وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر: 47]
فبكينا جميعاً.
وكان سفيان الثوري وهو جالس مع تلاميذه يبكي فجأة فقيل له: لماذا تبكي؟
قال: أخاف أن أسلب الإيمان عند الموت، وعندما جاءه الموت بكى كثيراً فسئل عن ذلك قال: ويحكم! أتدرون إلى أين يذهب بي إلى جنة أو نار.
وهذا الحسن البصري رحمه الله كان شديد الحزن والخوف من الله، وكان يقول: أخاف أن ينظر الله إلى أعمالنا فيقول: لا أقبل منكم شيئاً.
ونظر عطاء السلمي إلى التنور يوماً فخر مغشياً عليه، لأنه تذكر قول الله عز وجل:
{تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} [المؤمنون: 104]
ما هي نتيجة الخوف من الله
ينتج عن الخوف من الله عز وجل شدة المراقبة لله، لأن الخائف من الله يستشعر قول الله عز وجل: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الحديد: 4]
وقوله تعالى: {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [النور: 15]
وقوله تعالى: {أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ} [المجادلة: 6]
وقوله عز وجل: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} [الزخرف: 80]
وشدة المراقبة لن ينتج عنها مجاهدة النفس وذلك بالابتعاد عما حرم الله والصبر على طاعته.
وحديث السبعة الذين يظلهم الله تحت ظل عرشه كلهم، إما خائفون من الله، أو راجون ثوابه فاستحقوا بهذا الخوف وهذا الرجاء هذه المنزلة يوم القيامة.
وفي صحيح ابن حبان عن النبي أنه قال: «قال الله تعالى: وعزتي وجلالي لا أجمع على عبدي أمنين، ولا أجمع له خوفين، فإن أمنني في الدنيا، خوفته يوم القيامة، وإن خافني في الدنيا أمنته يوم القيامة».
وهذا مصداق كلام رسول الله قال: «لا يلج النار أحدٌ بكى من خشية الله حتى يعدو اللبن في الضرع».
والضابط في ذلك هو كلام ابن تيمية رحمه الله حيث يقول: "حد الخوف ما حجزك عن معاصي الله، فما زاد على ذلك، فهو غير محتاج إليه"
فهذا هو القياس الذي من خلاله يعرف الإنسان أنه يخاف من ربه.
نسأل الله عز وجل أن يجعلنا ممن يخافونه ويرجونه، وأن يؤمن خوفنا ويرزقنا خشيته في السر والعلن، والله يتولى الصالحين.
__________________
دع الأيام تفعل مـا تشـــاء وطب نفسا إذاحكم القضاء
ولا تجزع لحــادثة الليـالي فما لحوادث الدنيـا بقــاء
***
وكنرجلا على الأهوال جلدا وشيمتك السماحة والوفـاء