بسم الله الرحمن الرحيم
التقوى 1/2
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له القائل سبحانه في محكم التنزيل(أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) ، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله الذي اصطفاه واجتباه، وآتاه جوامع الكلم، صلى الله عليه وعلى آله ومن سار على نهجه ومنواله إلى يوم الدين.
أَمَّا بَعْدُ:
عن أبي ذر جندب بن جنادة ، و أبي عبد الرحمن معاذ بِن جبل رضي الله عنهما، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ((اتقِ اللهَ حيثُ ما كنتَ, واتبع السيئةَ الحسنةَ تمحها, وخالق الناس بخُلق حسن)) هذا الحديث العظيم اشتمل على ثلاث خصال-حق الله ـ وحق المكلف ـ وحق العباد-وقد اشتملت الخصلة الأولى على ما بعدها،وهذا من ذكر الخاص بعد العام, للاهتمام بشأن الخاص، وإلاّ فتقوى الله -عزَّ وجل- حقيقتها : امتثال أوامر الله سبحانه وتعالى واجتناب نواهيه, بحيثُ إذا سَمِعَ المسلم أمرًا أمر به الله جلّ شأنه أ ورسوله صلى الله عليه وسلَّم، فإنه لا يسعه إلاّ الامتثال بأن يقول ((سمعنا وأطعنا)). ومن هذا المنطلق نقف خمس وقفات مع هذه الوصية الواسعة الخالدة , عظيمة المعنى والمبنى وهى :ـ
1. حقيقة التقوى لغة وشرعا.
2. حق التقوى.
3. صفات المتقين.
4. المتقي غير معصوم من الزلل إذ لا عصمة إلاّ لمن عصمه الله.
5. ثمرات التقوى
الوقفة الأولى_ حقيقة التقوى لغة وشرعا :ـ
التقوى في اللغة: هي الاسم من اتقى ، و المصدر الاتقاء و كلاهما مأخوذ من مادة وقى، و الوقاية هي حفظ الشيء مما يؤذيه و يضره ويحذره, وقد عُرفت التقوى بتعريفات مختلفة كلها تعود إلى امتثال الأوامر، واجتناب النواهي، من باب اختلاف التنوع لا اختلاف التضاد .
- عرفها ألإمام علي ـ رضي الله عنه ـ بقوله :التقوى هي العمل بالتنزيل و الخوف من الجليل و الرضا بالقليل و الاستعداد ليوم الرحيل.
- عرفها طلق بن حبيب ـ رحمه الله ـ "التقوى أن تعملَ بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله تخاف عقاب الله". و النور هنا هو العلم والبصيرة والهدى." .
- وقال ابن رجب -رحمه الله-: "أصل التقوى أن يجعل العبد بينه وبين ما يخافه ويحذره وقايةً تَقِيْهِ منه؛ فتقوى العبد لربه أن يجعل بينه وبينما يخشاه من ربه من غضبه وسخطه وقايةً تقيه من ذلك وهو فعل طاعته واجتناب معصيته"
- وقال الحسن ـ رحمه الله ـ"ما زالت التقوى بالمتقين حتى تركوا كثيراً من الحلال مخافة الحرام".
- وقال ميمون بن مِهران ـ رحمه الله ـ "المتقي أشد محاسبة لنفسه من الشريك الشحيح لشريكه".
- وقد جسد أبي بن كعب رضي الله عنه هذه المعاني لما سئل عن التقوى ؟ فقال : " هل أخذت طريقا ذا شوك ؟ قال : نعم ، قال : فكيف صنعت؟ قال : إذا رأيت الشوك عزلت عنه أو جاوزته أو قصرت عنه ، قال : ذاك التقوى "
- وإذا كانت الغاية من خلق الخلق هي العبادة فإن العبادة هي التقوى قال تعالى ((وما خلقت الجن والإنس إلآ ّليعبدون)) وقال سبحانه ((ياأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)) .
من أجل ذلك كانت التقوى وصية الله للأولين والآخرين من خلقه, قال تعالى ((وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ )) وقال سبحانه) :يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ))وهي وصية نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لجميع أمته.روى العرباض بن ساريةـ رضي الله ـ عنه قال وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون فقلنا يا رسول الله كأنها موعظة مودع فأوصنا قال أوصيكم بتقوى الله عز وجل ..الحديث.
