بسم الله الرحمن الرحيم
> الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله:--
> أيها المستقبلون الكرام: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته:--
> أما بعد: فإني أحببت أن أودع معكم هذا العام الهجري الموشك على الرحيل بهذه الكلمة التي أسأل الله أن ينفعني وإياكم بها، آمين.
>
> عندما أرى مسارعتنا -إلا من رحم الله- في الإثم والعدوان، وإرضاء عدونا الشيطان، وإغضاب وإسخاط ربنا الرحيم الرحمن ذي الجلال والإكرام والعفو والإحسان والصفح والغفران -سبحانه وتعالى-: أجِدُ أن هناك سؤالاً يطرح نفسه بشدة:--
>
> ما هي المعاصي التي لا ينجو المسلم بسببها من النار؟!.
>
> فإن من المسلمين من لا يشاء الله يوم القيامة أن يعفو عنهم، وهم الذين كانوا موحدين ولكنهم ماتوا على غير توبة من معاصيهم، فيدخلهم الله النار ليتطهروا من خَبَثِهم ثم يكون مآلهم بعد الزمن الذي يشاؤه الله إلى الجنة.
>
> فهل الذين لم يتركوا صغيرة من المعاصي ولا كبيرة: قد وَّطَنوا أنفسهم على أنه ما دام مآل العصاة من الموحدين بعد النار إلى الجنة: فلا إشكال في انهماكنا في المعاصي وإمتاع أنفسنا بما تهواه وإن كان مُحَّرَماً يُغْضِبُ ربنا سبحانه وتعالى؟
>
> لا شك أن من يفكر بهذه الطريقة قد غَلِطَ وأخطأ وجانبه الصواب.
> فقد ثبت في صحيح مسلم برقم: "2807" ترقيم عبد الباقي، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة فيُصْبَغُ في النار صَبْغَةً ثم يُقالُ: يا ابن آدم هل رأيت خيراً قط؟ هل مر بك نعيم قط؟ فيقول: لا والله يا رب.
> ويؤتى بأشد الناس بؤْساً في الدنيا من أهل الجنة فيُصْبَغُ صَبْغَةً في الجنة فيُقالُ له: يا ابن آدم هل رأيت بؤْساً قط؟ هل مر بك شِّدَةٌ قط؟ فيقول: لا والله يا رب ما مر بي بؤْسٌ قط ولا رأيت شِّدَةً قط".
>
> فتبين من هذا الحديث الشريف: أن الإنسان لو مَلَكَ الدنيا بأسرها، وتمتع وتنعم بجميع شهواتها وملذاتها حلالها وحرامها: لم يكن ذلك كفيلاً بتهوين وتخفيف أَلَمِ صبغة وغمسة واحدة في النار فضلاً عن منع ألم النار أصلاً.
>
> وتبين أيضاً أن صبغةً وغمسةً واحدةً في الجنة تُنْسي أشد الناس تَعَباً ومعاناةً في الدنيا كل ما رآه من بؤسٍ وما مر عليه من شدائد.
>
> وهل يقول المُسْرِفون على أنفسهم بالمعاصي: إنه لن يكون معنا يوم القيامة التوحيدُ فقط، لا، بل سيكون معنا أيضاً صلاةٌ وصيامٌ وأعمالٌ أخرى صالحةٌ، وبذلك نكون في أمان من دخول النار؟!.
>
> فأقول لمن رَكَنَ إلى هذا الظن: كأنك لا تدري أنه سيدخل النار يوم القيامة موحدون مصلون صائمون معهم أعمالٌ صالحة.
>
> لقد ثبت في صحيح البخاري برقم: "7440" ترقيم فتح الباري، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر أن الناجين من النار من المؤمنين يوم القيامة يشفعون إلى ربهم -سبحانه وتعالى- في إخوانهم الذين دخلوا النار فيقولون: "ربنا: إخواننا كانوا يصلون معنا ويصومون معنا ويعملون معنا".
>
> وثبت في صحيح البخاري برقم: "6438"، ومسلم برقم: "182"، عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر أن الله عز وجل يقول للشفعاء من المؤمنين: "اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من إيمان فأخرجوه من النار، فيذهبون فيجدون أن النار قد أحرقت منهم كل شيء إلا أَثَرَ السجود".
