كفى بالموت واعظاً :ـ
قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم - : ( إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة ، نزل إليه ملائكة من السماء بيض الوجوه ، كأن وجوههم الشمس ، معهم كفن من أكفان الجنة ، وحنوط - وهو ما يخلط من الطيب لأكفان الموتى وأجسامهم - من حنوط الجنة ، حتى يجلسوا منه مد البصر ، ثم يجيء ملك الموت عليه السلام ، حتى يجلس عند رأسه فيقول : أيتها النفس الطيبة - وفي رواية المطمئنة - اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان ، قال فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من فيِّ السقاء ..، وإن العبد الكافر ـ وفي رواية الفاجر ـ إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة ، نزل إليه من السماء ملائكة ، سود الوجوه - وفي رواية غلاظ شداد ـ معهم المسوح (من النار) ـ وهو كساء غليظ من الشعر والمراد الكفن ـ ، فيجلسون منه مدَّ البصر ، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه ، فيقول : أيتها النفس الخبيثة اخرجي إلى سخط من الله وغضب قال فتفرق في جسده ، فينتزعها كما ينتزع السفود ـ وهي حديده ذات شعب متعددة ـ من الصوف المبلول ( فتقطع معها العروق والعصب ) ولذا فإن العبد الصالح إذا حُمِل فإنه يطالب حامليه بالإسراع به إلى القبر شوقاً منه إلى ما أعده الله له من النعيم ، وأما غير الصالح فينادي بالويل والثبور من المصير الذي سيقدم عليه ، يقول ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( إذا وضعت الجنازة فاحتملها الرجال على أعناقهم ، فإن كانت صالحة قالت : قَدِّموني ، وإن كانت غير صالحة قالت لأهلها : يا ويلها أين يذهبون بها ، يسمع صوتها كل شيء إلا الإنسان ، ولو سمع الإنسان لصعق ) .
وقد لخص الله سبحانه لنا الدنيا مع الآخرة في كلمتين فقال ( إنا إلينا إيابهم * ثم إن علينا حسابهم ) سورة الغاشية ( 25-26) ، فلا مفر من القدوم على الله فقد جعل الدنيا دار ممر لا مستقر ، وجعل بعدها الحساب والجزاء ، والعبد وإن طال عمره فمآله إلى الموت ، قال الله جل وعلا : ( كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور) سورة آل عمران ( 185) ، ولو لم يكن بين يدي العبد المسكين كرب ولا شدة ولا عذاب سوى سكرات الموت لكان جديراً بأن يتنغص عليه عيشه ، ويتكدر عليه سروره ، ويعظم له استعداده ، كيف ووراء الموت القبر وظلمته ، والصراط ودقته ، والحساب وشدته ، أهوال وأمور عظام يشيب منها الولدان ، وتضع كل ذات حمل حملها ..
يقُولُ الصَّحَابِيُّ أبو الدَّردَاءِ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ ـ : " كفى بالموت واعظاً ، وكفى بالدهر مفرقا ،اليوم في الدور وغداً في القبور " . قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني " .قال أهل العلم: " إن في الإكثار من ذكر الموت فوائد عظيمة منها : إنه يحث الإنسان على الاستعداد له قبل نزوله ، ويقصر الأمل ويرضى بالقليل من الرزق ، ويزهد في الدنيا ، ويرغب في الآخرة ، ويهون مصائب الدنيا ، ويمنع من الأشر والبطر والتكبر والتوسع في لذات الدنيا الفانية " .
قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " أعذر الله إلى امرئ أخر أجله حتى بلغ ستين سنة " والمعنى أن الله عز وجل إذا عمر الإنسان حتى بلغ ستين سنة فقد أقام عليه الحجة ونفى عنه العذر..
والعبد مأمور بالطاعات ومنهي عن المحرمات في جميع الأوقات ، ولكنه في آخر العمر يتأكد الأمر بالعمل الصالح ، والنهي عن الذنوب لقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " إنما الأعمال بالخواتيم ". فمن وفقه الله للعمل الصالح في آخر عمره فقد كتب الله له حسن الخاتمة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا أراد الله بعبد خيرا عسله قيل وما عسله قال يفتح له عملا صالحا قبل موته ثم يقبضه عليه ومن خذله الله فختم ساعة أجله بعمل شر وذنب يغضب الرب فقد ختم له بخاتمة سوء " . والخاتمة السيئة والعياذ بالله هي الخسران المبين . وقد كان السلف الصالح يخافون من سوء الخاتمة أشد الخوف :
كان مالك بن دينار ـ رحمه الله ـ يقوم طول ليله ويقول يا رب قد علمت ساكن الجنة والنار ففي أي منزل مالك ؟ .
