وأرسل الملك على الفور جنده، فأحضروا الفتى، فسأله إن كان هو حقيقة قاتل فيدوس، فأجاب: "نعم"، فشكره الملك على ذلك، وأخبره أنه يرغب في تزويجه ابنته.
وجددت الأفراح، كما جددت الولائم، وتزوج الفتى ابنة الملك، وسعد بها، كما سعدت به، ومرت عليهما أيام وشهور، كادت تصير إلى عام، حملت فيها الزوجة، وبدأت تستعد لاستقبال المولود.
وذات يوم عثرت الزوجة على العلبة الصغيرة، وكان الزوج قد خبأها في مكان أمين، فعجبت لأمرها، ولما سألته عنها، تذكر الغزالة والرجل القصير، فراوغ في الجواب، ثم ألحت عليه أن يفتح العلبة، واضطر أمام إلحاحها إلى فتح العلبة، فطار منها عصفور صغير، وأدرك على الفور خطر ما أقدم عليه، فأشعل ثلاث شعرات، فحضر على الفور زوج أخته الكبرى، فطلب منه أن يحضر له ذلك العصفور، فأحضره إليه، فأعاده إلى العلبة. ومرة أخرى ألحت عليه، ففتحها، ومرة أخرى استنجد بزوج أخته الصغرى، فأعاد إليه العصفور، وكرة ثالثة أعاد الأمر نفسه، ثم أدرك أن إرادته قد ضعفت، وأنه يوشك أن يودي بالغزالة، فعزم أمره على الرحيل.
وذات صباح، وبينما زوجته في المخاض، قدم لها عقداً، وطلب منها أن تلبسه للمولود في عنقه إن كان أنثى، وفي معصمه إن كان ذكراً، ثم مدّ البساط، وقعد فوقه، وطلب منه أن يوصله إلى حيث الغزالة. وحط به البساط أمام الغزالة، والرجل القصير يضربها بالسوط، وعلى الفور فتح العلبة، وأمسك بالعصفور، فأخذ القصير يرجو منه إطلاقة، في حين أخذت الغزالة ترجوه أن يبادر إلى فصل رأسه عن جسده. وكادت نفس الفتى أن تضعف، ولكنه أسرع ففصل رأس العصفور عن جسده، فوقع الرجل القصير على الأرض، جثة هامدة، لا حياة فيها، ثم نظر إلى الغزالة المقيدة إلى الجدار، وإذا هي صبية حسناء، في ربيع العمر، فبادر إلى فك قيودها، وإطلاقها.
ولما لامته الغزالة على تأخره عنها، اعتذر لها، وأكد عزمه على البقاء بجانبها، فأخبرته أنها ملكة على سبعة بلاد، وأن ذلك الرجل القصير هو الذي مسخها غزالة، ثم حملته، وحطت به في قصرها، فإذا هي ملكة متوجة، يحف بها الخدم والوزراء.
ولما عرضت عليه الزواج منها، وافق، فتزوجته، وتنازلت له عن الحكم، وأصبح ملكاً يتصرف في شؤون البلاد والعباد.
أما ما كان من أمر زوجته، ابنة الملك التي أنقذها من فيدوس، ثم تركها وهي في المخاض فقد وضعت ولداً ذكراً، ربته في حجر جده الملك، وكان لا يعرف لنفسه أباً سواه.
ثم كبر الولد، فوضعت أمه في معصمه الطوق الذي كان قد أهداها إياه أبوه، وأخذت تبدو على الولد ملامح الذكاء.
وذات يوم كان يلعب مع ابن الوزير، فإذا ابن الوزير يعيب عليه أنه لا يعرف من أبوه، فأنكر ذلك، ولكن ابن الوزير أكد له أن من يدعوه أباه ليس إلا جده لأمه.
وسأل الولد بعض المقربين عن الأمر، فأكدوا له ماقاله ابن الوزير، فماكان منه إلا أن ترك القصر، وهام على وجهه في البلاد، يبحث عن أبيه.
وتقلبت به البلاد، كما تقلبت به الأعمال، حتى بلغ البلد الذي يحكمه أبوه، ففتح فيه مطعماً، وأخذ يصنع أطايب الطعام، حتى بلغت شهرته قصر الملك، فجرب طعامه يوماً، فأعجب به، وأصبح الملك لا يتناول طعاماً إلا من صنعه، وكان لا يتردد أحياناً عن زيارته في مطعمه مساءً لتناول طعام العشاء، وقضاء السهرة معه.
وكان يحدث زوجته عنه، ويصفه لها، حتى أنها عشقته على السماع، وأخذت تتمنى لقاءه، ثم قررت أن تصل إليه، مهما كلفها الأمر، فأرسلت وراء البنائين، فطلبت أن يحفروا لها نفقاً تحت الأرض يصل مابين قصرها ومطعمه، وأن تشاد وراء المطعم غرفة خاصة ليتم لهما اللقاء، ولما تم لهما ذلك، أخذت تزوره كل مساء، تأنس بحديثه، وترتاح إلى لقياه.
وذات يوم قدم إليه الملك مساءً، لتناول طعام العشاء، وتزجية الوقت، وبينما هما معاً، وإذا الملك يسمع قرعاً على باب في عمق المطعم، فسأل عن الأمر، فأجاب الولد أن الخدم والطباخين يغسلون الصحون والقدور، ثم توجه نحو الباب وهمس طالباً عدم إحداث الضجيج، معلناً عن وجود الملك في المطعم.
ومرت ساعة وبضع الساعة، وإذا القرع يتكرر ثانية، فدهش الملك، فعلل الولد ذلك بما علله في المرة الأولى، ومرت ساعة أخرى، وإذا القرع يتكرر ثالثة، فشك الملك في الأمر، وقام إلى الباب بنفسه، ففتحه، وإذا زوجته وراء الباب، ودخل الغرفة فرأى النفق، وعرف حقيقة الأمر، فاقتاد زوجته والولد إلى القصر، وأمر الجلاد بضرب عنق الولد على الفور.
وتوسلت إليه الزوجة، ترجوه العفو عن الولد، وأكدت له براءتها وبراءته معاً، ولكن الملك لم يصغ إليها، وأشار إلى الجلاد، يأمره بتنفيذ مهمته.
وتقدم الجلاد، يصحبه الخدم، فبادر هؤلاء إلى خلع قميص الولد عن جسده، وأحضروا الأغلال لتقييد يديه، فرأى الملك العقد الذي أهداه إلى زوجته في معصم الولد، فأشار إلى الخدم أن كفوا عنه، ثم بادر إليه يسأله عن حقيقة أمره، فروى له الولد حكايته بالتفصيل، فعرف فيه الملك ابنه، فضمه إليه وعانقه، وعفا عنه.
ثم أرسل إلى زوجته أم الولد التي كان قد خلصها من فيدوس، وكان أبوها قد توفي، وكانت قد ورثت العرش من بعده، فأحضرها إليه، وأفرد لها جناحاً خاصاً في القصر وضم بلادها إلى بلاده، وعين ابنه حاكماً عليها، وقد أصبح ملكاً على ثمانية بلاد.
ثم سمع ببلد مجاور لبلده يقتتل فيه أخوان على الحكم، فخشي أن يكونا أخويه، فأرسل إليهما يدعوهما إليه، فإذا هما أخواه، فلما عرفاه اعتذرا له، وتنازلا له عن الحكم، فضم بلادهما إلى بلاده، وعينهما وزيرين له، وعاش يحكم في الناس بالعدل، إلى أن وافاه الأجل.