>
> فدَّلَ هذان الحديثان على أن النار يدخلها موحدون معهم صلاةٌ وصيامٌ وأعمالٌ صالحة.
> فَدَعُوا عنكم هذه الظنونَ الخداعة، ولنسأل الله جميعاً العفو والعافية والمعافاة في الدنيا والآخرة.
>
> اللهم إنا نسألك الفوز بالجنة التي تُنْسي الصبغةُ الواحدةُ فيها كل ما مر في الدنيا من بؤسٍ وشدائد، ونعوذ بك من النار التي لا يمنعُ نعيمُ الدنيا كلهُ أَلَمَ صبغةٍ واحدةٍ فيها، آمين.
>
> أم هل يذهب المسرفون على أنفسهم إلى أبعد من كل ما ذكرناه آنفاً فيقولون بقول الفرقة المبتدعة الضالة -المرجئة- إنه: كما لا ينفع مع الكفر طاعة، فكذلك لا يضر مع الإيمان معصية؟!.
>
> إن هذا الظن والحُسْبانَ لا يزيد الظالمين إلا خساراً.
>
> لا، بل تضر المعاصي صاحبها مع وجود الإيمان والتوحيد والصة والصيام والأعمال الصالحة، كما رأينا في الأحاديث التي صَّرَحَتْ بدخول بعض المؤمنين الموحدين النار، وإن كان معهم بالإضافة إلى الإيمان والتوحيد أعمالٌ صالحةٌ.
>
> ولا يمكن لأحد معه التوحيد التام أن يتهاون بالمعاصي، نعم: قد تقع منه المعاصي، ولكنه لا يفرح بالظَفَرِ بها، بل تُحْزِنُهُ وتُؤْلِمُهُ، ويسارعُ بعد اقترافها إلى التوبة والاستغفار نادماً متوجعاً متؤلماً باكياً على ما فَرَطَ منه، مستجيراً بربه ومولاه من آثار تلك المعاصي في الدنيا والقبر والآخرة.
>
> إن التهاون بالمعاصي قد يَجُّرُ إلى نوعٍ خطيرٍ من الشرك، وذلك عندما تكون طاعة الله مطلوبةً، فيقف المتهاون المستخف بالمعاصي مرجحاً بين رضى الله وهوى نفسه فيرجح هوى نفسه على طاعة مولاه، وبذلك يكون قد أشرك هوى نفسه مع الله، ليس هذا فحسب: بل جعل طاعة هوى نفسه مقدمةً على طاعة ربه سبحانه وتعالى.
>
> وفي ذلك المعنى يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في ما رواه البخاري في صحيحه برقم: "2887" عن أبي هريرة: "تَعِسَ عبدُ الدينارِ، تعِسَ عبدُ الدرهم، تَعِسَ عبدُ القطيفة، تَعِسَ عبدُ الخميصة، تَعِسَ وانْتَكَسَ، وإذا شِيْكَ فلا انْتَقَشَ".
>
> فنَسَبَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مُطِيْعَ هواه إلى عبودية ما ذكره -على سبيل التمثيل لا الحصر- من دون الله.
>
> ثم أخبر عنه أو دعى عليه بالتعاسة وبأن لا يَجِدَ من يُغيثه إذا ابتُلِيَ بالمصيبة.
> فإن كان آخر الحديث خَبَراً: فإن خَبَرَهُ صلى الله عليه وسلم لا يتخلف لأنه الصادق المصدوق -صلى الله عليه وسلم-، وإن كان آخر الحديث دعاءاً: فيا وَيْلَ من دعى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
>
> وانظر في هذا الكلام لابن رجب -رحمه الله- لعل الله سبحانه ينفعنا به:--
>
> "وأوصت امرأة من السلف أولادها فقالت لهم: "تعودوا حب الله وطاعته فإن المتقين أَلِفوا الطاعة فاستوحشت جوارحهم من غيرها فإن عرض لهم الملعونُ بمعصية: مرت المعصية بهم محتشمةً فهم لها منكرون".
> ومن هذا المعنى قول علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- "إن كنا نرى أن شيطانَ عُمَر لَيَهابُهُ أن يأمره بالخطيئة".
> وقد أشرنا فيما سبق إلى أن هذا من أسرار التوحيد الخاص، فإن معنى لا إله إلا الله لا يُؤْلَهُ غيرُه حبا ورجاء وخوفا وطاعة، فإذا تحقق القلب بالتوحيد التام: لم يبق فيه محبةٌ لغير ما يحبه الله ولا كراهةٌ لغير ما يكرهه الله، ومن كان كذلك لم تَنْبَعِثْ جوارحُهُ إلا بطاعة الله.