وهذا أبو هريرة ـ رضي الله عنه يبكي في مرضه ـ ، فقيل: ما يبكيك ؟ فقال : "أما إني لا أبكي على دنياكم هذه ، ولكني أبكي على بعد سفري ، وقلة زادي ، وأني أصبحت في صعود مهبط على جنة ونار ، ولا أدري إلى أيهما يؤخذ بي . وبكى الحسن البصري ـ رضي الله عنه ـ عند موته وقال: " نفس ضعيفة ، وأمر مهول عظيم ، فإنا لله وإنا إليه راجعون " .
ويقول المزني : دخلت على الإمام الشافعي ـ رضي الله عنه ـ في علته التي مات فيها ، فقلت: كيف أصبحت ؟ فقال : " أصبحت من الدنيا راحلا ، ولإخواني مفارقا ، ولكأس المنية شاربا ، ولسوء عملي ملاقيا ، وعلى الله واردًا ، فلا أدري روحي تصير إلى الجنة فأهنيها ، أو إلى النار فأعزّيها ، ثم بكى رحمه الله وغفر له ".
وقال الخليفة عبدالملك بن مروان في مرض موته : " ارفعوني ، فرفعوه حتى شم الهواء ، فقال: يا دنيا ما أطيبك ، إن طويلك لقصير ، وإن كثيرك لحقير ، وإن كنا بِك لفي غرور ، إخواني جدوا فقد سبقتم ، واستعدوا فقد لحقتم ، وانظروا بماذا من الهوى تعلقتم ، ولا تغفلوا عما له خلقتم ، ذهبت الأيام وما أطأتم ، وكتبت الآثام وما أصغيتم ، كم سكن مثلك في هذه الدار ، فحام الموت حول حماهم ودار " ..
و قال هارون الرشيد لإخوانه من حوله وهوعلى فراش الموت: أريد أن أرى قبرى الذى أدفن فيه ؟ فحملوا هارون الرشيد إلى قبرة .. فنظر هارون إلى القبر وبكى ، ثم التفت إلى الناس من حوله وقال : ( ما أغنى عني ماليه* هلك عني سلطانية (سورة الحاقة (28-29 ) ، ثم رفع رأسه إلى السماء وبكى وقال : " يا من لا يزول ملكه ارحم من قد زال ملكه " .
وقال بعضهم دخلنا على عطاء السلمي نعوده في مرضه الذي مات فيه فقلنا له كيف ترى حالك فقال : " الموت في عنقي والقبر بين يدي والقيامة موقفي وجسر جهنم طريقي ولا أدري ما يفعل بي ثم بكى بكاء شديدا وقال : " اللهم ارحمني وارحم وحشتي في قبري ومصرعي وارحم مقامي بين يديك يا أرحم الراحمين " .
ولقي الفضيل بن عياض رجلاً فقال له الفضيل كم عمرك ؟ قال الرجل : ستون سنة . قال الفضيل: إذن أنت منذ ستين سنة تسير إلى الله ، يوشك أن تصل . فقال الرجل : إنا لله وإنا إليه راجعون . فقال الفضيل : يا أخى هل عرفت معناها ؟ قال الرجل : نعم عرفت أنى لله عبد وأنى إليه راجع . فقال الفضيل : يا أخي إن من عرف أنه لله عبد ، وأنه إليه راجع عرف أنه موقوف بين يديه ، ومن عرف أنه موقوف عرف أنه مسئول ، ومن عرف أنه مسئول ، فليعد للسؤال جوابا ً. فبكى الرجل فقال يا فضيل : وما الحيلة ؟ قال الفضل : يسيره . قال الرجل: وما هى يرحمك الله ؟ قال الفضيل : أن تتقى الله فيما بقى ، يغفر الله لك ما قد مضى وما قد بقى .