وعن أبي ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له ( أوصيك بتقوى الله في سر أمرك وعلانيته وإذا أسأت فأحسن ولا تسألن أحدًا عن شيء وإن سقط سوطك ) .
وهي وصية الصالحين بعضهم لبعض ،دعا أبو بكر الصديق رضي الله عنه لما حضرته الوفاة عمر ـ رضي الله عنه ـ وعهد إليه بوصيته وأول ما قال له اتق الله يا عمر قالها مرارا , وكتب عمر إلى ابنه عبدالله ـ رضي الله عنهما ـ أما بعد فإني أوصيك بتقوى الله عز وجل فإنه من اتقاه وقاه ومن أقرضه جزاه ومن شكره زاده . واستعمل علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ رجلا على سرية فقال له أوصيك بتقوى الله عز وجل الذي لا بد لك من لقاه ولا منتهى لك دونه وهو يملك الدنيا والآخرة.وكتب عمر بن عبد العزيز رحمه الله ـ إلى رجل أوصيك بتقوى الله عز وجل التي لا يقبل غيرها ولا يرحم إلا أهلها ولا يثيب إلا عليها فإن الواعظين بها كثير والعاملين بها قليل جعلنا الله وإياك من المتقين ولما ولُى خطب فحمد الله وأثنى عليه وقال أوصيكم بتقوى الله عز وجل فإن تقوى الله عز وجل خلف من كل شيء وليس من تقوى الله خلف. ويقول أبو الدرداء ـ رضي الله عنه ـ لمن استوصاه : "اُذكر يوماً تصير السريرة فيه علانية ".
ويقول أبو عبيدة ـ رضي الله عنه ـ " رُب مُبَيِّض لثوبه مدنِّس لدينه، رُبَّ مُكْرِم لنفسه وهو لها مهين بادروا السيئات القديمات بحسنات حديثات".
كان الإمام أحمد كثيراً ما ينشد قول الشاعر:
إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل خلوت ولكن قل علي رقيب
ولا تحسـبن الله يغفـل ساعة ولا أن ما يخفى عليه يغيب
الوقفة الثانية_ حق التقوى:
قال تعالى: يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ اتّقُواْ اللّهَ حَقّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنّ إِلاّ وَأَنْتُمْ مّسْلِمُونَ)وقد فسَّرها عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ، فقال [[اتقوا الله حق تقاته: بأن يُطاع فلا يعصى، وأن يُذكر فلا يُنسى، وأن يُشكر فلا يكفر ))
فأول حق التقوى, أن يُطاع فلا يعصى قال تعالى ((فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) وجاء أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (يا معشر المهاجرين: خصال خمس إن ابتليتم بهن ونزلن بكم وأعوذ بالله أن تدركوهن: لم تظهر الفاحشة في قوم قط إلا فشا فيهم الأوجاع التي لم تكن في أسلافهم، ولا منعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا، ولا نقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المئونة وجور السلطان، ولا نقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدواً من غيرهم فيأخذ بعض ما في أيديهم، وما حكمت أئمتهم بغير ما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم) إنه شؤم المعصية في الدنيا والآخرة.
- وحق التقوى, أن يُذكرَ فلا يُنسى, قال تعالى ( وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ)
- عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم: يقول الله تعالى ( أنا عند ظن عبدي بي ، وأنا معه إذا ذكرني ، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم ، وإن تقرب إلي بشبر تقربت إليه ذراعا ، وإن تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعا ، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة ) .
وعن أبي الدرداء ـ رضي اللَّه عنهُ ـ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ألا أخبركم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم وخير لكم من إعطاء الذهب والورق وخير لكم من أن تلقون عدوكم فيضربون رقابكم وتضربون رقابهم ، ذكر الله عز وجل " .
ـ وحق التقوى أن يشكر فلا يكفر ، فأن الشكر من أركان التقوى وهو سبب لمزيد النعم وبقائها وإن كُفر النعم سبب لنقصها وزوالها قال الله عز وجل ( وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ))وللشكر أركان : هي الاعتراف بنعم الله باطنة والتحدث بها ظاهرة والاستعانة بها على طاعة المنعم.
يتبع الجمعة القادمة بأذن الله ،،،،،،،،،
كتبه- عبد الهادي بن عبد الوهاب المنصوري
جدة في6/2/1431هـ