> وإنما تنشأ الذنوب من محبة ما يكرهه الله أو كراهة ما يحبه الله وذلك ينشأ من تقديم هوى النفس على محبة الله تعالى وخشيته، وذلك يقدح في كمال التوحيد الواجب فيقع العبد بسبب ذلك في التفريط في بعض الواجبات وارتكاب بعض المحظورات. فإن من تحقق قلبه بتوحيد الله فلا يبقى له هم إلا في الله وفيما يرضيه".
>
> نقلته من شرح ابن رجب للحديث "38" من كتابه "جامع العلوم والحِكَم".
>
> وأنا على ثقةٍ بالله -سبحانه وتعالى- أن كلام ابن رجب هذا: لا يمكن أن يَمُّرَ على قلبٍ ذاق طعم الإيمان، إلا ويُحْدِثُ فيه أَثَراً بليغاً، خصوصاً: إذا أكثرنا من قراءته وتأمله.
>
> وأستشهد لآخر كلام ابن رجب بالحديث الذي رواه الترمذي برقم: "2465" عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
> "من كانت الآخرة همه جعل الله غناه في قلبه وجمع له شمله وأتته الدنيا وهي راغمة ومن كانت الدنيا همه جعل الله فقره بين عيينه وفرق عليه شمله ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له" صححه الألباني.
>
> إخواني: تعالوا -وقد أوشكت السنة على الرحيل- إلى توبة نصوح يمحو الله بها كل ما سلف من الذنوب، توبةٍ تتحقق فيها شروطها الستةُ:--
> 1: الإخلاص.
> 2: الندم.
> 3: الإقلاع.
> 4: العزم على عدم العودة إلى الذنوب.
> 5: أداء حقوق الله وحقوق المخلوقين.
> 6: وقوعها في وقت قبولها، وهو عام وخاص، فالعام وقوعها قبل طلوع الشمس من مغربها، والخاص وقوعها قبل الغرغرة أي وصول الروح إلى الحلقوم.
>
> إخواني: لقد قسم الله العباد إلى تائب وظالم، فمن لم يَتُبْ فهو من الظالمين، قال الله تعالى في الآية 11 من سورة الحجرات: "ومن لم يَتُبْ فأولئك هم الظالمون".
>
> وأمر الله سبحانه أصحاب رسوله محمد -صلى الله عليه وسلم- -ورضي عنهم- بالتوبة جميعاً بدون استثناء لأحد، وذلك بعد تسع عشرة سنةً من إيمانهم َوصبرهم وهجرتهم وجهادهم، فقال في الآية 31 من سورة النور: "وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تُفْلِحُوْنَ".
>
> فتعالوا إخواني إلى إرضاء الرحمن وإحزان وإسخاط وإرغام الشيطان في هذا النفس الأخير من أنفاس هذه السنة.
>
> إن الشيطان بنى من ذنوبنا في هذه السنة: أبنيةً شامخةً عاليةً وبروجاً مشيدةً، وكل هذه الأبنية يهدمها الله جَّلَ وعلا في لحظةٍ بتوبتنا النصوح إليه سبحانه.
>
> إن ابن القيم -رحمه الله- ذكر هدم الله تعالى لأبنية الشيطان في أبيات جميلة من ميميته، وذلك من بيت 53 إلى بيت 55، فقال:
>
> بنى ما بنى حتى إذا ظن أنه... تمكن من بنيانه فهو محكمُ.
> أتى اللهُ بنياناً له من أساسه.... فَخَّرَ عليه ساقطاً يتهدمُ.
> وكم قَدْرُ ما يعلو البناءُ وينتهي ... إذا كان يبنيه وذو العرش يَهْدِمُ.
>
> تعالوا نختم على صحيفة عملنا في هذه السنة -بسبب التوبة- بخاتم المغفرة والرحمة والعفو والفضل والقبول، بَدَلاً من خاتم ثبوت المعاصي واستحقاق العقوبة عليها.
>
> أسأل الله تعالى أن يوفقنا جميعاً لذلك، آمين.
>
> كتبه راجي عفو ربه: سعيد شعلان.
>
>