خطب عمر بن عبد العزيز فحمد الله تعالى وأثنى عليه ، وقال: " أيها الناس ، إنكم لم تخلقوا عبثا ، ولن تتركوا سدى . وإن لكم معادا يجمعكم الله للحكم فيكم والفصل فيما بينكم فخاب وشقي عبد أخرجه الله من رحمته التي وسعت كل شيء ، وجنته التي عرضها السماوات والأرض ، وإنما يكون الأمان غدا لمن خاف الله واتقى ، وباع قليلا بكثير ، وفانيا بباق ، وشقوة بسعادة . ألا ترون أنكم في أسلاب الهالكين ، وسيخلفه بعدكم الباقون ؟ ألا ترون أنكم في كل يوم تشيعون غاديا أو رائحا إلى الله ، قد قضى نحبه ، وانقطع أمله ، فيضعونه في بطن صدع من الأرض غير موسد ولا ممهد، قد خلع الأسلاب ، وفارق الأحباب ، وواجه الحساب ؟ ، وايم الله إني لأقول لكم مقالتي هذه ، وما أعلم عند أحد منكم من الذنوب أكثر مما أعلم من نفسي ولكنها سنن من الله عادلة ، أمر فيها بطاعته ، ونهى فيها عن معصيته . وأستغفر الله ". ووضع كمه على وجهه فبكى حتى لثقت لحيته ، فما عاد إلى مجلسه حتى مات رحمه الله .
إننا ونحن نقرأ عن القدوم على المولى جلّ شأنه ونقرأ قصصا لبعض السلف وخوفهم لحري بنا أن نستعد للموت قبل حلوله وذلك بتوبة صادقة ، مع لزومها والثبات عليها والإخلاص لله في ذلك قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( كل ابن آدم خطاء ، وخير الخطائين التوابون ) .
والتوبة وفقا لما بينه عن شروطها في برنامج نور على الدرب الشيخ عبد العزيز بن باز ـ رحمه الله ـ حيث قال في إجابة له لسائل عنها هي : " ثلاثة : الندم على الماضي مما فعلت ندماً صادقاً ، والإقلاع من الذنوب ، ورفضها وتركها مستقبلاً طاعة لله وتعظيماً له ، والعزم الصادق ألاّ تعود في تلك الذنوب ، هذه أمور لا بد منها ، أولاً : الندم على الماضي منك والحزن على ما مضى منك ، الثاني : الإقلاع والترك لهذه الذنوب دقيقها وجليلها الثالث : العزم الصادق ألاّ تعود فيها فإن كان عندك حقوق للناس ، أموال أو دماء أو أعراض فأدها إليهم ، هذا أمر رابع من تمام التوبة ، عليك أن تؤدي الحقوق التي للناس إن كان قصاصاً تمكن من القصاص إلا أن يسمحوا بالدية ، إن كان مالاً ترد إليهم أموالهم ، إلا أن يسمحوا ، إن كان عرضاً كذلك تكلمت في أعراضهم واغتبتهم تستسمحهم ، وإن كان استسماحهم قد يفضي إلى شر فلا مانع من تركه ، ولكن تدعو لهم وتستغفر لهم ، وتذكرهم بالخير الذي تعلمه منهم في الأماكن التي ذكرتهم فيها بالسوء ، ويكون هذا كفارة لهذا ، وعليك البدار قبل الموت ، قبل أن ينـزل بك الأجل عليك البدار ، والمسارعة ، ثم الصبر والصدق ، يقول الله سبحانه وتعالى : ( والذين إذا فعلوا فاحشة أوظلموا أنفسهم ذكروا الله فا ستغفرا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب الا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون ) سورة آل عمران ( 135) ، و معنى وَلَمْ يُصِرُّواْ يعني لم يقيموا على المعاصي ، بل تابوا وندموا وتركوا ، ولم يصرّوا على ما فعلوا ، وهم يعلمون ، انتقل بعد ذلك ـ سبحانه ـ إلى ( اولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين ) سورة آل عمران ( 136) . هذا جزاء التائبين الذين أقلعوا ولم يصرّوا لهم الجنة ، فأنت إن شاء الله منهم إذا صدقت في التوبة ، والله ولي التوفيق " .
اللهم انا نسألك حسن الخاتمة ونسألك توبة نصوحا نلقاك بها وأنت راض عنا . وما قضيت من قضاء أن تجعل عاقبته رشدا, وصلى الله على سيدنا محمد وأله وصحبه أجمعين ..
جمعه وكتبه راجي رحمة ربه
عبدالهادي بن عبدالوهاب المنصوري
جدة /7/11/1431هـ